الضغينة la haine مرض مستفحل يخترق الإنسانية قاطبة طولاً وعرضاً، وأسبابه لا تحصى. وكثيراً ما تتحول الضغينة العمياء بطبيعتها، إلى وسيلة لطمس الحقيقة بدل إيضاحها. وهو ما حدث مع مي زيادة. لقد أصبح أعداؤها من الأسماء المعروفة يعدون بالعشرات حتى وهي تحت التراب. نتساءل أحياناً عن الأسباب الكامنة من وراء ذلك؟ هل هي متعلقة بالكتابة؟ بالشهرة؟ بالحقد المورث من الآباء؟ اختلال العلاقة مع العائلة المحافظة؟ سبق الحديث في هذا الموضوع لكن بشكل يكاد يكون خجولاً. يفترض أن يكون الأبناء أكثر تسامحاً مع الذين سبقوهم وأكثر موضوعية، لأن المسافات الفاصلة بينهم وبين العداوات العائلية بعيدة نسبياً، ثم إننا لا نعرف تفاصيل القصص بكل أسبابها وظروفها، ويحتاج الأمر إلى بحث عميق. وقد يكون ما نعرفه عن الآخر- العدو؟- سطحياً ومحكوماً بروايات قبلية، أحادية، لأنها مبنية على سماع الصوت الواحد الذي يرضينا وليس على الصوت الذي يضعنا في مواجهة أنفسنا ويقينياتنا ويهز الصور القديمة التي كوناها عن بعض أفراد العائلة. موضوع مثل هذا يستحق كتاباً يكون بمثابة رد على كتاب «عشاق مي». من المؤكد أن أعداء مي الشرسين ليسوا قلة. وما قاله الدكتور ألكسندر جوزيف زيادة في ذكرياته في مجلة «سيدتي» يدخل بالضبط في هذه الخانة. لا توجد وثائق كثيرة في هذا السياق، لكن حواراً مهماً (ذكريات) في مجلة سيدتي (مارس 2002)، يبين بشكل واضح درجة هذا الحقد وأسبابه ومؤدياته، لأنه يأتي من فرد ينتمي إلى عائلة زيادة، أكثر من ذلك، من ابن الشخص الذي دمر مي، جوزيف زيادة.
قيمة هذا الحوار حوار على الرغم من ضعف تصريحاته لأنها غير مؤسسة، يساعد القارئ الموضوعي، على الأقل بدون مسبقات، أن يتعرف على أعداء الجيل التالي الذين لم يعرفوا مي إلا سماعاً. من يستطيع اليوم أن يخفي ما فعله جوزيف زيادة في مي التي طلبت نجدته برسالة كتبتها باللغة الفرنسية موجودة ومنشورة كوثيقة؟ فقد دمرها وسرق أموالها. نهب منها بيت أهلها الأساسي في ضيعة شحتول، وباعه لرجل لا علاقة له بالعائلة، كما بيعت أراضيها وممتلكاتها، وظل يماطل في إخراجها من العصفورية ومن مستشفى رابيز في مرحلة ثانية، على الرغم من الأوامر العليا الصادرة من رئاسة جمهورية في لبنان، ومن إشارة إنسانية من ملك الأردن وقتها الملك عبد الله، لتحريرها من أسرها الذي فرض عليها قسراً الذي نبهه الأمير سعيد الجزائري إلى حالتها المزرية في «العصفورية والمستشفى الأمريكي» في بيروت. هل من الحق أن ندافع عن أطروحة الوالد فقط لأنه والد، حتى عندما يكون هذا الأخير مضراً وعنيفاً وقاسياً، بل ومجرماً أيضاً؟ هل الأبوة تكفي لطمس الحقيقة الموضوعية، أو السكوت عن الظلم؟ كان يمكن أن تكون نظرة الدكتور الكسندر أكثر موضوعية ويتقرب من مأساة مي، وربما أيضاً من مأساة والده، لأن مستوى الانتقام الذي ظهر به يظهر حالة مرضية ربما كانت تحتاج إلى علاج؟ ماذا كان يكلف ألكسندر لو اختار طريق الحق ودافع عنه؟ يقول في حوار سيدتي: «لم تكن مي زيادة سوى امرأة قاسية القلب، غير جميلة، وجامدة، لا تعرف معنى الحب في حياتها»، موقف غير مؤسس ومليء بالأحكام العمياء ضد امرأة هي في النهاية ضحية مكيدة دبرها والده. ويفصل الدكتور الكسندر زيادة في أحكامه التي تنبئ عن ضغينة لأزمته لأن قضية مي لم تكشف مأساتها فقط، ولكن درجة الجشع والطمع التي اتصف بها جوزيف: «إن والدي كان يحب الجمال، ومي لم تكن كذلك. كما أن والدي لم يكن يريد الزواج في الوقت الذي أشعرته مي بحبها له. أما السبب الثالث لرفضها، فلأن ذلك الطبيب الشاب كان قد فضل الزواج بسيدة أخرى، تنطبق عليها شروطه في فتاة أحلامه باعتبارها صاحبة جمال وثقافة وحضور جذاب»، لن أتحدث عن درجة العمى والإنكار، ولكن السذاجة أيضاً التي اتصف بها الدكتور الكسندر الذي سطح كل شيء دفاعاً عن وهم افترضه حقيقة. صحيح أن جوزيف اختار الذهاب إلى فرنسا وتزوج سيدة فرنسية كانت تكبره سناً، وكان انتهازياً حتى في زواجه، ولا نعتقد أنه اختارها لجمالها، فذلك يحتاج إلى تدقيق، ولكن المؤكد أنه بفضلها حصل على الإقامة وأصبح فرنسياً. تخلى عن مي لأنها لم يكن لديها ما تمنحه له إلا قلبها وحبها.
كانت مي امرأة ساحرة وجذابة، وكان يظهر لها حبه بشكل دائم. كل الوثائق المتوفرة تؤكد أنه كان يذهب لها في ثانوية بيروت ويخرج برفقتها، ويقبلها أمام الجميع، وكانت سعيدة بذلك، وتحلم بمستقبل عاطفي جميل معه، وأن عائلة زيادة كانت على علم بهذا الحب؛ فقد رفضت مي كل من تقدم لها حفاظاً على حبها لجوزيف. ويذكر ألكسندر في ذكرياته عن ظروف العلاقة بين مي ووالده «أن عائلتيهما سعتا لترتيب زواج بينهما، لكن هذه المساعي لم تنجح» مما يدل بالنسبة له، أنه لم يكن حباً ولكن مجرد ترتيب عائلي لم يكتب له النجاح. ويضيف: «ما من نص مكتوب يثبت ذلك الحب، وربما تكون قد عبرت له عن حبها شفهياً، علماً أنها راحت تراسله بعد انتقالها إلى مصر لكن بشكل قليل».
يحتاج المرء إلى قدر من الجهل ليقول كلاماً مثل هذا. ديوانها «أزاهير حلم»، الذي نشرته بالفرنسية في 1911 وهو أول كتاب لها، كان رسالة سيرذاتية عبرت فيها عن ذلك الكسر العميق الذي حدث في حياتها بسبب «التخلي» الذي هزمها عميقاً في داخلها. وجزء من ارتحالها إلى مصر وابتعادها عن لبنان كان بسبب هذه الخيبة القاسية. لا أدري إذا كانت فكرة «أن إقامتها في بيته بعد عودتها من القاهرة كانت بهدف إقناعها بالزواج منه بعد وفاة زوجته، وعندما لم توافق، أدخلها «العصفورية» صحيحة، إذ إن هناك الكثير من العناصر التي تناقضها، من خلال ما قالته وعندما طالبت بإرجاعها إلى القاهرة، زج بها إلى العصفورية. وهذا ينفي كلياً ما قال صاحب الذكريات، الدكتور ألكسندر جوزيف زيادة من أنها «دخلت المستشفى على يد والده بموافقتها وإرادتها الحرة»، أيصل تشويه الحقائق إلى هذا الحد؟ ربما لم يكن يعرف بوجود سيرتها «ليالي العصفورية» التي يكون قد مزقها هو أو والده، والتي تفضح فيها كل ما حدث لها. بعض من شذرات هذا النص المحروق موجودة في كتاب أمين الريحاني «قصّتي مع مي»، وهي تدين جوزيف بشكل معلن وواضح وتصف الآلام التي كان سبباً فيها. لم يكن من الممكن تلفيق قصة بهذه السهولة، فقد لعبت دوراً كبيراً في النهضة الاجتماعية والأدبية في منطقة الشرق الأوسط، وكانت سيدة مجتمعية مهمة، وتدير أحد أكبر الصالونات الثقافية العربية الذي سمته «الندوة». وكان يزورها في الصالون كبار ذلك الزمن من الذين حملوا على ظهورهم سبل التحديث والتغيير، من أبرزهم أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافظ إبراهيم، وطه حسين، ولطفي السيد، ومصطفى صادق الرافعي، والمازني، وداود بركات، وأنطوان الجميل، وسلامة موسى، وإسماعيل صبري باشا الذي كان يدير الجلسات، وغيرهم. صحيح أن النخب العربية صمتت على مأساتها بمن فيهم أصدقاء الأمس، لكنها وجدت في كل من أمين الريحاني، وخليل خوري، ومختار الجزائري، ومصطفي مرعى وزوجته وسواهم، ما ساعدها على الخروج سالمة من أكبر جريمة مورست ضد واحدة من أكبر الكاتبات العربيات.
من أبرز رواد الصالون أيضا: العقاد، صاحب العبقريات. حسب بعض السير، كانت ثمة علاقة حب بين العقاد ومي.
هذه مواصفات الرجل شرقيا كان ام غربيا. اكان إسمه جوزيف أو محمد.
السيد الكاتب الكريم…….لقد ظلمت في حياتها و بعد رحيلها….هذه هي الحياة…مرة ثم مرة..ثم حلوة في بعض المرات..تحياتي سامي من السويد
شكرًا أخي واسيني الأعرج. ياإلهي كم أنت إنسان طيب بعرضك لهذه الفاجعة ضد إمرأة ذنبها أنها ومبدعة! قول لحق يحتاج إلى صاحب عقل، ولم يكن متوفرًا. الأمر الذي تبادر إلى ذهني بعد قراءة المقال، لابل مازلنا نمارس هذه الصغينة ضد المرأة حتى يومنا هذا، بل أيضًا انتقلت هذه الضغينة من المجتمع إلى السياسة ضد أي إبداع بفضل أنظمتنا السياسية ال… لم يعد يوجد أوصاف تفي بالغرض.
عذرًا ربما سقط سهوًا: أقصد ذكية ومبدعة!