بغير قليل من التوجس، يعاين العمل الشعري المعنون بـ»داخل جوزة مكسورة « للشاعر البحريني أحمد العجمي، ما يتردد عليه من قراءات، تمتلك كل منها مداخلها المفضية إلى فضاءاته الدلالية. فثمة قراءات قد تجبره على الخضوع لسلطتها النظرية، فيكتفي بترديد ما تمليه قناعاتها عليه. فيما ثمة قراءات مغايرة، تتمتع بقدرتها على الإنصات المتأمل والعميق، ما يتيح للعمل ذاته، إمكانية المساهمة التلقائية في البوح الحر، بما يتخلل لغاته من إشارات. وبين النموذجين معا، تمتد مسافات شاسعة من التباين والاختلاف، التي من شأنها تعميق واقع تعارضهما المعرفي، والذهاب به إلى أقصى مداه. ذلك أن أهمية الإطار النظري، لا تتمثل في ما يتضمنه من قوانين، بقدر ما تتمثل في قابليته للاستجابة إلى ما تمليه انتظارات الإنصات، المعنية أساسا بتبين ما يومئ به العمل من إشارات. (كل نظرة على الخريطة/تولد سرا جديدا).
إن ديوان «داخل جوزة مكسورة « غير معني بتوصيل رسالة فكرية أو أخلاقية، إنه بدل ذلك يستدعي القراءة المتحررة من ثقل موروثها، كي تندمج معه في رحلة بحث مشترك عن لغة مختلفة، تنسجم مع راهنية سؤالها. ولعل جمالية هذا البحث، تكمن أساسا في المفارقة التي تتميز بها فضاءات العمل، حيث الأشياء تعلن عن حضورها تحت أبصارنا، في صيغة غياب، نكون معها على معرفة شبه تامة بهويتها في ذاتها، لكننا في الوقت ذاته، لا نمتلك تصورا واضحا عن طبيعة العلاقات التي هي مقبلة على نسجها في ما بينها. (إلى من هناك في مغامرة أخرى/أنا موجود /أرسل جزئيات من نظراتك/وأرقاما واضحة لخلاياك/كي أقرأها صامتا).
أيضا، هناك ما له صلة ما بأسئلة القراءة، في الحدود التي تضعنا على مشارف اللامتوقع، وهنا تحديدا تكمن جمالية «داخل جوزة مكسورة». ونعني بها جمالية استشراف هذا اللامتوقع، دون الاطمئنان إلى إمكانية التأكد من حقائق ما يوجد فيه. وتلك هي الجمالية الفعلية لجوهر الشعري، جمالية لا يفضي بك المطاف فيها إلى حد نهائي، إلى أرض معلومة، أو تخم موصوف. (يعرج البراق من فم الليل/ليخترق الأعشية الفاصلة/بين عوالم المكان واللامكان).
إنها جمالية الترحال الدائم، المتعقب لمشهد لا يتشكل إلا من أجل أن يتفكك من جديد، فلا يبقى سوى الأثر الممعن عمدا في تصعيد لعبة تحجيب الشيء. والأثر هنا، هو الأصل في هيمنة الالتباس، بما هو مجال لتجديد هاجس طرح السؤال، وبما هو مجال البحث عن الملاذات الشعرية المفقودة التي ربما تتخلص بها الذات – ولو مؤقتا – من المنافي القسرية التي تطاردها بها رتابة اليومي. هناك، حيث تتجرأ اللغة عن مكاشفتك ببؤسها، وبعجزها عن قول شيء آخر، عدا ما لا يكف واقع الحال عن تكرارها ببرودة الموتى، لذلك، فإنها ومن عمق «الجوزة المكسورة» تدعونا لمغامرة البحث معها وبصيغة أخرى عن ذلك المتأبي، عله يكون قليلا (ومثلما هي في الكلمات/ وضع الله معاجزه في الكيمياء). هكذا وبمعية القراءة التي تشقى وتسعد بالهموم نفسها، تمارس الكتابة الشعرية جمالية بحث مشترك، مغرق حتى الثمالة في سحر ذاتيته، عن حقائق أخرى لواقع آخر، قوامه استثمار طاقات اللغة المحتجبة، في توظيفات مستحدثة كفيلة باستشراف آفاق المجهول.
(إلى الوراء تمشي اللغة/ المشتركة بين/المقدس والنسيان/كحيوان ملجوم/لا وجه له) إنه البحث الجمالي الهادف إلى تكسير طوق «الجاهز» المتحكم في حركية العالم، والهادف إلى تقديم أجوبة ممكنة لما يحدث هناك، من خلال اكتشافه لمصائر لغوية مغايرة، قد تسمح بتكسير الطوق، والحد من هيمنته، خاصة أن الأشياء الأساسية، تحدث بفعل قوى أكثر هيمنة وأكثر تسلطا. (إنها الرايات التي تقود/ إلى مغزى الإيقاعات المبهمة/ في رئة النهار).
إن الاشتغال باللغة المشتركة نفسها، يفيد عمليا السقوط في مغالطات الاشتغال بالمصائر نفسها، وبالحدود المرسومة سلفا، باعتبار أن الوعي بإشكالية اللغة الشعرية، هو في حد ذاته وعي بحقيقة الوجود، الذي يتموضع بشكل تام داخل أرض اللغة. (أخيرا / إلى زهرة الوجود ينعطف بصري، دون مبالاة بهذا الدوار) فالنص الذي لا يمتلك لغته الخاصة به، هو نص يفتقر إلى حظوة الوجود. (يصر الاصطفاء الشريف/على تخليص الأغصان/لتخليصها من الصدأ). وهنا تحديدا، ينهض سؤال المعرفة، تلك المراهنة على إعادة النظر في مفهوم الآني والظرفي، بما يحيل عليه من مشترك مبتذل، بحثا عن آني بديل، مندرج في إيقاع يومي مغاير، تسود فيه شعرية الذات التي هي بامتياز شعرية الآخر. وهو السياق الذي يتحول فيه الآني إلى لحظة إشكالية، تتماهى مع لحظة وجود، يفسح فيها يومي الحياة مكانه ليومي الحالة الشعرية. (أيتها الصخور الدامية/أيتها المعادن الخرقاء/كيف طورت جواهرك/داخل الغرف والمخاضات؟). ويتعلق الأمر هنا، بمقامات القول المتباينة، من حيث علو ورفعة مراتبها. فكلما تقدمت الذات في البحث عن ضوء العبارة، إلا وعلت مكانة الإشكالات التي تطرحها وتتناولها. (وقف العقل على قدميه/فازدهرت الأسئلة /تحت مياه الأمطار)واهتمام الذات بالعبارة، هو اهتمام بصيغة تموضعها الشخصي في الحياة.
كما أن تمحور الذات حول شعرية لغتها، لا يعني بالضرورة القطع مع الآخر. باعتبار أن الاحتفاء بلغة الذات، يتحقق من خلال تأملها العميق في علاقة تموضعها بتموضعه. إنها بهذا المعنى، قد تأخذ شكل إبدال وإضافة رمزية، لما هو مؤهل للاستمرار، في سياق تحوله الدائم والمتجدد. إن الجمالية اللغوية، لا تطمئن إلى تكرار البنيات نفسها والعلاقات نفسها. ذلك أن تكرار البنيات السابقة، دليل على الفراغ الجمالي والفقر النظري. أيضا، غياب الذات، يعني بالمقابل، غياب التجربة، فضلا عن غياب الاجتراح الشخصي الذي به تتأسس هوية الكتابة. (وأمام أعمدة القلق/ والطلاسم/ تركنا مخيلاتنا تلمع/وترتعش صورها /كضوء بدائي). فدون الفرادة اللغوية، لا يمكن الحديث عن خصوصية تجربة أو مسار ما. إنها بشكل أو بآخر، اختبار لقدرة الذات على المساهمة في توسيع مساحة القول، وفي تحفيز الآخر على تنويع مجالات التساؤل عن كينونته. (ليس ثمة مستحيل/في طريق الصباح/وشطحاته/ما دام النور يتقد/في الحنجرة).
إن الحديث عن شعرية «داخل جوزة مكسورة» هو حديث عن عوالم تحدس القراءة بحضورها، دون أن تتمكن بالضرورة من النفاذ إليها. (اليقين ينكسر/على كل الجبهات). عوالم شبه مفقودة في دياجير النسيان، دون أن تفقد راهنيتها تماما. إنها الحاضرة دائما، والغائبة دائما في آن. شعرية مؤثثة بالبياضات والفراغات الدلالية، الموظفة في محو المعاني العالقة بها، (بهيئة لا أحد/بهيئة صورة، أصبحنا داخل النص، نمارس اللعب). وبقوة هذا المحو، تستعيد خفتها التي تسمح لها بتحويل مساراتها، كي تمضي بنا، بعيدا حيث تكتشف العين المزيد من مرئياتها، بعد أن كانت إلى حين في حفظ الكتمان. (في الطيف البرونزي/ تكاثر الحقيقي/ لكن الخرافات/والأساطير هي ما سيحكم شكل المغامرة).
هكذا إذن، وبموازاة توغلنا الفرح، داخل جغرافيات «الجوزة المكسورة» تتضح لنا أكثر فأكثر، ملامح عبارة منذورة لغبطة الشتات. عبارة، لا يمل فيها الشيء عن تقصي أثر أطيافه، وقد توزعت على ما لا بدء ولا منتهى له من مقامات القول، الفعل، والفكر، حيث الشعر وحده، الكفيل بالإشارة إلى ما يحدث الآن هنا، كما في قلب ما تهذي به أصوات أزمنة المكان. حيث (مطلوب من الكلام أن يحلق فوق جماله ليصطاد).
*شاعر وكاتب من المغرب