لعل أولّ ما يقع في ظن القارئ، أني تخيرت هذا العنوان لما فيه من جناس لفظي أي تشابه لفظين على اختلاف المعنى؛ وليس الأمر كذلك تماما، فما تقصدته هو «الجناس اللفظي المعنوي»، وهو اصطلاح قد أكون أول من يستعمله؛ وقد يحمل على أنه إضمار أو تورية. والمسوغ لذلك هذا «الماء» الذي يتحدر في الشعر والشرع على اختلافهما؛ من غمام واحد. أما في الشعر فكلنا أو جلنا يعرف عبارة الجاحظ الشهيرة في تعريف الشعر، فقد حده في ستة عناصر هي، إقامة الوزن وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وصحة الطبع، وكثرة الماء، وجودة السبك. واقتصر منها على «كثرة الماء» وهو ما هو في الشعر والبحر الشعري والإيقاع، أو على قول أبي تمام: «وكيف ولم يزلْ للشعر ماءٌ/ يرف عليه ريحان القلوب». وأما الشرع فهو من «شرع» أي تناول الماء بفيه. وشرعت الدواب أي دخلت في الماء. والشريعة والشراع والمشرعة: المواضع التي ينحدر إلى الماء منها. وبها سمي ما شرع، أو سُن مثل شريعة الصوم والصلاة والحج والنكاح وغيرها. والشرعة والشريعة في كلام العرب هي مشرعة الماء، وهي مورد الشاربة التي يشرعها الناس فيشربون منها ويستقون، والعرب لا تسميها شريعة حتى يكون الماء فيها لا انقطاع له، بل عرفوا الشريعة من حيث هي موضع على شاطئ البحر تشرع فيه الدواب، وقالوا إن الشرائع والسنن وسائر أعمال البر مشتقة من شاطئ البحر. وكذلك الشعر عندهم، فهو في كثرة الماء وجريانه وسيولته؛ وإلا عد نظما أو «تشعيرا».
هذه ناحية كان لابد من توضيحها توطئة لما أنا فيه، وثمة ناحية أخرى يحسن الوقوف عليها، ولو بإلمامة خاطفة. وهي هذا الظرف «بين» فهو بحسب اصطلاح أهل اللغة ظرف مكان بمعنى «وسط». ولكنه في السياق الذي أنا فيه، يتحدد للزمان أو المكان معا، على ما تقتضيه «البينية»؛ فهي تستلزم الاتصال والمباشرة، من منظور؛ مثلما لا تستلزمهما من منظور آخر، إذ يمكن أن تكون انفصالا وقطيعة، وقد اخترت، حتى أظل في الصميم من هذه المسألة، ولا يتشعب بي البحث في ثنايا معرفية لست مؤهلا للخوض فيها؛ أن أقصر الموضوع على الشعري والشرعي في ضوء ثقافتنا عامة؛ أي على مقتضى قانون «التناسب الوضعي التوالدي»، الذي يصل بين الفنون والعلوم، في وحدة الثقافة العربية.
وهو التناسب الذي اتخذ بمقتضاه، كل فن من الفنون الشعرية والأدبية والحكمية، زيادة على كيانه الذاتي، قواما تناسبيا في ما يصل عامة الفنون بعضها ببعض، وهو «المعرفة العالمية الكلية»؛ فإن كل علم من علوم العرب، اكتسب من استناده إلى العلوم الأخرى من فصيلته، ومن غير فصيلته، ما جعله في غاياته واستعداداته مرتبطا بوضع عام تتصرف بمقتضاه تصرفا تناسبيا توالديا، بعبارة الفاضل بن عاشور في مقدمته لـ»منهاج البلغاء وسراج الأدباء» لحازم القرطاجني.
كان الشعر ـ وأقدر أنه اللغة الأم ـ بسبب من حفاوة العرب به، وحسن اعتقادهم فيه، يؤسس المعرفة بالقدر ذاته الذي تؤسس به المعرفة الشعر، وكان عندهم منذ أن وعته ذاكرة الرواة والنقَلة، أشبه بمدونة تاريخية. وبه كانوا يقيدون مآثرهم ومفاخرهم، ويؤرخون أخبارهم وحوادثهم، وما يعرض من شؤونهم، وما يتداولون من أحوالهم، وربما لا مسوغ لذلك، سوى أن حفظ الشعر من غواشي العصر وتقلباته، كان عندهم من حفظ الشرع، أو الدين نفسه على نحو ما يؤكده الحديث النبوي، «إن من الشعر لحكمة ، فإذا ألبس عليكم شيء من القرآن فالتمسوه في الشعر، فإنه عربي». لكن على تعدد هذا الحفظ وتنوع طرقه، إذ كان تخليده في رحب آفاقه وبعيد آماده، هو من تخليد النوع، على اختلاف سبله وألوانه. وقد لا يكون هذا بالمستغرب في ثقافة «شفهية» كثقافة العرب في طورها الجاهلي، أو ما «قبل الكتابي»، وإن لم تكن شفهية خالصة، كان فيها التاريخ قصصا للحروب والغزوات، ومعرضا لحوادث الماضي، هذا الغامض الذي لا ينضب غموضه أبدا، وليس تاريخ وعي يتخير موضوعاته، ولا هو كان «علما» يشتمل على تصورات كلية، يستطيع بها أن يتحكم في الخاص التاريخي، أو هو يعيد تفسيره وتأويله. فكانت القصيدة ذات بنية سردية استطرادية، تقوم على صيغ ورواسم مكرورة، من شأنها أن تحفظ المعرفة، وتخزنها في الذاكرة، وتؤمن ذيوعها وتداولها. ولا نظن أن هناك من ينكر أن الفصحى تدين للشعر بالكثير من قواعدها وقوانينها وسننها ولطائفها، مثلما تدين له الثقافة بالكثير من أنظمتها الرمزية، حتى إذا سلمته الذاكرة إلى زمان الكتابة، وانتسخت صورة الشاعر من ظل لقوى أسطورية تسيطر على الوجود، وتتحكم فيه، إلى صورة الصانع الماهر، وتدرج المجتمع من ثقافة شفهية، إلى ثقافة كتابية، حد العرب الشعر بحدود الصناعة التي ينضوي إليها، ولم يجعلوه غريما للشرع، بل كان عندهم شاهدا لفصاحة القرآن وبلاغته، ومسوغا لغريبه ومجازه و»إعجازه» وشتى قراءاته، حتى أنهم جعلوا الدين بمعزل عن الشعر، وأخرجوا مبالغات الشعراء من تلبيس الكذب، وردوها إلى خصائص الشعر والاقتدار على صنعته، لأن ما استحسن في الصنعة، لا يُستقبح ضرورة في العقل أو الشرع.
الأديان كلها تتوسل بالشعري لغة وأداء. يقول هاملتون جب: «إن الكنيسة المسيحية لجأت إلى عون الموسيقى لتعليَ من التوتر الشعوري في الصلوات، وإن الإسلام كذلك طور فن القراءة المرتلة للقرآن، كي يشحذ من قدرته على اجتذاب الخيال والشعور».
إن العلاقة بين الشعر والعلم بمعنى المعرفة، قديمة في تراث العرب، على الرغم من أن كلمة «علم» محفوفة في هذا التراث بغموض غير يسير، فقد تعني اليقين ومعرفة الدين، وعدم اتباع الظن، والسير على الهوى، وقد تعني المعرفة بإطلاق القول، أو استخراج المعاني من المحسوسات وتجريدها في الذهن، أمورا كلية عامة، أو البحث في خواص الأشياء وطبائعها، أي تلك التي يتقرر اليقين بها من الحس والعقل والمشاهدة والتواتر. وقد تعني الخطاب التعليلي المرتهن بمقدماته وحسن استدلاله، أو ما نسميه المعرفة البرهانية، إذ ظلت فكرة العلة عند القدماء، أو أكثرهم، صنوا ملازما لفكرة العلم، وظل العلم صنوا للعقل، من حيث هو حساب وضبط وقياس وتوازن وتناسب. فلم يكن المقصود بالعلم الاصطلاح الحديث المرتكز على وعي العلم بذاته، من حيث هو مجموع المعارف والدراسات القيمية، التي تتأسس على القواعد، وتنبذ الأحادية والإطلاقية؛ وتخرج «الحقيقة» من نسقيتها، لتجعلها تابعة للنسق.
لنقل إذن إنها علاقة قديمة، وإن اعتراها الغموض واللبس، وعلى أُس منها تحررت المقالة «الشعر ديوان العرب وعلمهم الذي ليس لهم علم أصح منه» وأقدر أنها لا تزال صالحة، على الرغم من ظهور أجناس أدبية أخرى مثل، الرواية والقصة والمسرحية، وقد حظي نجيب محفوظ وهو كاتب عظيم بجائزة نوبل، ولكن الذي يعيش في وجداننا اليوم هو محمود درويش وليس محفوظ. على أن كلمة شعر نفسها لم تسلم هي أيضا من الغموض، وكان الشعر يُقرن بأجواء الغيب والإلهام، مثلما كان يُقرن بمفهوم الخلق والصنعة والمحاكاة، وضوابط الوزن والمعنى واللفظ، وما إلى ذلك مما هو ذائع في المدونتين النقدية والفلسفية، بل في مصنفات الإعجاز، كما هو الشأن عند الباقلاني وعبد القاهر الجرجاني.
والأديان كلها تتوسل بالشعري لغة وأداء. يقول هاملتون جب: «إن الكنيسة المسيحية لجأت إلى عون الموسيقى لتعليَ من التوتر الشعوري في الصلوات، وإن الإسلام كذلك طور فن القراءة المرتلة للقرآن، كي يشحذ من قدرته على اجتذاب الخيال والشعور». ويقول هنري ميشونيك إننا إذ نترجم رواية لبلزاك أو فصلا لهيغل، فإنك تترجم قصيدة، لأن القصيدة هي كل ما يغير الفكر؛ فهي شكل حياة يغير اللغة، وشكل لغوي يغير شكلا من أشكال الحياة. والروايات العظيمة، هي روايات لأنها تحمل قصيدة في مطاويها، والآثار الفلسفية العظيمة يجري فيها ماء الشعر هي أيضا. والتوراة هي كذلك في تقديره نص له خصوصيته الشعرية، لكنها اعتبرت لسوء الحظ من المدونة الدينية، وليس الشعرية بالمعنى الواسع لكلمة شعر. وأقدر أن الكتب الدينية الأخرى مثل الإنجيل والقرآن وغيرهما، تجري في هذا المجرى. وثمة عبارة للباقلاني وهو من كبار علماء الإعجاز تغزز من وجاهة هذا الطرح، فهو يقول تعقيبا على الآية «وما علمناه الشعر…» إنه قول محمول على أنهم نسبوا النبي إلى أنه يشعر بما لا يشعر به غيره، من الصنعة اللطيفة في نظم الكلام، لا أنهم نسبوه في القرآن إلى أن الذي أتاهم به هو من قبيل الشعر، الذي يتعارفونه على الأعاريض المحصورة المألوفة، أو أنه قول محمول على ما كان يطلقه الفلاسفة على حكمائهم في وصفهم بالشعر، لدقة نظرهم في وجوه الكلام . ويخلص الباقلاني إلى أن الآية ما حملت على الوجهين، كان ما أطلقوه صحيحا، فنسبوا النبي إلى الشعر لهذا السبب.
٭ كاتب تونسي
اروع كاتب في جريدة القدس العربي.
لعل هذه التسمية ما زالت متداولة في فلسطين، لكنني ما زلت أذكر أنني في أيام الطفولة و المراهقة كنت أسمع بعض الكبار حينها و هم يشيرون إلى نهر الأردن بإسم “الشّْريعة” و رغم حيرتي بسبب هذه التسمية فإنني لم أكلف نفسي عناء السؤال عن أصلها لأنني اعتقدت أنها مجرد كلمة عامية لا علاقة لها بالفصحى.
ملاحظة خاطفة،
استعمال لفظتي «الشعري» و«الشرعي»، هنا، يشير إلى ما يُسمَّى بـ«الجناس التصحيفي» Anagram، في هذه الحال. وتدخل إلى هذا النوع من الجناس كذلك ألفاظ تستخدم نفس الحروف، ولكن بتراتيب متباينة، من مثل «العشري» و«العرشي»، إلى آخره. / مع التحية للأخ منصف.