لن يحمل الجيش الذي لا يزال حاكما في مصر منذ عام 1952 على اتباع نهج الجيش التركي – أي الالتزام الجمهوري باجتناب السياسة (بعد طول عهد بممارستها) – إلا إذا حدثت تحولات عميقة في الثقافة السياسية، أولها أن يقوم أكبر حزب إسلاموي في مصر بمراجعات تمزيقية لإيديولوجيته البالية، بحيث يتحول فعلا إلى حزب وطني محافظ على غرار حزب العدالة والتنمية التركي، له من الاقتدار في إدارة الشأن العام وتحقيق التنمية الاقتصادية ومن الذكاء في النأي بالنفس عن محاولة خنق الحريات والتدخل في حياة الناس ما يجعله يتمتع بالشرعية الحقيقية: شرعية الجدارة.
إذ إن مأزق انعدام الحلول الذي تتخبط مصر فيه اليوم (والذي عبرت عنه الحكمة الشعبية بالقول: ‘يا ماشي مع الإخوان أو العسكر وفاكرهم هينفعوك، يا نايم جنب جوز أمك وفاكره أبوك’) ليس ناجما عن وجود جيش لا يزال يعتقد بأحقيته في الحكم أو في تقرير نوع الحكومة المقبولة (أو في السيطرة على 40 بالمائة من الاقتصاد المصري!) فحسب، بل إنه ناجم بالقدر ذاته عن وجود حزب إسلاموي ذي قاعدة شعبية عريضة ولكنه حزب عديم الكفاءة، ماضوي الفكر خشبي الخطاب -حزب برع في استعداء قطاعات واسعة من المجتمع المدني وإصابتها بالإحباط إلى حد جعلها تقبل بالانقلابات العسكرية وترحب بأي نظام حكم، أيا كان جنسه، طالما أنه ليس نظاما إخوانيا.
بسبب هذه الازدواج النكد بين جيش لا-جمهوري غير قابل بالحكم المدني المنتخب وبين حزب إسلاموي غير ذي قدرة على إدارة الدولة، لم يمض عام واحد حتى بلغت تجربة الانتقال الديمقراطي في مصر نهايتها. بمعنيين. أولا، بمعنى أن مصر قد انتقلت من المرحلة الانتقالية أو المؤقتة إلى مرحلة الشىء المعتاد. ثانيا، بمعنى أن تجربة الدخول في الديمقراطية سرعان ما انتهت بالخروج منها، أي بانتهاج النظام اللا- ديمقراطي المعهود الذي انعقد أمل الثورة الشعبية على نقضه إلى الأبد. وهذا ما أرهصنا إليه هنا قبل أسابيع عندما قلنا إن شبحا يخيم على الثورات العربية هو شبح روسيا البوتينية، حيث أن اليأس الاجتماعي ‘قد ينتهي بنسف أسس اللعبة السياسية الحالية (ديمقراطية الانتخاب المفضي إلى فئوية السلطة أو فوضويتها). ذلك أن من طبيعة اليأس الاجتماعي أن يفاقم الحاجة إلى الزعيم المنقذ أو النظام القوي الذي يحقق للناس – مقابل الحزم (أو القمع) – مقومات الحياة الكريمة في ظل الدولة الحامية’.
وهذا من الاعتبارات التي جعلت محرر مجلة سبكتايتور البريطانية فريزر نلسون يكتب أخيرا أن الثورات العربية لم تندلع للمطالبة بالديمقراطية، وإنما بالحرية. وينقل عن مارغرت تاتشر القول بأن ‘الديمقراطية لا تكفي – إذ ليس في وسع الأغلبية أن تحول الخطأ إلى صواب’. ذلك أن الحرية (بما فيها حرية طلب الرزق والسعي في تحسين ظروف المعيشة) إنما تتوقف، في رأيها، على مدى متانة المؤسسات: سيادة النظام العام والقانون المنصف للجميع، الإعلام الحر، الشرطة المنضبطة والجيش الذي يخدم الحكومة بدل أن يراقبها. ويرى نلسون أن التاريخ قد أثبت صحة مقولة تاتشر في كل من روسيا، وأفغانستان، والعراق والآن في مصر. ذلك أن ‘واجهة الديمقراطية يمكن أن تكون مضللة أشد التضليل. أما نهوض الأمم أو سقوطها فلا يتوقف إلا على مدى متانة المؤسسات’.
الله يعطيك العافية .العسكريون هم الحاكمون الفعليون وراء الستار وميزانياتهم هي الاضخم بحجة حماية البلاد من العدوان الخارجي. يجب ضبط العلاقة بين العسكر والسياسة في البلاد العربية.