ربيع جديد: الشرق الأوسط بين تاريخ الثورات ومستقبل البلاد

حجم الخط
0

بقدوم الربيع، تتغذى العيون برؤية الازهار، وتنتعش النفوس بعطر الطبيعة ونسيم الاشجار، فيلوح في الوجدان نغم جديد من نغمات التفاؤل الجميلة. في الشرق الاوسط، تبدو الامور مختلفة بعض الشيء، فكلما اقترب فصل الربيع، ترتبك نفوس وترتعش رؤوس، تحتار قلوب، فيتفاءل البعض، ويحبط غيرهم، بعد ان اختلطت بسمات نصر هنا بآهات احزان هناك. لطالما ذكرّهم الربيع بانطلاق الشرارة الاولى من الربيع العربي، التي اجتاحت المنطقة، وحلقت من دولة لاخرى، لتهدم نظاما تارة، وتدشن تدخلا اجنبيا تارة اخرى. تردم ألما، تحيي املا، تبني وطنا، وتعيد مجدا، بعد حين في احسن الحالات. استطاع ‘الربيع العربي’ ان يوقع بجميع المراقبين في شركه، حيث لم يتمكن اي من التكهن بهذا الحدث الجلل، الا انه وحتى الساعة، لم يقدم اي تعريف واضح ومتكامل للربيع العربي. نهدف في مقالنا اليوم ان نقدم تعريفا للربيع العربي، وتقييما وقراءة لمستقبل هذه المنطقة، ونعتمد على وضع الربيع العربي ‘كحالة’ ضمن اطار مركب ذي بعدين عالمي واقليمي، كلاهما له ملامحه الخاصة، وتركيباته، وفرضيات مرتبطة بسلوك عناصره، وهو الامر الذي سيمهد للجزء الثاني من المقال الذي يستعرض كافة المكونات السياسية التي تسمح باستقراء مستقبل المنطقة.
الطبقة الاولى تأتي في اطار الارتباط العالمي، حيث رأى بعض المحللين ان الموجة الحالية من الثورات العربية تأتي كمرحلة رابعة من مراحل التحول الديمقراطي العالمية، وفقا لمفهوم الكاتب سامويل م. هنتينغتون الذي عرضه في كتابه ‘الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في اواخر القرن العشرين’ عام 1991، مفترضا ان كل موجة من موجات التحول الديمقراطي تواجه موجة معاكسة، تزيل تأثيرها. الموجة الاولى من موجات التحول الديمقراطي حدثت في الفترة 1828-1926، وبدأت جذورها بالثورة الفرنسية والامريكية، وانتشرت عبر اوروبا، وامريكا اللاتينية، وتميزت بتفشي ‘الانقلابات العسكرية’. الموجة الثانية حدثت في الفترة 1943-1962، وتميزت بعدد من الانقلابات، وانتشار الانظمة الشمولية في امريكا اللاتينية، جنوب وشرق اسيا، وبدء الاستعمار من قبل الحلفاء عقب الحرب العالمية الثانية. الموجة الثالثة حدثت خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وتجسدت بانهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وانتشر اثرها عبر جنوب اوروبا، امريكا الجنوبية، وافريقيا.
خلافا لرأي الكثير من الكتاب بان المرحلة الثالثة من التحول الديمقراطي مازالت طور النشاط، يرى عدد من الباحثين مثل د. علي سرحان من جامعة جورج تاون، ان انطلاق الربيع العربي يمثل بدء الموجة الرابعة من التحول الديمقراطي العالمي، حيث انه اكتسب الصفة العالمية لما كان لها من تأثير وتداعيات ادت لتفشي الاضطرابات والتظاهرات في اوروبا، واسيا، والامريكيتين.
الطبقة الثانية التي تدور في فلكها ثورات العرب هو الارتباط الاقليمي، حيث ان الربيع العربي الحالي لم يكن الموجة الاولى من تحركات الشعوب العربية التي ادت لتغيرات سياسية واجتماعية.
جاءت الموجة الاولى من موجات الثورة العربية عام 1914، وسميت ‘الثورة العربية الكبرى’، وتميزت بوجود قائد معروف هو الشريف حسين، وكانت تهدف لانهاء الوجود العثماني على الاراضي العربية. تزامنت هذه الثورة بحدثين كبيرين، اولهما عالمي وهو الحرب العالمية الاولى، في حين كان تراجع، وضعف، وانحسار ومن ثم انهيار الامبراطورية العثمانية الحدث الاقليمي الابرز في هذه المرحلة.
كان التأثير الخارجي واضحا في هذه الثورات، حيث كانت بريطانيا الداعم والمحرض الرئيس عليها، بهدفها ‘غير المعلن حينها’ وهو استبدال الوجود العثماني في المنطقة بوجود غربي. ولهذا السبب، جردت الثورات من هدفها الرئيس وهو الاستقلال.
اشار د. محمد شاهين من جامعة الغازي في تركيا لهذا الامر في مقالة له بعنوان: ‘ثورات العرب 1950-1960 والربيع العربي 2011: التشابه والاختلاف’، حيث يقول د. شاهين : ‘…التغير الوحيد كان هو: السيد، فبدل ان يكون ‘المسلمين الاتراك’، اصبح السادة الجدد ‘المسيحيين’ (الانجليز والفرنسيين). رفعت العديد من الشعارات، والايديولوجيات، وكانت ‘القومية’ الشعار الابرز، بهدف تشجيع العرب التخلي عن اية تبعية لفكر اخر ـ وبالتحديد الاسلام ـ الذي سيعني تلقائيا سلخ المواطن العربي عن اي ارتباط بالسلطان العثماني، وخلع اي التصاق بالارث العثماني.
حدثت الموجة الثانية من موجات الثورة العربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وسميت في ذلك الحين ‘الربيع العربي’ من قبل الكاتب الفرنسي جاك بينسوا ميشان في كتابه ‘االربيع العربي’ عام 1959، محاولا ربط ثورات العرب بالثورات الاوروبية التي وقعت في عام 1849 وعرفت باسم ‘ربيع الامم’ او ‘ربيع الشعوب’.
ربيع العرب الثاني حدث في سياق حدث عالمي هو الحرب العالمية الثانية، التي اسهمت بشكل كبير في وجود تأثيرات خارجية على مسار حراك الثورات العربية. شجعت وساعدت قوى اجنبية ثورات العرب على التحرك ضد قوى اجنبية اخرى، ودعمت القوى الشيوعية هذه الثورات من اجل محاربة الوجود الغربي في المنطقة العربية، تحت ستار محاربة الامبريالية وانهاء الاستعمار. ومن هنا ظهرت شعارات وايديولوجيات جديدة على المنطقة العربية خلال هذه الفترة مثل ‘محاربة الامبريالية’، ‘الشيوعية’، ‘الاشتراكية’ و’التقدمية’.
الحدث الاقليمي الاكبر كان اقامة دولة اسرائيل وسط الشرق الاوسط العربي، حيث ادى لبروز شعار وايديولوجية جديدة وهي ‘العروبة’، الذي تزعمه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. انتشر هذا الفكر بسرعة، وبشكل متسق في كافة ارجاء الدول العربية، وهو الامر الذي الهم الاخرين ليقودوا ثورات في بلادهم. يمكننا القول ان احد اسباب رواج الفكر ‘الناصري’ و’العروبة’ هو ان نشأتهما جاءت كتطور طبيعي ورد فعل تلقائي على الصهيونية التي افرزت المكون الجديد في المنطقة: دولة اسرائيل. لم تستهدف هذه الثورات اسرائيل، بل بدأت في اقتناص الوجود الاستعماري ‘المحفز والداعم لجذور الصهيونية المسؤول عن قيام واستمرار دولة اسرائيل’. دفع عدد من العروش ثمنا لهذه التطورات، عرفت بميولها الغربية، او ولاءاتها للقوى الاستعمارية كما حدث في ليبيا والعراق، وقبلهما في مصر.
الموجة الحالية من موجات ثورات العرب، تختلف بعض الشيء عن سابقاتها، حيث لا يعرف لهذه الثورات ‘قائد’، كما انها تفتقد لوجود ‘محرك خارجي’. اشارت د. نادية مصطفى من جامعة القاهرة لهذا الامر في المؤتمر السنوي الثاني Insight Turkey في القاهرة عام 2012، حيث وصفت محرك الثورات ‘ديناميات داخلية’، كما وصفتها البروفيسورة زيا اونيس ‘مدفوعة بقوى داخلية’ وذلك في ورشة عمل بعنوان ‘نعمل معا من اجل الديمقراطية في العالم العربي’ في انقرة عام 2011. يمكن القول ان العديد من العوامل اسهمت في هذا الحراك مثل الظروف الاجتماعية والاقتصادية، المعدل الكبير لنسبة الشباب، التطور الهائل في تكنولوجيا الاتصالات، اضافة لاسباب اخرى.
جاءت هذه الموجة في اطار حدث عالمي بارز وهو انهيار الاتحاد السوفييتي، الذي ادى لكشف ضعف وقلة حنكة انظمة المنطقة حيث وقفت ساكنة في بيئة وحقبة يسودها الكثير من التغيرات، ولم تغير سياساتها او ارتباطاتها التي سبقت هذا الحدث. الحدث الاقليمي الاهم كان انهيار اول نظام دكتاتوري في المنطقة واحتلال الولايات المتحدة الامريكية للعراق. لقد كان صدام حسين من اكثر المنادين والمدافعين عن العروبة، الى ان قام باحتلال دولة عربية، ومن ثم قام المعسكر الغربي بضرب العراق العربي، وسط مشاهدة وتأييد كثير من الانظمة العربية. لقد ادى هذا الحدث لشرخ ادراكي للذين كانوا وما زالوا يؤمنون بالعروبة. انحسر التأييد للفكر العربي والعروبة بشكل عام، وخرجت افكار حديثة من رحم هذه المكونات الجديدة، لتجد طريقها الى العلن بانطلاق ثورات الربيع العربي، وكان ابرزها الفكر الاسلامي (وليس الاسلام كدين وعقيدة)، والفكر الليبرالي (بما يعني التوجه نحو الانفتاح والعصرية).
افرز الربيع العربي الحالي ايضا العديد من المطالب الاجتماعية كحقوق الانسان، والديمقراطية، وتحسين الاوضاع الاقتصادية والمعيشية، ومطالب سياسية مثل الاستقلال (عدم التبعية للتأثير الاجنبي).
ادى فراغ السلطة بسبب جملة من امور (مثل انهيار الاتحاد السوفييتي، الاطاحة بانظمة عربية بعينها، اضافة لوهن وترهل الدول العربية المعروفة بدورها القيادي التاريخي) لحقيقة حتمية وهي تدخل القوى الاجنبية (سواء الاقليمية او العالمية). اقليميا، تظهر كل من تركيا وايران واسرائيل الاوفر حظا للعب دور في المنطقة، الا ان اسرائيل اقلهم حظوظا، حيث ان سلاما مع الفلسطينيين ‘يفتح لها جميع ابواب المنطقة العربية’ لم يتحقق بعد، كما انها مختلفة ثقافيا وتاريخيا ودينيا عن جميع شعوب المنطقة. الحقيقة حظوظ ايران افضل من حظوظ سابقتها، فهي جزء من المنطقة، مرتبطة بها تاريخيا، وثقافيا، ودينيا، ونجحت بخلق شبكة من التحالفات داخل المنطقة. ولكن الكثير من العرب لا يرى في ايران نموذجا جذابا، خاصة اذا ما تعلق الامر بالحريات والعصرية وعلاقاتها مع باقي دول العالم. هذا الامر يرجح كفة تركيا، التي هي جزء من المنطقة بمكوناتها المختلفة، وتتمتع بديمقراطية، وحريات، وحياة عصرية، ولديها اقتصاد صاعد وعلاقات مميزة مع باقي دول العالم، في وجود نخبة حاكمة ذات جذور وتوجهات اسلامية. الا ان الحديث عن ‘النموذج التركي’ استهلك اعلاميا بشكل كبير، وبدء يضع شعبية تركيا في الشارع العربي على المحك، حيث ان الحماس المفرط حيال المنطقة والاستخدام المكشوف للسياسة الناعمة قد يؤدي لنتائج عكسية.
قد لا يكون صعبا فهم اسباب تسلل شعور الاحباط عند كل عربي، حيث يؤمن انه الاحق بتقرير مصيره، والاجدر برسم مسار امته، وهو الامر الذي لن يتحقق الى ان ينفض نخب ومفكري وقادة هذه الامة غبار التردد والخوف عن اكتافهم.

‘ كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية