نعيش اليوم شيئاً، حالةً تذكرنا بأجواء سبتمبر 81 حين عصف السادات بمعارضيه من شتى التيارات، فاعتقل ولم يذر. حينذاك كان متوتراً للغاية، كما تشهد بذلك خطبه الأخيرة، حيث خرج على الناس مندداً متوعداً مخبراً بأن أحد نقاده قابعٌ كالكلب في السجن. لم يطل الوقت بعدها حتى اغتيل، والباقي تاريخٌ يعرف الناس ظاهره على الأقل في صورة تتابع الأحداث، وإن بقي باطنه وما يدور تحت السطح من تفاعل القوى والمصالح والخطط، خافياً بعضه ومحل تكهناتٍ وقيد التحليلات والشهادات الشخصية والمذكرات في غيبة الشفافية، ووثائق تُكشف بشكلٍ منظمٍ قانوني وممنهج.
بينما لم يزل خارج البلاد، داهمت أجهزة أمن السيسي ما يقارب الألفين فاحتجزتهم ما بين حبسٍ، على ذمة قضايا ملفقة بعضها صار ممجوجاً مملاً، يسهل التنبؤ به وعلى رأسها «الانتماء لجماعة إرهابية محظورة» أو مختفون قسرياً، ويأتي ذلك على خلفية مظاهراتٍ متسعة خرجت في محافظاتٍ شتى بطول البلد وعرضها، مذ زف السيسي للناس تأكيده بأنه بنى ولم يزل يبني القصور في دولته الجديدة.
جاء السيسي معبراً واستجابةً لأزمةٍ عميقة ومستحكمة للطبقة الحاكمة، التي باتت تدعمه وترى العنف والقمع سبيلاً وحيداً للبقاء
بيد أن السياقين مختلفان في مناحٍ عديدة، من حيث الظرف التاريخي والاجتماعي وشخصية الحاكم، فأياً ما كانت خلافاتنا مع السادات، فلا شك في أنه كان مجرباً متمرساً سياسياً، وبالتأكيد أوفر حنكةً وذكاء من السيسي. كان سياسياً وداهيةً، يملك حس بقاءٍ سياسي لا يستند إلى أدوات عنف النظام فحسب، بل يعرف كيف يستخدم أوراقاً ويخلقها إذا احتاج الأمر. كما أنه جاء إلى السلطة مرتكناً إلى أهم منجزات عبد الناصر في رأيي وأبقاها: الدولة والنظام ومنصب الرئيس في قلبهما، وقد أثبت النظام حينذاك قدرته على البقاء، رغم زلزال النكسة، وكرّس مشروعيةً ما بحرب الاستنزاف وهدف مقاومة العدوان وإزالة آثاره، بكل ما أحاط به من حشدٍ ورطانة اصطفت وراءها بصفةٍ عامة كل القوى والجمهور الأعم، وقد ترسخت تلك المشروعية بحرب أكتوبر التي صارت العمل المؤسس وعامود الشرعية في حكم السادات، التي بنى عليها لاحقاً كل تحركاته وانحيازاته الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية، وصولاً إلى كامب ديفيد، ومن ثم تصديقه شخصياً لزعامته وشعوره بالغبن لما رآها مظاهر نكرانٍ للجميل.
وليس كذلك السيسي
بدايةً فالدولة التي ورثها والمجتمع على حد سواءٍ في حالةٍ من التهرؤ والبؤس لا سابقة لمصر بها، فقد آتى الانحياز الاقتصادي المعادي للفقراء، مع تحلل الدولة مضموناً من التزاماتها، أكلهما في صورة إفقارٍ مرعب وفجوةٍ، بل خليجٍ يفصل بين هامشٍ يملك كل شيءٍ وسوادٍ مفقر، وإذ جفف مبارك السياسة فقد نضبت معها لا ملكات الشعب السياسية فحسب، وإنما النظام على حد سواء. لقد جاء السيسي معبراً واستجابةً لأزمةٍ عميقة ومستحكمة للطبقة الحاكمة، التي باتت تدعمه وترى العنف والقمع سبيلاً وحيداً للبقاء، ملقيةً باللوم على ذلك الهامش من الحرية الذي تركه مبارك للتنفيس، ساخراً منه حين قال كلمته الشهيرة «خليهم يتسلوا». ناهيك بالطبع عن كون السيسي كشخصٍ يفتقر إلى كثيرٍ من ملكات السادات، فلا خبرة سياسية لديه ولا كياسة، فضلاً عن كونه محدود الثقافة شحيح الذكاء إلى درجةٍ لا تمكنه من إدراك ذلك. الأهم من ذلك فإن نظامه و(منظومته الأمنية بالتحديد ) قد تعرض لزلزالٍ مرعب، وهو يستند إلى مشروعية مزيفة من مشروعاتٍ ضئيلة الجدوى، إن لم تكن معدومتها ومكاسب سلبية من عينة القضاء على الإرهاب والنجاة من الفوضى وغياب الأمن، تلك المكاسب التي كرستها معادلة «أحسن من سوريا والعراق». مشكلة السيسي الكبرى الآن أن ما كان حدساً أو شكاً لدى الجمهور، الذي يُؤذى ويتألم يومياً في معاشه، تأكد بصورةٍ فجة مع ما أسميتها مدافع محمد علي وتأكيد السيسي الصفيق له.
لقد صار اللعب الآن على المكشوف تماماً.
ولئن كانت الطبقة الحاكمة والمستفيدة والخائفة من الثورة، لأي سببٍ كان، تدعم السيسي فهو يدرك أنه يخوض حرب بقاءٍ، إما قاتلاً أو مقتولا. أما مشكلته الثانية، والعويصة للغاية أيضاً، فهي كونه ومن معه، لا يفهمون، وبالتالي يلجأون إلى أساليب لن تنجح. لقد قرر السيسي أن الحل يكمن في العنف، العنف غير المتكافئ الخارج تماماً عن قاعدة النسبة والتناسب، فهو لا يدرك أن العنف وحده بدون مكاسب مادية أو غطاءٍ أيديولوجي أو تخويفٍ من العدو الخارجي لا ينفع، وقد خسر لتوه مسوغ الخوف والفقر العام، بما تكشف من أمر قصوره وإثرائه على حساب الناس. الأهم من ذلك أنه إذ عصف بناشطين وصحافيين وقياديي أحزابٍ، وفق التقليد المتبع فقد أكد أنه لم يستفد إطلاقاً من درس يناير. لقد صدق أن الشباب هم الذين يفجرون الثورات، وللأسف فقد تبعه في ذلك مثقفون وناشطون محسوبون على اليسار، أو هم يعدون أنفسهم كذلك. ثمة خلطٌ بين الثورات والتنظيمات، أو الأحزاب، فالثورات إن اندلعت فإنما يكون نتيجة الظرف الموضوعي الناضج، حيث تحتدم التناقضات الاجتماعية إلى درجةٍ الانفجار. لا يعني ذلك أنها تقع بصورةٍ آليه أو حتمية، وهنا دور التنظيم الثوري الذي يبحث في المواقف عن كوامن الثورة واحتمالاتها، فيصقلها ويغلبها ويقودها إلى مسار الثورة، حتى إذا ما انفجرت كان جاهزاً للاضطلاع بمهمة القيادة. في غيابه ستستمر الثورات في الاندلاع، لكن تصير المعضلة في مصيرها ومن يقودها ولا يعني ذلك حتمية انتصارها في وجوده على أي حال.
شاهدٌ على انعدام الفهم ذاك هو تصورهم أنهم باعتقالاتهم تلك سيجهضون الثورة، غير مدركين أن سبتمبر 2019 يختلف عن أخيه في 81، فالجمهور اختلف ويصعب الحديث عن علاقةٍ بين تلك النخب (استخدم الكلمة مجازاً) والجمهور الأعرض الذي لم يتسيس قبل يناير، والذي نشأ في غيبة أي اهتمامٍ حقيقي من الدولة، في ظل منشآت عامة ومؤسسات متهالكة (بالطبع هناك استثناءاتٍ بسيطة)، والذين خرجوا أخرجهم السيسي بصفاقته وصلفه. كما أسلفت، ليست لدى السيسي ونظامه أفكار لامعة أو جديدة، لذا فلن أتعجب إذا سمعت في الأيام المقبلة عن هجومٍ إرهابي في سيناء أو واحةٍ ما أو تفجير كنيسة. أعلم أن هناك من يرى في ما حدث صراعات أجنحةٍ في السلطة. في الحقيقة لا أملك خبراً يقيناً عن ذلك، ولا أحب أن انسج أوهاماً بدوري تحاكي أوهام الطبقة الحاكمة، لكنني في المقابل على يقين من أن الطبقة الحاكمة والمنتفعة التي تختبئ وراء السيسي، صنعت منه صنماً بما نسجته حوله من أوهام الذكاء والدهاء والفطنة والرؤية، وإذ تخوض حرباً طبقيةً حقيقية، ستدعم عنفه حتى النهاية. ستستهلكه وتأكله، فهو ليس نمراً من ورق، وإنما صنم من عجوة، صنع كظاهرةٍ ليؤدي الغرض لا أكثر، وقد ارتعد من نزول الناس إلى الشارع، وإذا ما أثبت فشله، وعلى الرغم من وضعه رجاله الذين يثق فيهم في كل مكان، فليس من المستبعد التخلص منه.
*كاتب مصري
سأكتفي بعبارتك الجميلة التي تنطبق على بقية العساكر الذي حكموا مصر من52 على تفاوت فيما بينهم، حتى جاء أكثرهم غباء وغدرا وخسة:”صنم من عجوة، صنع كظاهرةٍ ليؤدي الغرض لا أكثر، وقد ارتعد من نزول الناس إلى الشارع، وإذا ما أثبت فشله، وعلى الرغم من وضعه رجاله الذين يثق فيهم في كل مكان، فليس من المستبعد التخلص منه”.