ذكريات دبلوماسية من صنعاء

اليابانيون

اتصلت في أحد أيام السنوات الأولى من هذا القرن بالسفارة اليابانية في العاصمة اليمنية صنعاء للاستفسار عن شركة يابانية، فلم تكن خدمة الإنترنت قد دخلت اليمن بعد. ولذلك، فالحصول على أي معلومة عن شركة أجنبية كان يعني الاتصال بسفارة دولة تلك الشركة. وتمتاز جميع السفارات في صنعاء بقيام مستلم الاتصال في السفارة بتحويل الاتصال إلى شخص آخر، وهلم جرا: حتى يصل المتصل الى الشخص المناسب في السفارة.
واشترك أغلب الدبلوماسيين في صنعاء بالإجابة على مضض واضح، وكأن المتصل قد قاطعهم أثناء قيامهم بعمل يعتمد مصير العالم عليه. وفي نهاية الأمر أجابني الشخص المناسب في السفارة اليابانية وأعطاني جواب سؤالي، وكان الكلام بالطبع باللغة الإنكليزية، ولكن الأمر لم ينتهِ هنا حيث سألني ذلك الدبلوماسي
سؤال من فضلك. ما هي جنسيتك؟
وجدت سؤاله في غير محله، ولكنني أردت أن أكون وديا ودقيقا، حيث إنه لم يسألني من أي بلد أنا، بل الجنسية، فأجبته:
ـ جنسيتي ألمانية.
ـ ألمانية؟ عظيم جدا.
ـ ما هو العظيم بالجنسية الألمانية؟
ـ إنك ستحل مشكلتي.
ـ أي مشكلة؟
ـ لديّ جهاز ضخم «راديوكاسيت» مصنوع من قبل شركة ألمانية ورائع. ولكنه عاطل.
ـ حسنا!
ـ أرجو أن تقوم بإصلاحه.
ـ وكيف أستطيع ذلك؟
ـ الجهاز مصنوع من قبل ألمان. وأنت ألماني. ولذلك تستطيع إصلاحه.
ـ للأسف الشديد إن هذا الألماني لا يستطيع إصلاح جهازك.
ـ مستحيل. أنت ألماني، فمن المؤكد أنك قادر على ذلك.
ـ عزيزي لا أستطيع مساعدتك.
ـ حسنا سأتصل بالسفارة الألمانية.
ـ لا أظن أن هناك من يستطيع إصلاح جهازك في السفارة الألمانية.
ـ ولكن هناك ألمان كثيرون فيها.
وجدت نفسي في حلقة مفرغة ونقاش عقيم، فشكرته على رده وأنهيت المكالمة. ولم أعلم إن كان قد اتصل بالسفارة الألمانية، وما كان جوابهم في حالة اتصاله.

مطار صنعاء

كان مطار صنعاء بسيطا للغاية، فبعد أن يسلم المسافر حقائبه يدخل مباشرة صالة المسافرين المجاورة عن طريق باب يحرسه شرطي يمني بسيط. وكل ما يقوم به هذا الشرطي التأكد من حمل من يدخل هذه الصالة تذكرة سفر دون التأكد، ما إذا كانت التذكرة قديمة أو نافذة المفعول. وكنت في المطار في وقت متأخر لتوديع أحد الأصدقاء في نهاية التسعينيات، أو أوائل سنوات العقد التالي. ورافقت الصديق حتى ذلك الشرطي وراقبته يدخل صالة المسافرين وسرحت في أفكاري وخططي حول ما عليّ القيام به في اليوم التالي. وإذا بضجة توقظني من أحلام اليقظة، واستدرت نحو مصدرها حيث اكتشفت أن ثلاثة شباب أوروبيين في نقاش حاد مع ذلك الشرطي المسكين. ووقفت خلفهم امرأة أوروبية في أواسط الأربعينيات من عمرها تراقب ما يحدث. ولأن الشباب تكلموا اللغة الإنكليزية مع الشرطي فهمت أنهم من السفارة الروسية وأن المرأة زوجة السفير الروسي، حيث دخل ابنها لتوه صالة المسافرين وأرادت أن تتبعه للبقاء معه حتى صعوده الى الطائرة. ولكن الشرطي اليمني رفض ذلك، لأن الأوامر تنص على منع أي شخص غير مسافر من الدخول إلى الصالة. وفي الحقيقة أن الشرطي لم يفهم كلمة واحدة من الإنكليزية، أو أي لغة أجنبية، ولعله لم يفهم حتى اللغة العربية الفصحى، فكل ما يعرفه أن المرأة والشباب الذين كانوا معها لم يحملوا تذاكر سفر. ولذلك، فمهما كان سبب رغبتهم بالدخول لم يكن ذا أهمية بالنسبة له، وبالتالي منعهم من الدخول.
وفي الوقت نفسه، أثار الموقف استغرابي حيث كان كبار الدبلوماسيين يستعملون صالة الأشخاص المهمين VIP في المطار ولذلك كانوا لا يختلطون ببقية المسافرين. وأثار استغرابي كذلك عدم وجود من يجيد العربية مع الروس.
راقبت هذا الموقف ووجدته مضحكا، فالشباب الثلاثة استمروا في الترديد أنهم من السفارة الروسية ما يسمح لهم، حسب ظنهم، بدخول الصالة، وإذا أصر الشرطي على موقفه، فإن السفارة الروسية ستقدم شكوى شديدة اللهجة للحكومة اليمنية، مما سيسيء إلى العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وكأن الشرطي مهتم بكل هذا، إذ لم يفهم كلمة واحدة مما قالوه، وحتى إذا فهم فلم يكن ذلك شأنه، إذ أن كل ما يهمه، هو الأمر الذي استلمه من رئيسه المباشر. وفي الحقيقة لا أستطيع أن أتخيل أن سفارة من الممكن أن تحتج لدى الحكومة اليمنية لسبب من هذا النوع، أو أن الحكومة اليمنية ستهتم بأحتجاج من هذا النوع. وفي هذه الأثناء كانت زوجة السفير الروسي تنتظر نتيجة هذه المواجهة العقيمة.
شعرت بالعطف على الشرطي، لاسيما أن القانون يدعم موقفه واحترمته لبقائه في بالغ الأدب والهدوء مع الروس وتنفيذ الأوامر بدقة، مهما كان الضغط عليه من قبل مجموعة من الأجانب الذين كانوا يتكلمون لغة أجنبية، قد تكون من المريخ بالنسبة له. ولذلك قررت في تلك اللحظة التدخل، ولكن انفعال شباب السفارة الثلاثة وغضبهم جعلاني اتخلى عن فكرة التكلم معهم، فقررت أن أتكلم مع زوجة السفير، فقد كانت بمثابة رئيستهم، كما بدت متحضرة وطيبة. ولحسن الحظ كانت تتكلم الإنكليزية، فتكلمت معها شارحا موقف الشرطي وأن قانونا مماثلا على الأغلب موجود في مطارات روسيا أيضا. ولذلك، فإن تحقيق رغبتهم كان مستحيلا، لاسيما أن الأمر لا يستحق كل ذلك العناء. ولكنها شكت لي أنها أرادت البقاء مع ابنها لأطول فترة ممكنة، وأخذت تبكي مما فاجأني. ووجدت نفسي في موقف لم يسبق أن دخلت فيه، فصمت حتى هدأت كي لا أزيد من فداحة هذا الموقف، الذي كان من الممكن تجنبه منذ البداية. وعندما هدأت المرأة واستجمعت أفكارها طلبت من مرافقيها التوقف وشكرتني ثم سألتني من أي بلد أنا، فابلغتها أنني من العراق ما أثار دهشتها وأخذت تسألني عن عراقيين تعرفهم وكيف تزوج فلان من فلانة لأنها غير جميلة بينما هو وسيم، ولكنني لم أجبها، حيث وجدت الموضوع لا يستحق الاهتمام.
ولكن من الواضح أنها هدأت حتى إنها أخذت تضحك وسط انبهار موظفي السفارة الروسية الذين كانوا يراقبوننا. وتكلمت زوجة السفير معهم ضاحكة باللغة الروسية، ما خفف من احتداد الأمر. وقمت بإبلاغ الشرطي أن كل شيء على ما يرام وهنأته على كفاءته في اتباع الأوامر وكانت سعادته واضحة لانتهاء تلك المشكلة. والتفتُّ نحو الروس ووجدت أن طريقة حديثهم مع بعضهم بعضا كانت هادئة، فودعت زوجة السفير بلطافة وعدت أدراجي. وكانت تلك المرة الأولى التي التقيت فيها، ولكنها لن تكون الأخيرة.

باليه في صنعاء

بعد حادثة المطار بفترة أعلنت وسائل الإعلام في اليمن عن حفل سيقدمه أربعة عازفين من إحدى الفرق السيمفونية الألمانية المعروفة في قاعة في صنعاء. وأظن أنها كانت فعالية تقوم بها الحكومة الألمانية للدعاية لألمانيا وتقوية العلاقات بين ألمانيا واليمن، ولأنني من هواة الموسيقى الكلاسيكية حرصت ألا تفوتني فرصة حضور العرض.
حان يوم العرض وذهبت إلى القاعة مبكرا بعض الشيء للحصول على مقعد مناسب، ولحسن الحظ كان عدد الحاضرين قليلا. وتوجهت نحو الصفوف الأمامية ولاحظت وجود بعض الأوروبيين جالسين هناك. ولكني وجدت شخصا مألوفا، إنه زوجة السفير الروسي التي التقيت بها في المطار. وألقيت التحية وردت ردا لطيفا جدا، فجلست بجانبها وتبادلنا الحديث الاجتماعي، فقد كانت اجتماعية على عكس أغلب الدبلوماسيين في صنعاء الذين تميزوا بثقل الدم. ولاحظت أن القاعة بدأت تمتلئ بالحضور تدريجيا حتى امتلأت تماما باليمنيين وبعض العرب غير اليمنيين والأجانب. بدأ العرض الموسيقي وكان جميلا، ولكن قصيرا بعض الشيء، وتكوّن من مقطوعات سيمفونية من تأليف كبار الموسيقيين الألمان والنمساويين. وبعد العرض أبدت زوجة السفير الروسي إعجابها بعزف الموسيقيين الألمان، ولكنني أردت في تلك اللحظة أن أمزح معها، فقلت:
ـ سيدتي، لقد كانت ألمانيا سباقة في هذه المبادرة الموسيقية الدبلوماسية.
أجابت:
ـ المانيا شهيرة بالموسيقى الكلاسيكية ونحن كذلك.
ـ حسنا، على روسيا أن تقوم بأكثر من ذلك.
ـ نظرت إليّ باستغراب وقالت:
ـ كيف ذلك؟
ـ عليكم جلب فرقة البولشوي لتقديم عروض في صنعاء.
ـ هل تمزح؟
ـ هل أبدو أنني أمزح؟
ـ إنها فرقة البولشوي. إنها أعظم فرقة باليه في العالم.
ـ ولهذا السبب عليكم جلبها إلى صنعاء لتقوية العلاقات الروسية اليمنية وإطلاع الجمهور العربي بشكل عام واليمني بشكل خاص على الثقافة الروسية.
ـ دعك من كل هذا. لن نجلب البولشوي. إنها البولشوي، الفرقة الأعظم في فن الباليه.
تظاهرت بالبلادة وأصررت على موقفي وكررت أن البولشوي ستعزز مكانة روسيا في اليمن. ولم تلاحظ المرأة انني كنت أمزح معها طوال الوقت، حيث إنها غرقت في انفعالها وشعرت بأنها تكاد أن تغضب، ولكن ذلك بالتأكيد لم يكن هدفي حيث كنت أود اختلاق موضوع نجده، نحن الاثنين ـ مضحكا. ولذلك، هدأت من روعها وطلبت منها نسيان الأمر، إلا أنني لا أظن أنها ستنساه. ولم أكن أعلم أن الدبلوماسيين لا يفهمون النكتة.

مؤرخ وباحث من العراق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية