ذكريات آثمة

في عام 1990 كنتُ أتخيل أنه في عام 2020 ستكون هناك سيارات تعمل على الهواء، وطائرات تغطس في المياه، وكواكب أخرى نستطيع شراء حاجياتنا منها، فانتهى بنا الأمر لنتعلم كيف نغسل أيدينا، وكيف ندير شؤوننا اليومية .
في عام 1990 كنتُ قد رسمت في مخيلتي عام 2020 وما بعده فضاء أستطيع أن أقوده وأنا على فراشي، انتهى الأمر وأنا على فراشي أتابع أعداد الضحايا الهائلة التي تتساقط كُل يوم أسوةً بالضحايا السوريين، الذين ماتوا بسبب إجرام الأسد، وأمام أعين العالم، بدون أن تقشعر عليهم الأبدان .
أتساءل، بل هناك أسئلة جمّة أبحثُ عن أجوبة لها مِثل المُصاب في حقل ألغام ورقية، ورقية مطلية بهول هذه الجائحة المطاطية، حيث لا مفر من النفس، النفس الأمَّارة بالسوء، على حين غفلة مِن ذواتنا الهشة السيئة الصيت، والعادات والتقاليد البالية. هل يحق لكل مِنا إعادة التأهيل الأخلاقي والديني اللذين يُديران بوصلة أيامنا الاجتماعية؟ هل انتهى زمنُ الصفاء الذي كان كفيلا بزرع الحب والتفاؤل؟
لم يعد هناك متسع من الوقت، فحتى الوقتَ بات ملغوماً مسموماً بكل شيء، الوقت الذي بات أقصر من مُدّة شرب فنجان قهوة، أو حتى رؤية سحابة سيجارة، وأنا على شرفة منزلي في الطابق الرابع والألف صرخة وألم .
ليتنا جميعًا نمتلكُ الجرأة، قائلين عَن هذا الفيروس ما لا تستطيع ضحية واحدة قوله، بل نمتلكُ من الجُبن ما يكفي لزيادة قوة هذا الفيروس لحرق الجلود والوجوه والضمائر المائلة للخراب المتخثر تحت عرش الله .
أغلب الأوقات، أقول لنفسي، متمنيا أن يغزو هذا الوباء كُل مدن العالم، حتى في كل شارع، وعلى كل رصيف، عندما أتذكرُ الأرصفة السورية، الأرصفة التي وطأتها أقدام الملاعين وضعاف النفوس من كل دول العالم لتذبح وتحز عنق الأطفال، وتسلخ وتغتصب، وتمضي بدون رادع أو حتى حساب مِثل هذا اليوم .
كُلنا خطاؤون، لأننا بشر، حتى الأنبياء أخطأوا، فكيف بالأصدقاء، أصدقائي الذين بللتهم مياهُ التشتت وغيبهم هواء الخريف الطاعن، لا شيء يدعو للتفاؤل غير هذا السرير الذي أتمددُ عليه مِثل جثة، لا شيء يستطيع انتشالي مِن فوهة هذه البئر المليئة بالأفاعي ووبر العقارب، وطعنات الأقارب سوى زوجتي .زوجتي هي الفاصل الأول والأخير بيني وبين هذه الجثث، ومدن الخراب المصطنعة،
هذه المرأة التي تحجز بأصابعها عني كل داء ساخن وبارد لا أشتهيه، هي التي تستطيع دفع ظلم أمريكا وزغاريد المجوس، التي تصدع أذني كل مساء، أمريكا أم الوباء والويلات على أطفال هذا العالم الممتد بين الشاطئ والماء، المغروز مِثل خنجر بين ملمس العشب وطعم الماء، زوجتي التي أتمنى أن تُنجب لي طفلا صغيرا مُبتسما، يضيء عتمة أيامي الباقية وكفى، كي أنهض وأشيرُ بأصبعي لهذا العالم القبيح قائلا :
أنا الذي فقأت أعين الملاعين ومضيت بدون أن التفت خلفي
أحببتكِ أنتِ، اخترتكِ أَنْتِ،
كَي تَتَّسِع بُقعة الْأَرْضِ الَّتِي أقفُ عَلَيْهَا،
كَي أَحْيَا، كَي أرْتَعَش مِثل عُصْفُور بَيْن يديكِ
كَي أَرَى الْأَمْوَاج وضِلَع الْمَسَافَة بَيْن الشَّاطِئ والْمَاء
كَي أُفرقُ بَيْن مَلْمَس الْمَاءُ وَرَائِحَة العُشْب
كَي أَرَى النَّوَاقِيس والنُّجُوم وبَريق عينيكِ .
كي أنتشلَ خراب هذا الجسد بعيداً، وأحتضنُ زجاجة العمر عبر فوهة مُعلقة على باب قلبكِ
أنظرُ مِن حولي، تتقاذفني أخطائي كالسكاكين وفوهات المدافع، وحيدا عارياً وبيديَّ هاتين، قمرٌ يحترق على وسادة بيضاء، يخرج بركانٌ مِن فمي، أسقطُ بين يديكِ مِثل الأخرس الموبوء بالطاعون ورائحة التبغ، يفور من جلدي الأسمر الهارب نحو جنون عشقكِ الذي لا ينتهي.

شاعر سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية