ديوان «أسماؤك كثيرة وخبزنا قليل»… أجراسٌ للصمت تغني لصوت العدم

حجم الخط
0

في نصوص الشاعر والروائي اللبناني بلال المصري، تتكرر ثيمات: الموت والحياة، الحضور والغياب. الوجود والعدم، كأنها ثنائيات أثيرة عند الكاتب، أو لنقل ثيماته الأثيرة. من حدقة مُتأملة ينطلق بلال المصري، شاعرا ومسرحيًا وروائًيا، مشحونًا بلغة جميلة، تُعلي من شأن الوجود ومن شأن العدم أيضا. هل للعدم «شأن»، مثلما للوجود «شأن»، في نصوص بلال المصري، العدم أيضا له «شأن» وله ما يمكن أن يُحدثه في سياق اللحظة والآتي. بإمكان العدم أن يتأثث برغبة صوبتها نحوه شرارة الوجود، أو حَقَنتهُ بها وأمدته ببعض مصلها وأوصالها.
قدرة الشاعر بلال المصري تتجلى في تأثيث الخراب الروحي بما تيسر من رغبات وحيوات، وتتجلى أيضا في ترميم شروخ الوجود، بما تيسر من رؤى ومن احتمالات. وأكثر من هذا تتجلى في قدرته على جعل العدم حالة جمالية في النص، لكنه خارج النص لا عدم، ولا حتى بمنسوبٍ قليل من العدمية. للعدم شأن في النص، وله ما يفعله بكثير من العبث المُثمر أو بكثير من الشغف. يحتاج النص العدم كي يكون ذا شأن ربما، ويحتاجه كي يكون نبيًا من سلالة اللغة والقواميس البكر، لكنه خارج النص يتحول إلى ذكرى مُلقاة/مُزدانة في/وبـ: بهاء الشعر.
في ديوانه الجديد «أسماؤك كثيرة وخبزنا قليل»، الصادر منذ أيام في الجزائر عن دار «الوطن اليوم»، يذهب الشاعر إلى الإعلاء من شأن اليومي بكل تفاصيله الصغيرة والمُربكة أحيانا. كما يذهب إلى إعلاء شأن الآخر في الذات، وشأن تفصيلات الحياة والعُزلة والوحدة والذوبان في الآخر.
في نصه الأول «هذا ليس قلبك وحدك إنه أيضاً معطفي..»، نفحات شفافة من الصوفية، الصوفية التي تلامس الروح وتتربع على عرش الذات/الآخر في لحظة احتواء طاغية، ذاك الاحتواء الذي تتسع معه الرؤية والعبارة، وتتآلف معه تفاصيل الحضور والغياب، لدرجة الالتحام/الانفصال. شعرية مُنسابة في النص تلف اللغة والحالة معًا: «يا للسخرية.. معي ستكون وحيداً، مثل خاتم في إصبع السماء أو حجر في قلب البحيرة/معي، ستكون دون نفسك/ سأجلس بيني وبينك لنراقب الأرض وهي تذوب/ لا تقطف لي وردة لا تقل كلمة أنت وحيد معي!».. إنها مفارقة اللغة والحالة، مفارقة الرؤية والعبارة. في نص بلال المصري ذاك الذكاء الوجداني الوجودي الطافح بحرارة الأسئلة، والمُوشى بتواشيح العدمية المُحببة في النصوص. يذهب إلى خلخلة قناعة انتماء الناس، ويُربك دفة الانتماء المُترامية بين وهمين أو فكرتين: «النفس والطين»، في إشارة إلى بدء التكوين والخَلق الأول وبَركات الطين في الإنسان، وهذا في صياغة جميلة تُشكك في ما يظنه الإنسان عن كونه، عن بدئه، عن صيرورته: «يظن الناس أنهم أنفسهم وهم طين».

ومثلما تحضر الصوفية بكثافة في نصوص بلال المصري، تحضر أيضا ظلال العدمية السيريالية: «أأكل من لحمك وتأكل من لحمي لنكتشف أن الوحش ليس كائناً آخر غير الإنسان. كأنه شجارٌ بين العدم والوجود!».

حتى عنوان القصيدة فيه تلك الصوفية المجبولة على/وفي وبــ: عشق التوحد في الآخر، ما يشبه الذوبان والانصهار، والسَكن كيانيًا ووجدانيًا وعقليًا فيه وفي دواخله، إلى حد اليقين والقناعة بأن قلب الآخر القريب، ليس قلبه وحده، إنما هو أيضا معطفه. وهي صورة في غاية الشعرية والشاعرية، وفيها كل تجليات الدلالة والإحالة، وللمعطف دلالات وإحالات تضفي بشفافيتها وسياقاتها التوظيفية على مستوياتٍ عدة. مستوى: الروح، الحب، العاطفة، الاحتماء، الاحتواء…. فإن يكون القلب معطفا نحتمي به وفيه، نسكن فيه وإليه، نغوص فيه ونلوذ به. فهذا ما يمكن القول إنه قمة التجلي الشعري/ قمة التجلي العاطفي الإنساني. فالوجود كله أصبح في حضن معطف.
«دوني تجر عربة الأيام لتصل، ينقصك خطواتك وطريق، دوني لن تصل إليك»، هذا المقطع أيضا فيه منسوبٌ كبيرٌ من الصوفية، فالآخر بدونه تجره عربة الأيام ليصل، لكن تنقصه خطواته وطريق، هذا الآخر لن يصل دونه إليه. إنها إرباكات الوصول، وإرباكات الطريق بلا اكتفاء بــ/في الآخر بلا اتكاء على الآخر، الآخر هو الذات في أصفى تجلياتها. ولن يصل لأن ما ينقص هو خطوات وطريق. على الخطوات أن تبتكر طريقا لتصل، وعلى الطريق أن يُهيئ ما يمكن من أجل خطوات تنشدُ الوصول. إنها فلسفة مُغرقة في الصوفية، وصوفية مُغرقة في الفلسفة. وهذا ما اشتغل عليه الشاعر بذكاءٍ كبير، ذكاء أثمر نصوصًا جميلةً وأنيقةً في صورها ومجازاتها.
تتواصل بوتيرة الفن والشعر إحالات الروح والمعنى: «لا وراء خلفي، كلما تقدمت عدت، وكنت معك، هكذا الموج كان أول مرة، لا صورة لي لتهتز إن رأيت نفسك رأيتني». إنه أيضا تواصل/استمرار التجلي في الآخر، «إن رأيت نفسك رأيتني» لا رؤية واضحة ومُتسعة للنفس إلا من خلال رؤية الآخر، ولا سكن إلا السكن في الآخر: «ليس عندي بيت أنا أسكن فيك». هذا ما تذهب إليه نصوص بلال المصري، في معانقةٍ لنصوص المتصوفة القُدامى، لكن ببصمة خاصة به، إنها بصمة بلال المصري، بصمة لا تشبه إلا روحه، ونصوصه، ورؤاه. حتى في عناوين القصائد تحضر الصوفية وتتجلى في أبهى صورها: «أحج إليك بعضي يطوف وبعضي يسعى». صوفية حالمة، شفافة وشفيفة.
ومثلما تحضر الصوفية بكثافة في نصوص بلال المصري، تحضر أيضا ظلال العدمية السيريالية: «أأكل من لحمك وتأكل من لحمي لنكتشف أن الوحش ليس كائناً آخر غير الإنسان. كأنه شجارٌ بين العدم والوجود!». في هذا النص، تتبلور أكثر فكرة/ثيمة/ثنائية العدم والوجود، التي يذهب الشاعر إلى تشبيهها بالشجار. كأنه شجار بين العدم والوجود، لكن الوجود هو المنتصر في الشجار وهذا ما نلمسه في هذا المقطع «وابتلي كل يوم بالحياة». كما يسخر من العدم ويرشقه بالطماطم: «أسخر من العدم، أركض خلفه أرشقه بالطماطم».
أيضا في الكثير من نصوص المصري في هذا الديوان «أسماؤك كثيرة وخبزنا قليل»، وحتى في دواوينه السابقة، وفي مسرحياته هناك نشيدٌ متواصل للعزلة والوحدة والخسران، هناك عدمية، لكنها عدمية مُنتجة، عدمية تُضيء ولا ترش العتمة في الجهات، فأسئلة العدمية كثيرا ما تكون فاتحة لإجابات من نور، أو لنقل كثيرا ما تلقي الضوء على ما هو مُربك وشائك في الواقع والوجود والحياة.
ما نخرج به أيضا بعد قراءة نصوص الديوان أن الكتابة غير خاذلة، إنها تُعطي الكاتب بقدر ما يمنحها من طاقة وشغف وعاطفة ورغبة. وهذا ما نلمسه ونحن نقرأ لبلال المصري، إنه يمنح الكتابة روحه، وكل نبضه/طاقته/شغفه وعاطفة منسابة ورغبة لا تكل ولا تمل.

٭ شاعرة وإعلامية من الجزائر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية