ذات يوم.. راوغ بيليه خصومه مثلما راوغ العسكر شعبه

حجم الخط
1

حلّ منتخب البرازيل في الجزائر في يونيو/حزيران 1965، بنيّة لعب مباراتين وديتين، الأوّل أقيمت في وهران، يوم 17 من الشّهر ذاته، حضرها أكثر من 50 ألف متفرج، لم يأتوا من أجل مشاهدة منتخب بلدهم، بل من أجل مشاهدة نجمهم حينذاك: بيليه، أبهجتهم رؤيته ومراوغاته وهدفه في شباك منتخب الجزائر في مباراة انتهت ثلاثة صفر للضّيوف، وترقّب النّاس المباراة الثّانية بين الطّرفين، التي كان من المقرر أن تُقام بعد يومين، متخيّلين ردّة فعل المنتخب المستضيف، شغّلوا صباح ذلك اليوم أجهزة الرّاديو، بقصد سماع تحاليل وتعليقات رياضية وعدتهم بها الإذاعة الوطنية، لكنهم فوجئوا بسماع موسيقى عسكرية وأناشيد وطنية، تقطعها تدخّلات مذيع يصف الرّئيس آنذاك، أحمد بن بلة بالمُستبدّ والدّيكتاتور، قبل أن يُذاع بيان بصوت كولونيل اسمه هواري بومدين، لم يكن معروفاً حينها، يعلن فيه نفسه رئيساً جديداً للجزائر، ألغيت المباراة الثّانية مع البرازيل، وعوضتها مباراة أخرى في غرف تبديل النّظام، ناب فيها العسكر عن بيليه، ولم تنته إلى الآن، ذلك ما تحكيه رواية «بيليه ذات يوم» (منشورات البرزخ 2018) لعبد القادر جمعي (1948).
«بيليه ذات يوم» هي رواية التّاريخ والمكان، تستحضر مدينة وهران في السّنوات الأولى من الاستقلال، تحكي على لسان نورالدين، الذي أتّم السّابعة عشرة، وقد انقلبت حياته في ثلاثة أيّام فقط، امتلأ فرحاً بمشاهدة البرازيليين يصلون إلى مدينته، ويلعبون أمامه، بدون أن يعلم أن مباراة أخرى كانت تدور خلف خطّ التّماس. يطلعنا عبد القادر جمعي، الذي طالما استثمر في مدينته وهران، على أحيائها وأمكنتها: المدينة الجديدة، الحمري، سيدي بلال، الطحطاحة، ويروي تفاصيل من حياة النّاس البسيطة، بعد أن خرجوا إلى الاستقلال، بدون أن يعلموا كيف يجب عليهم أن يعيدوا ترتيب أمورهم، وقد تعوّدوا في ما سبق أن ينوب عنهم الفرنسيون في كلّ شيء. عاش نورالدّين حياة تشبه حياة بيليه، في صغره، في فقر ظنّ أنه بلانهاية، في غرفة من بيت تقتسمه عائلات كثيرة، يُطلق عليه في العامية «حوش»، قبل أن ينال والده شقّة من الشّقق التي استولت عليها جبهة التّحرير، عقب مغادرة الفرنسيين للبلد، يستحضر البطل سيرة النّجم البرازيلي ويقارنها مع نفسه، فقد كان يحفظ تاريخه الكروي أيضاً، يجمع ما وقعت عليه يده من مقالات وصور في مجلات وجرائد، عن مهاجم «السيليساو»، وحين شاهده ينزل من القطار، في وهران، شعر حينها بأن مدينته دخلت، لأوّل مرّة، التّاريخ، ومهما كانت النتيجة بين المنتخبين، فإن مشاهدة البرازيل هو الانتصار الأكبر، التي جاء منتخبها تحضيراً لكأس العالم، التي كان ينتظرها في السّنة الموالية في إنكلترا.

كادت وهران أن تغرق في الدّم، لكنها شيئاً فشيئاً استعادت هدوءها، نابت الكرة عن الرّصاصة، وتحوّلت كرة القدم إلى هوية ثقافية، وليس مجرد رياضة، التفّ النّاس حول فريق المدينة، صار مثل طابع بريد، لا تذكر وهران من دونه.

في انتظار المباراة، يستعيد بطل الرّاوية شذرات من حياته، التي تتقاطع مع تاريخ الجزائر النّاشئة حينذاك، يتذكّر الدّخول المدرسي عام 1962، للمرّة الأولى وبلاده صارت مستقلّة، يتذكّر من كان يطلق عليهم «الأقدام الحمراء» من شيوعيين قدموا من فرنسا قصد مساعدة الجزائر أن تستقيم على قدميها، والبعثات المسيحية من آباء وأخوات، لعبوا دوراً في أن تستمر الحياة بدون انقطاع، في وقت كانت فيها الجزائر تفتقر إلى مدرسين، ولا تمتلك كفاءات تحل محلّ المعمّرين الذين غادروا، عقب إعلان وقف إطلاق النّار في 19 مارس/آذار 1962، مع ما رافق تلك الفترة من عمليات إجرامية استهدفت الأجانب، وتشبث بعض الفرنسيين بما يسمّى حينها «الجزائر الفرنسية»، كادت وهران أن تغرق في الدّم، لكنها شيئاً فشيئاً استعادت هدوءها، نابت الكرة عن الرّصاصة، وتحوّلت كرة القدم إلى هوية ثقافية، وليس مجرد رياضة، التفّ النّاس حول فريق المدينة، صار مثل طابع بريد، لا تذكر وهران من دونه.
مع اقتراب موعد المباراة، التي أجريت في المساء، توجّه نورالدين إلى الملعب البلدي، في نشوة، شبهها بما شعر به صبيحة الاستقلال، آنذاك كان يحلم أن يصير مغنيا، وعندما تمكّن من اقتناء تذكرة للمباراة، بات لا يحلم سوى بمصافحة بيليه، لكن ذلك لم يتحقّق ولم يضايقه، بما أنه شاهده يلعب ويركض ويسجل، وهو الذي يكاد يعرف كلّ أهداف بيليه مع منتخب بلده عن ظهر قلب.
وهران هي أيضأً مدينة أحمد بن بلّة (1916- 2012)، أوّل رئيس للجزائر المستقلّة، ورغم أنه من مواليد بلدة مغنيّة، فقد ارتبط نشاطه بوهران، التي لا تبعد عنها سوى ساعتين ونصف السّاعة بالسّيارة، وما يذكره عنه نورالدين هو يوم جاء الرئيس إلى مدينته، وأعلن من درج الأوبرا عن تأميم دور السينما، كانت الدولة تنوي حينها الاستفادة منها مادياً، لكن سياستها في التأميم فشلت، وضاعت دور السينما بعد وقت قصير، مثلما ضاعت مكتسبات الاستقلال الأخرى. وهران سوف تكون أيضاً آخر مدينة يظهر فيها بن بلّة للعلن، كان قد خطّط مع سفير البرازيل لإقامة المباراتين الوديتين، وجهّز كلّ الظّروف، بل إنّه أعطى ضربة الانطلاقة، وهو اللاعب السابق في فريق أولمبيك مارسيليا، قبل أن يشغل مكانه في المدرجات الرّسمية، محاطاً بالحرس الشخصي، ثم يغادر مع تسجيل البرازيل الهدف الثّالث صوب العاصمة، لمتابعة تحضيرات المباراة الثّانية، بدون أن يعلم أنّه يتّجه إلى الإقامة الجبرية، وأن انقلاباً عسكرياً في انتظاره.
من خلال مطالعة «بيليه ذات يوم» ، نقرأ مسحاً عن الحياة الوهرانية، عن بارات وسط المدينة وملاهيها، عن نادلاتها وعن راقصي الفلامنكو وترسّبات الثقافة الإسبانية في هذه المدينة الساحلية، في يوم واحد من حياة نورالدين، يستدرجنا المؤلّف إلى التاريخ الثّقافي للمدينة، نذهب معه إلى الملعب ونشاهد منتخب البرازيل يلعب ضد منتخب الجزائر، الذي كان أيام الثورة يسمى فريق جبهة التحرير، والمكوّن من لاعبين فروا من أندية فرنسية، نشهد حماسة نورالدين أمام الراديو، وهو ينتظر المباراة الثّانية التي كان من المنتظر أن تقام في ملعب بولوغين، في العاصمة، ثم صدمته بعد أن سمع خبر انقلاب عسكري، شبهه بعرقلة من الخلف، عرقلة للجزائر وهي تسير رافعة رأسها آنذاك، ذلك الانقلاب شبهه أيضاً بهدف من وضعية تسلّل، علّقت بسببه جولة بيليه ورفاقه، وأقيمت مكانه مباراة أخرى بين العسكر والشّعب انتصر فيها الأول، مع أن الحكم لم يعلن نهايتها إلى الآن.

٭ كاتب من الجزائر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول _خليل _@ عين باء:

    شكرا لك اخي على سردك الجميل لم اكن اعرف ان البرازيل قد لعبت بوهران

إشترك في قائمتنا البريدية