لم تنجح عاصفة الاستنكار وعرائض الاحتجاج الموجهة إلى الحكومة الإيطالية في ثني وزير النقل ماتيو سالفيني عن قرار إطلاق اسم «سيلفيو برلسكوني» على مطار مالبنسا في ميلانو. وقد لخص البرلماني ماركو غريمالدي شذوذ الموقف الناجم عن سخافة التسمية الجديدة قائلا إنما تسمى المطارات بأسماء الأفذاذ والعظماء، ولكن «لست أدري إن كان الوزير يعلم أن مطار روما يحمل اسم ليوناردو دافينتشي ومطار البندقية اسم ماركو بولو (..) ومطار بولونيا اسم ماركوني، ومطار بيزا اسم غاليليو»… وأضاف أنه سيشعر بالعار لو أنه طار في رحلة من مطار فالكوني وبورسلينو (في بالرمو) إلى مطار برلسكوني (في ميلانو) علما أن جوفاني فالكوني وباولو بورسلينو كانا من القضاة الذين اغتيلوا أثناء التحقيق في جرائم المافيا.
ومن المعروف عالميا أن برلسكوني هو أحد أكبر رموز الدجل والفساد والاحتيال وأنه هو الذي دشن، منذ أواخر القرن المنصرم، هذه الحقبة التاريخية البئيسة التي نشهد والتي صار من السهل فيها للسفهاء ومجانين العظمة الموهومة أن يقتحموا دنيا السياسة في عقر بيت كبريات الديمقراطيات، بل وأن يعتلوا أعلى مناصب الحكم في العالم. وتضم «سلالة الدجال» هذه التي أسسها برلسكوني شخصيات غريبة الأطوار أو محدودة القيمة من طينة الفرنسي نيكولا ساركوزي، والأمريكي جورج بوش الابن، والبريطانيين بوريس جونسون وليز تراس ونايجل فراج، والبرازيلي جايير بولسونارو، والأرجنتيني خافيير ميلاي. وإذا كان المجري فيكتور أوربان لم ينتسب إلى الشجرة بعد، فإنه من المترشحين لها بجدارة.
انتشرت على وسائل التواصل صور كثيرة تظهر ترامب جالسا بينما يسوع الأشقر ذو العينين الزرقاوين قائم عليه يظلله بغمامة الرعاية والسكينة
أما أجدر البشر بأن يبقى اسمه عنوانا لهذه الحقبة المزرية التي دشنها برلسكوني فهو دونالد ترامب. إذ تجمع بين الرجلين وجوه شبه كثيرة لعل أبلغها دلالة ادعاؤهما القداسة أو النبوة: أي اعتقاد كل منهما أنه مبعوث السماء التي تحيطه بالرعاية والحماية! من ذلك أن برسلكوني ادعى أنه «يسوع السياسة» وأن ترامب خاطب أنصاره، لما كان يواجه المحاكمة التي انتهت بإدانته بجميع التهم الأخلاقية والمالية الموجهة إليه، مدعيا أنه يتعذب ويتألم، «من أجلكم» عذاب المسيح وألمه. وكان الممثل جون فويت قد زعم في فبراير أن ترامب يتعرض للاضطهاد، مثل يسوع، بسبب حملته التي لا هوادة فيها على مستنقعات الفساد (!). وقالت عضو الكونغرس عن ولاية جورجيا مارغوري تايلور غرين في خطاب جماهيري الشهر الماضي «إن الديمقراطيين والقائمين على إعلام الأخبار الزائفة ما ينفكون يرددون أن ترامب مجرم ثبتت إدانته». ثم قالت للجموع: «فلتعلموا إذن أن الرجل الذي أعبده (!) قد ثبت عليه الجُرم هو أيضا وأنه قُتل على صليب خشبي روماني».
كان كل هذا قبل أن يتعرض ترامب لمحاولة الاغتيال التي نجا منها بأعجوبة خارقة رسّخت لدى أنصاره الإيمان بخرافة أنه مبعوث العناية الإلهية وأن يسوع يحيطه بالحماية الأبدية. وقد انتشرت على وسائل التواصل صور كثيرة تظهر ترامب جالسا بينما يسوع الأشقر ذو العينين الزرقاوين (لأنه أمريكي بطبيعة الحال!) قائم عليه يظلله بغمامة الرعاية والسكينة.
على أن برلسكوني ليس الإيطالي الوحيد الذي يمتّ إليه ترامب بنسب سيكولوجي أو سياسي. بل إنه قد شاع القول لدى بعض المؤرخين بأن مَثَل ترامب مع الإمبراطورية الأمريكية كمَثَل يوليوس قيصر مع الإمبراطورية الرومانية. وتأتي هذه المقارنة على خلفية الخوف القديم المتجدد من بدء «انحدار الغرب» (حسب عنوان كتاب شبنغلر الشهير) وعلى خلفية الشعور المتزايد بأن أمريكا إنما تسير سيرة روما في نهاية عهدها الجمهوري. حيث إنها تتسم بشدة التنوع المفضي إلى التشتت، وبانتشار الارتباك والفوضى وبعدم القدرة على استحداث بناء تنظيمي جامع. فالمتوقع إذن أن كل هذا ستعقبه فترة انحطاط ثم يأتي إمبراطور ليضبط الأمور بيد من حديد. ولهذا منذ أن ظهر ترامب على مسرح السياسة ليظفر رأسا بالرئاسة دون إعداد ولا مقدمات، ثم ليتلاعب بجميع الثوابت والسنن والمؤسسات، فإن اهتمام المؤرخين والمفكرين قد انصب على فترات الفتن والاضطرابات في التاريخ الروماني. ولكن الكاتب اليميني مايكل أنطون يرى في ظروف الانحدار هذه ما يبرر المشابهة التمجيدية بين ترامب ويوليوس قيصر، أي ما يبرر لترامب ميوله الاستبدادية (التي أكدها مرارا في «إعلان النوايا الدكتاتورية» التي هدد بتنفيذها لو فاز مجددا) وذلك بزعم أنه لما يكون المجتمع في حالة انقسام ولما تعجز المؤسسات عن الفعل والعلاج، فإنه لا بد من تعليقها بغرض إعادة فرض النظام.
كاتب تونسي