الكراهية تعمي عن الحقيقة. إذ غالبا ما تؤدي الكراهية إلى تصور الشخص المكروه تجسيما لكل عيب ومذمّة. وإذا ما قال شيئا، عدّ قوله كذبا أو خطلا، أي باطلا مظلما لا تتخلله ومضة من حق أو صواب. ولا يتعلق هذا الموقف المعمي عن الحقيقة بالكراهية الناجمة عن الاحتكاك الشخصي المباشر فحسب، بل إنه يشمل كذلك الكراهية السياسية والحزبية والدينية والقومية، وما يرتبط بها من تعصب أو عنصرية.
ولا ينفي هذا أن هنالك من رجال السياسة من اتخذوا قرارات وارتكبوا جرائم توجب كراهيتهم، أو على الأقل عدم تقديرهم. لذلك كان من الطبيعي ألا يحظى جمال باشا، مثلا، ولا آرثر بلفور ولا مارك سايكس (شريك جورج بيكو في اتفاقيات تقاسم المشرق العربي بين بريطانيا وفرنسا) بأي تقدير أو محبة في البلاد العربية. ولو أن العجيب أن هذا الموقف لا ينطبق على الطغاة المحليين. إذ ليس هنالك إجماع شعبي على كراهية صدام، مثلا، أو القذافي أو مبارك أو بن علي. بل إن من العرب من كان يحبهم، ولا يزال. والأعجب أن هؤلاء المحبّين لا يحبون خوفا أو طمعا فقط، ذلك أن ثباتهم إلى اليوم على ما هم فيه من «حب مستكنّ لا يريم»، حتى بعد سقوط الطاغية أو هلاكه، إنما يشير إلى أن الحب العذري الخالص لم ينقض من هذه الدنيا. ولله في خلقه شؤون.
أما قائمة الشخصيات السياسية الغربية المعاصرة الأشد عرضة للكراهية في البلاد العربية، فلا شك أنه يتصدر طليعتها اسمان هما: جورج بوش وتابعه توني بلير، مع إمكانية إضافة اسم ثالث هو: دونالد ترامب. وأعترف أني مقتنع منذ عام 2003 بأن السياسي الجدير بالاحتقار (على وزن «جدير بالاحترام»!)حقا هو توني بلير. لماذا؟ لأنه يتميز على بوش وترامب بالمعرفة والبراعة وبالشغف الحقيقي بالشأن العام وبالقدرة على الابتكار في الخطط والأفكار وبأصالة الانتماء إلى الحداثة والليبرالية. ولكن رغم كل هذه المزايا، فإنه ارتضى التبعية المطلقة لبوش لا في شن «الحرب الاختيارية» على العراق فحسب، بل والتبعية له في سائر نزعاته ونزواته (على ما فصّله السفير البريطاني السابق في واشنطن كريستوفر ماير في كتابه عام 2005).
«حزب كراهية أوروبا» كراهية مأتاها الإيمان بجوهرانية الاختلاف بين الجزر البريطانية والبرّ الأوروبي
إلا أن هذا لا ينفي أن بلير كثيرا ما يكون على صواب في ما يتعلق بالسياسة الداخلية. أما بشأن العلاقة مع الاتحاد الأوروبي فإنه من أكثر الأصوات تعقلا. وقد كان ما كتبه في الصحافة قبل أيام نموذجا في صفاء الشرح وقوة المحاججة بشأن وجوب عقد استفتاء ثان لتمكين الشعب البريطاني من اتخاذ قرار مستند على المعلومات الصحيحة التي صارت متوفرة الآن، وليس على المغالطات والأباطيل التي روجتها بروباغاندا أوساط البركسيت التي تعرف منذ عقود باسم «اليوروسكبتيك»، أي المتشككة، أو المرتابة، في أمر أوروبا، ولو أن من الأدق تسميتها بـ«حزب كراهية أوروبا» إلى حد العمى عن أبسط الحقائق. كراهية ايديولوجية عميقة مأتاها هو الإيمان بجوهرانية الاختلاف بين الجزر البريطانية والبرّ الأوروبي، ونتيجتها هي الأزمة الوجودية التي تعصف بحزب المحافظين، منذ بدء العضوية البريطانية مطلع 1973، والتي صارت مذّاك هي السبب الأصلي لسقوط كل رئيس حكومة محافظة.
ويتلخص موقف بلير في أن التصويت للبركسيت قد كان قائما على مجرد ظن استطاعة طرد جميع الأوروبيين (حوالي ثلاثة ملايين وثمانمائة ألف): أي تحقيق هدف ثقافي هو استعادة الهوية (المهددة!) وهدف اقتصادي هو إنهاء البطالة بمنح البريطانيين ملايين الوظائف التي ستصبح شاغرة. كما كان قائما على مجرد ظن إمكانية توفير 350 مليون جنيه إسترليني أسبوعيا لأن البروباغاندا أشاعت أن هذه هي الثروة التي تجود بها لندن على بروكسل كل أسبوع تكرّما وتفضلا!
لقد كان البركسيت مستندا على مثل هذه «المعلومات» التقريبية حينا والخاطئة أحيانا. أما اليوم وقد تبينت الحقائق، فإن المنطق السليم، حسب قول بلير،»يوجب السؤال: أفما زال الشعب البريطاني، في ضوء كل ما نعرفه الآن، يريد المضيّ في مسار البركسيت، أم أنه تدارك أمره وصار يريد البقاء ضمن الاتحاد؟».
كاتب تونسي