يقال الوجود على عدة أنحاء بتعبير أرسطو في كتابه «الميتافيزيقا». ويمكن عدّ هذا القول البليغ انطباقا على المشروع التي دشنه الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر (1889- 1976)، والممتد من الفينومينولوجيا إلى الأُنطولوجيا، والذي يشكل أثرا فلسفيا قائما على بارديغم فلسفي عميق يمد الجسور بين الفكر والشعر، مروا بنقد الميتافيزيقا (نسيان الكينونة) التي تضاعفها التقنية في وقتنا الراهن. وقد كان لفكره هذا أثر في القرن العشرين، وجد امتداده في أعمال تلامذته النجباء مثل هانز جوج غادامير، وهانس جونا ، وإيمانويل ليفيناس.
إن الانهمام (( Sorge بالدزاين (Dasein) لدى مارتن هيدغر يرتبط – سواء تعلق الأمر بمدخل إلى الميتافيزيقا، أو بالكينونة والزمان أو أصل العمل الفني- بما يسميه «الكينونة في العالم»( الكينونة في العالم معناها الوجود في مكان ما أو الوجود على سطح شيء ما، كما وجود كأس شاي فوق مائدة، لكن وجود الإنسان في العالم لا يشبه وجود الأشياء في المكان، بل هو الوجود في عالم خاص، فلي عالمي الذي أوجد فيه، وهو غير عالم الآخرين، لكل عالمه الذي يوجد فيه. وانطلاقا من هذا العالم الخاص أتعامل مع موضوعات العالم وأشيائه. لكن هذه الـ«في» لا تعني سوى السكن في العالم؛ أي الانتماء إليه( الذي يؤشر إلى إحساس الفرد بالوجود داخل جماعة، والانتماء إليها، والانفصال عنها، غير مبال بما حوله العزلة، والغربة، والقطيعة في الآن نفسه. وليست الهوية بمقتضى الدزاين سوى نداء للوجود (ينظر محاضرة مارتن هيدغر الموسومة بـ«ما الميتافيزيقا»)، وتتصل بكون الدزاين ذخيرة أنطولوجية حاملة لوعي قلق الحضور المتعين داخل العالم، وبالموجود الذي يسمح للوجود بما هو موجود أن يوجد، وبالطابع الجوهري للفكر، الذي يحمل شقاء التفكير، في وقت لم يعد الكلام عن ماهية الوجود الإنساني- بتعبير ميشيل هار- لأن التقنية توازي الميتافزيقا في جعل الإنسان ينسى كينونته الأصيلة.
لا يزال الصرح الفلسفي لمارتن هايدغر- على الرغم من رحيله- يثير اهتمام الفلاسفة، وغيرهم من لسانيين ونقاد، ومفكرين ومبدعين؛ وهذا ما عبر عنه هانس غادامير في «دروب هيدغر» بقوله:»مهما يكن من أمر فإن هيدغر هناك وليس بمقدور المرء تجنبه»، بيد أن شقاء التفكير لدى مارتن هيدغر يرتبط بتبعات الحضور في عالم السياسة، من حيث هو ماض لا ينفصل عن الذات المفكرة، وهي تختار العزلة، مكتفية من داخل مشروعها بنفي الانتماء إلى الجماعة. وخلف هذا يقبع ظل هايدغرالمفكر الشاب، المتسم بطاقة فكرية ومفهومية هائلة، جعلت ويلهلم ديلتاي يصفه برائد نقد العقل التاريخي. وربما أن هذه السمعة الفكرية التي تمتع بها راعي الكينونة منذ شبابه لم يُترافع عنها دوما بالحماس نفسه؛ فقد لحقت بمشروعه لعنة الولاء للنازية التي لم تنمح بلجوئه إلى العزلة في الغابة، بعيدا عن صخب السياسة، واستمرت في ملاحقته حتى بعد مماته؛ حيث لم يقفل نهائيا ملف علاقته الملتبسة والحارقة بالنظام النازي.
يعكس هيدغر التقاطع بين السياسي والفكري على نحو إشكالي، لا ينفع فيه الركون إلى الإجابات الجاهزة. إنه يجد نفسه أمام الاستقطاب السياسي العنيف، قبل نشوء الحرب العالمية وخلالها؛ وأمام الفكر النازي الذي يسعى إلى ترسيخ مشروعية تزمنه، ولم يكن أمامه سوى أن يلتقط ما يحيط به بحماس الشاب، لكن مع الحرص على التزمن الفردي للكائن ارتباطا بمشروعه الفكري الذي يقيمه على الوجود – في- العالم بالسكن فيه راعي الكينونة. وهو في هذا كان يبتعد بإرادته الأنطولوجية عن الزمان، الرأي العام، والعالم الذي تسكنه الجماعة، وكان عليه أن يبني عالمه الخاص بهدف الانفلات من شرك السياسة، التي كان يتهكم عليها على الرغم من أنه عاش تحت تأثير طموح أدولف هتلر، الذي حاول جعل العالم يخضع لإرادته السياسية، والذي كان طبيبا سياسيا لعالم ينقصه الانفعال الخلاق، بتعبير برغسون.
كيف كان هيدغر لا يمارس النقد تجاه ما يجري أمامه، في الوقت الذي كان يميل فيه إلى الإنصات إلى نداء العالم، ملبيا دعوة الدزاين في الفلسفة، والشعر والفن؟
لقد كانت السياسة دائما تفتقر لخصائص الوجود العميقة وللكائن في منعطفاته الأنطولوجية، وكانت وما زالت تميل إلى السطحية والانفعال، بيد أن الطابع الإشكالي لتقاطع الفكر والسياسة الملتبس، يظهر في السؤال المقلق، وهو كيف كان هيدغر لا يمارس النقد تجاه ما يجري أمامه، في الوقت الذي كان يميل فيه إلى الإنصات إلى نداء العالم، ملبيا دعوة الدزاين في الفلسفة، والشعر والفن؟ لم تقتصر لعنة هذا السؤال على هذا التقاطع، بل تقودنا في جزء من تفاصيلها إلى سجل العلاقة العاطفية، التي كانت تجمع بين الفتاة (اليهودية) اليانعة حنا أرندت وأستاذها (النازي) مارتن هيدغر (ينظر الدفاتر السّوداء)، عبر مراسلات كشفت طبيعة الحب الصامت الذي جمع بينهما، وإن كان هيدغر» المتزوج» يصرح لها بقوله في إحدى رسائله: «لن أستطيع امتلاكك أبدا، لكنك ستنتمين منذ الآن إلى حياتي». هذه الرسائل التي كتبت ما بين 1925 و1930 تؤشر إلى حب قوي وغامض، يمكن تلمسه في قول مارتن هيدغر في رسالة موجهة إلى حنا أرندت: «لماذا يكون الحب فوق طاقة كل الإمكانيات الإنسانية الأخرى، ويكون ثقلا حلوا بالنسبة إلى المحب؟».
لقد وجد راعي الكينونة المغفرة في اكتساب شرعية الانتماء إلى عالمه الخاص، من علاقته الملتبسة بحنا أرندت؛ حيث كان هذا الانتماء يعلن عن نفسه من خلال التوقيع «مارتن الذي لك» الذي كان ينهي به رسائله إليها. لكن ألا تعد علاقته بها تعبيرا عن وضعه الإشكالي، الذي يظهر في التقاطع الملتبس بين السياسة والفكر؛ ألم تكن حنا أرندت الصدى لفكره، بينما كان وضعه بصفته رجلا متزوجا يرمز إلى السياسي. لقد كان صاحب» الوجود والزمان» يعي جيدا أن وضعه لا يسمح له بالارتباط العاطفي بطالبته؛ لذلك كان يطلب منها السفر إلى مدينة «ماربورغ» لكي يلتقي بها بعيدا عن الرقابة الاجتماعية. لكن حنا أرندت استطاعت أن تضع حدا لعلاقتها به في النهاية. وبهذا يعلن السياسي عن نفسه بصفته امتدادا للذات وتاريخها، فلا يمكن الانفلات من تبعاته. ولا يسمح لحنا العاشقة اليهودية أن تواصل علاقتها بحبيبها، الذي علقت النازية بجلده.
لم تحرم علاقة مارتن هيدغر الملتبسة بالنازية من أن تبقى حنا أرندت بجانبه محبة له، بل حكمت عليه بمصير أكاديمي مأساوي، نتج عنه حرمانه لسنوات عدة من التدريس في الجامعات الألمانية، نظرا لاتهامه بالفاشية؛ حيث لزم بيته الجبلي في توتناوبرج، في ما يشبه «الإقامة الإجبارية» إلى أن توفي عام 1976. لقد كانت مواجهة هيدغر بتهمة الانتماء إلى الحزب النازي في أوج شهرته بعد عام 1927 قاسية ومؤلمة، خاصة بعد شيوع كتابه «الكينونة والزمان».
ويرى إيمانويل فاي في ضوء الأعمال الكاملة لهيدغر، أن التوجه نحو النازية لم يكن وليد سياقات منفصلة، بل يمثل خيطا متصلا، يبرز بشكل واضح في الدروس، التي قدمها خلال المدة التي تمتد من سنة 1933 إلى سنة 1944 ما يضع فلسفة هيدغر، خاصة منها الجانب الأيديولوجي، في موضع محرج. ويظهر هذا الإحراج في النقد الذي وجهه الفيلسوف الإيطالي لوسوردو إلى تصور هايدغر، خاصة لمفاهيم مثل الكائن، والشعب، والمصير والدولة. ولم يتردد إيمانويل فاي في كشف قناع راعي الكينونة الأيديولوجي بعد ظهور وثائق سرية تكشف تورط هيدغر في عمليات لصالح حزب العمال الألماني الاشتراكي، حيث أشرف على المنظمات العسكرية للطلاب وهيئة التدريس، بهدف ضمان الولاء للقائد هتلر؛ وقد حدث هذا خلال مدة رئاسته الجامعة الألمانية (جامعة فرايبورغ) عام 1933.
أتكفي مرجعيات الايديولوجيا لنفي المشروع الفينومينولوجي والأنطولوجي الهيدغيري؟ أم أن الأمر يستدعي الاكتفاء بإعادة قراءة متنه الفلسفي بعيدا عن النزوع السياسي، لا عند هيدغر فقط، بل أيضا عند من يقرأه؟
بيد أن أطروحة إيمانويل فاي- في تقديري- ليست جديدة لأنها ليست سوى إعادة إنتاج لكتاب فيكتور فارياس، الموسوم بـ”هيدغر والاشتراكية الوطنية”، لكن لم يكن التقاطع بين الفلسفة والسياسة واضحا عند هيدغر، على الرغم من الوقائع التاريخية؛ فقد وجد من ينزهه، وقد تكفل جاك دريدا بالدفاع عن جدية التصور الفلسفي الهيدغيري، في ضوء مجموعة من المعطيات تفند نازية الفيلسوف، ومن بين هذه المعطيات علاقته بتلميذته اليهودية حنا أرندت، لكن على الرغم من الأخذ والرد في هذا الجانب، يبقى السؤال الجوهري الذي يجب طرحه هو الآتي: أتكفي مرجعيات الايديولوجيا لنفي المشروع الفينومينولوجي والأنطولوجي الهيدغيري؟ أم أن الأمر يستدعي الاكتفاء بإعادة قراءة متنه الفلسفي بعيدا عن النزوع السياسي، لا عند هيدغر فقط، بل أيضا عند من يقرأه؟ ويجب أن يأخذ في الحسبان في الإجابة عن هذا السؤال امتداد المشروع الهيدغري في فكر كثير من الفلاسفة، من أمثال سارتر، ودريدا، وأدورنو، وغادامير وغيرهم. وحتى ننصف الرجل نفضل رأي الألماني يورغان هابرماس سليل مدرسة فرانكفورت الأشد معارضة للفاشية، الذي يعد علاقة هيدغر بالنازية مجرد «حادثة عارضة»؛ وربما كان الأساس في دراسة المنجز الفلسفي لفيلسوف ما، أهم بكثيرمن تعقب سيرته؟
إن الجزء الأكبر من الإجابة عن هذه العلاقة الملتبسة، يمكن إيجاده في فلسفة تلميذ هيدغر هانز جورج غادامير، من خلال تطوير النظرية التأويلية، وعلى نحو خاص في عمله الأثير «الحقيقة والمنهج». فلا غرو من القول إن الأطروحات الأيديولوجية ذات عواقب وخيمة على الفكر الفلسفي المعاصر، وعلى نحو خاص الأطروحات التي تربط فلسفة مارتن هيدغر بالنزعة النازية. بيد أن الأمر لم يصل إلى مستوى الدعاية الصريحة الفجة، ولا يمكن مقارنة صاحب»الوجود والزمان»- في هذا السياق- بمنظر الفاشية الإيطالي جوفاني جنتيلي، فالرجل لم يكن فيلسوفا رسميا للنازية، تبعا لتصريح المنظر الرسمي للنازية روزنبارغ، ولا أحد دعاتها المهووسين.
يجب عدم الانجرار وراء أثر النزعة النازية في فلسفة مارتن هيدغر لصالح قضايا سياسية مزيفة، ولا أيضا وراء تبني ما ورد في كتاب «يد هيدغر» لجاك دريدا تمام التبني، بقدر ما يجب الانشغال بتصوراته حول الدزاين، والكينونة والفن، والتقنية، والوجود ونقد الميتافيزيقيا والتقنية، وفهم ما يمكن أن يكون ملائما من هذه التصورات لعصرنا، ولتقدم الفكر نحو آفاق جديدة غير مطروقة.
٭ كاتب مغربي