رجال أقوياء أثرياء ونساء بلا ثمن

لم أستفق على الواقع البائس الذي تعيشه النساء في العالم اليوم أو البارحة، بل منذ بدأت مداركي في التفتح وعقلي في النضج، وصرت أرى وأراقب فألاحظ وأدون، وذلك بصورةٍ أخص في منطقتنا العربية، التي لم تكد تعود إلى التاريخ في موسم الثورات، حتى هرول قادة الثورة المضادة يسوقونها خارجه.
وبموازاة وعيي لتفاوتات التحرر والإنجاز بكل معانيهما، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، بين الغرب مثلاً وعلى رأسه البلدان الاسكندنافية، ومصير المرأة العربية، ما يُعد عسفاً إنكاره، وجدلاً لا يتعدى حوار طرشانٍ لا طائل من ورائه في نظري؛ بموازاة ذلك وإذ تعمقت قراءاتي أدركت وفهمت أن قضية المرأة واستعبادها، ليس أمراً عارضاً أو اعتباطياً، بل نتيجةً ومحصلةً تاريخية لأنماط الإنتاج، وطبيعة توزيع العمل في المجتمع، وما تخلق انعكاساً لذلك من التصورات عن العالم، نسجت الأساطير وغدت قناعات وعقائد، تخلفت كالجبال الجاثمة على كواهلناً اليوم، بعد أن بليت وبادت جُل الظروف التي نمت على تربتها.
أجل لم أستفق على هذا الواقع اليوم أو البارحة، إلا أن جملةً من الجرائم التي صارت قضايا رأيٍ عام في الأعوام الأخيرة، جلت وفسرت بصورةٍ مبهرة معاني الاستعباد والاستغلال تلك، كما أتاحت وفتحت، بتفاصيلها الكثيرة المزعجة، طريقاً مختصرة لفهم طبيعة العلاقات الاجتماعية الحاكمة والمتنفذة للرأسمالية بتنويعاتها المحلية.
على صعيدٍ عالمي، هناك فضيحة جيفري إبستين الملياردير الأمريكي بميله المنحرف للفتيات القاصرات، وما تكشفت عنه التحقيقات في قضيته من زيف وبهيمية كثيرين من نجوم المجتمع المخملي، الذين إما صادقوه أو تورطوا معه، وفي مقدمتهم على سبيل المثال لا الحصر ترامب (في الحقيقة ليست هذه أول ولا آخر ولا أحقر فضائحه) وكلينتون، كما كشفت تواطؤ أجهزة الدولة، سواءً التنفيذية أو القضائية أو السياسية للتغطية عليه، مستندةً إلى سطوة رأس المال المتبجحة، حتى إذ افتُضح الأمر أسرع كلٌ منهم يتنكر له، وينفي أي علاقةٍ به، حتى انتهى به المطاف منتحراً شنقاً في زنزانته، الأمر الذي لم يحسم، لا الجدل ولا الشك كما لنا أن نتوقع. ولأننا لا يجوز أن نتخلف عن «ركب الحضارة» الأمريكي، فقد كان لأثرياء بلداننا حكاياهم العديدة، أحضرها إلى ذهني فضيحة هشام طلعت مصطفى، حيث أجر ضابط شرطة لقتل سوزان تميم في دبي، إلا أنه اتساقاً مع ميراثٍ عتيد من انعدام الكفاءة والفظاظة في التنفيذ والأداء، لم يطل الوقت حتى اكتشفوه، الأمر ذو الدلالة العميقة على مستوى وحرفية ذلك الضابط الأحمق (فضلاً عن كونه مجرماً) والمنظومة التي تدرب وترقى فيها.
و كان آخر بيتٍ (حتى يومنا) في هذا الموال الممتد من الكفر والقبح والقسوة والامتهان، تلك الجريمة التي جرت في فندق فيرمونت، منذ قرابة الست سنوات، حيث تناوب سبعة شبانٍ على اغتصاب فتاةٍ، بعد دس مخدرٍ لها ومن ثم مهروا مؤخرتها بإمضاءاتهم تخليداً لإنجازهم العظيم ذاك؛ الأهم أنهم ينحدرون من أسرٍ ثريةٍ مشهورةٍ، «واصلون» جداً بالمعنى الدارج، متداخلون في أروقة السلطة ودعم الانقلاب.
تلك الجريمة (مضافةً إلى كل ما سبق) استدعت واستحضرت إلى ذهني جملةً من المقولات والآراء، فساقتني إلى بعض الملاحظات مما سأورده

السوق

لئن كنت مهدت بذكر علاقات الإنتاج وألقيت باللائمة على الرأسمالية في طورها الحالي، فإنني أجد الإجابة والتفسير لكل هذه الجرائم والوقائع في كلمةٍ واحدة: السوق، وعلاقات العرض والطلب والسعر أو الثمن. وفقاً للسوق بأل التعريف ومنطلقاً من منظوره فإن لكل شيءٍ ثمناً، وعلى رأسهم الناس؛ يحضرني هنا السادات حين أعرب عن رأيه يوماً لأحد الصحافيين بأنه وعبد الناصر آخر الفراعنة، وأن الدستور والقوانين الخ لمن سيأتون بعده، لقد كان في حقيقة الأمر يعبر عن منظورٍ طبقي سوقيٍ بالمعنى الحرفي، فهناك من هم فوق القانون، يملكون ما يكفي لكي «يسلعوا» ومن ثم «يثمنوا» الأشياء والناس، وكما تبدأ الرأسمالية بالقن المتحرر حديثاً أو الفلاح الذي هجر أرضه إذ يفد على السوق ليبيع طاقته وقوة عمله، فيصبح بذلك في نظر الرأسمالي أو الصناعي قوة عملٍ مجردة، فكذلك الحال (للأسف الشديد أقولها) مع كثيرٍ من النساء: يصبحن سلعاً، هناك تفاوتاتٌ بالطبع، إلا أن كثيراتٍ ممن يمتهن وظائف بعينها أو يكسرن بعض الأطر و»التابوهات» أو الأعراف يصبحن لا أكثر من ذلك في نظر رجالٍ كثيرين، مادةً حية للمتعة، مادة قادرة على التفاعل والحديث وإصدار الأصوات، تصلح لإفراغ الشهوة، وكأي مادةٍ أو سلعة فهي تباع وتشترى، تصبح ملكيةً خاصة تخضع لقواعد الملكية، بل لقد أُشيع أن أحد المتورطين في قضية هشام طلعت مصطفى، كان يقوم بإجراء عمليات تجميل للنساء، ليصقلهن على مزاجه، ومن الثابت أن كثيراً من هؤلاء كان يتم تمريرهن كالسيارات والساعات وعلب السجائر، بين شبكة من رجال الأعمال والأمراء في دليلٍ لعله يتيم على التضامن ووحدة العمل العربي، ولولا أن هشام طلعت لم يتحل بالروح الرياضية، حين هجرته سوزان تميم، وأن الجريمة تمت في الإمارات، متعدياً حدوده لما كنا سمعنا بها؛ لو أنها كانت في مصر، لكنا طالعنا خبر انتحارها قفزاً من شرفةٍ أو بطلقٍ ناري في مؤخرة الرأس.
لقد صرف كثيراً عليها ثم تركته، وهي في هذا محظوظةٌ نوعاً ما، وبصورةٍ ملتوية، إذ كلفته ملايين دفعها للقاتل التعس، بينما غيرها لا يحظين بهذا السعر. لقد قتلها لأنها سلعةٌ خسّرته، مادةٌ تالفة تخلص منها، ولولا الطلب المتزايد عليها من أثرياء كُثر لما حدث كل هذا. هو سوقٌ في نهاية المطاف وتلك قوانينه. بيد أن الجسد البشري لا يخدم المتعة، ويوفر قوة العمل فقط، بل هو يخدم وظيفةً أخرى شديدة الأهمية في الدولة الحديثة: هو وسيلةٌ للسيطرة، إذ عن طريق الإيذاء البدني، ضرباً وتعذيباً وانتهاكاً، أو حتى بالتهديد بذلك، يتمكن النظام بأجهزة أمنه من فرض إرادته على الناس وإلزامهم الخطوط والمسارات التي يرتئيها.

سيادة القانون

لعل شيئاً لم يعد يحزنني بقدر ما يستثير مرارتي أكثر من الإيمان الأعمى، حسن النية في حقيقة الأمر، في عدالةٍ عمياء بدورها، وهنا تحضرني المقولة البديعة لعلي بن أبي طالب: «هذا القرآن إنما هو خطٌ مسطور بين دفتين، لا ينطق إنما يتكلم به الرجال» وكذلك حال القانون، فهو ليس أعمى بالمرة، بل يُصاغ في سياقٍ تاريخي ويخضع تطبيقه للظرف السياسي والاقتصادي، فعلى سبيل المثال عدةٌ هي المناسبات التي رفض فيها ضباطٌ تحرير محاضر تعدٍ وانتهاكٍ وتحرش، وأمثلة الاختفاء القسري والتصفيات خارج القانون بالآلاف.
الأهم من ذلك أن السيسي الذي يمثل عهده امتداداً أكثر صفاقة لاقتران رأس المال الكبير بالسياسة، من مبارك، حقبة ارتأت فيها مؤسسةٌ عسكريةٌ نهمة لما تراه من عشارت المليارات، تتناقلها أياد «مدنية» أنها لا بد لها من قطعة أكبر من الكعكة، السيسي نفسه، الذي شهد عهده عنفاً وكسراً غير مسبوقين للقانون، ضُرب وحُبس فيه المستشار هشام جنينة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، لدى فضحه للفساد وأُطلق سراح هشام طلعت مصطفى المُدان بحكمٍ نهائي في قضية قتلٍ، بعفو صحي، إلا أنه لم يكتفِ بذلك فيسكت، وإنما خرج في إحدى الفضائيات معلقاً على التهكم الواسع الناقد من أسعار الوحدات السكنية في أحد مشاريعه متهماً إيانا، نحن، بالمرض النفسي!
هذا السيسي، بخلفيته بدموية عهده بانحيازاته الطبقية بتاريخه العامر بالتعديات، حتى الآن، لا يُرجى عدلٌ ناجزٌ حقيقي في عهده.
في قضية فيرمونت أثبتت الدولة كل ما سبق في هذا المقال، إذ أن الكتبة والأبواق الإعلامية لم تلبث أن روجت تهماً بالشذوذ والسحاق والجنس الجماعي والدعارة إلخ، لتطال الفتاة المغتصبة والشهود، أي أنها ألقت بدلو الوساخة المعتاد لديها في كل المناسبات المشابهة، ولعلنا نذكر أن الناشطة سارة حجازي، المصرية الأمريكية، كانت متهمةً بتهمةٍ مركبة مبتكرة هي دعارة الأطفال والاتجار بأعضائهم، وخرجت بكلمةٍ من السيسي امتثالاً بدوره لكلمةٍ من ترامب. الأدهى والأمر والأخطر من ذلك أن الشهود دخلوا شهوداً وخرجوا متهمين! ثم أُجريت عليهم فحوص عذرية وشرجية، أي أن النظام لجأ لثاني وظائف الجسد، كمدخلٍ للإهانة والإيلام والإرهاب، وإثبات حضوره في أجسادهم، ناهيك بالطبع عن كون المتهمين بثرواتهم سيتمكنون من تفويض محامين كبار سيجرمون الضحية والشهود، أي أنهم سيطوعون القانون في ظل نظامٍ قروسطي قمعي انقلابي، لخدمة طبقتهم، ومن ثم سيصبح وسيلةً للانتقام والإرهاب لا العدل والإنصاف، وللأسف، فإنني أتوقع عدداً لا بأس به من الجمهور، راكناً مستسلماً إلى ذلك في توقه الأبدي للاستقرار وتجنب ما يعكر الصفو ويصدع الدماغ، ما يهز الأغلال ويفضح قبح الواقع، ويبرز حقيقة النظام، وسيميل إلى تجريم الضحايا من منطلق لماذا ارتدت هذا وشربت ذاك؟ وما الذي جعلها تذهب هناك وأين أبوها ولم سكت خالها؟ كأن تلك مسوغاتٌ ومبيحاتٌ للانتهاك والاغتصاب.

القانون، ليس أعمى بالمرة، بل يُصاغ في سياقٍ تاريخي ويخضع تطبيقه للظرف السياسي والاقتصادي

وقبل هذا وذاك فإنه لمن المدهش تماماً، بل لعلها سذاجةٌ مفرطة أن ننتظر من نظامٍ ارتكب أكبر مجزرة في تاريخ مصر الحديث ولم يعتذر بطبيعة الحال، أو يحاكم أحد ضباطه، ولم يزل يعتقل ويمارس، بل يعتمد بالأساس على الانتهاكات الجسدية اغتصاباً وتعذيباً أن يحاسب مجموعة من الصبية «أولاد الذوات» الذين يدعمونه على جريمة اغتصاب لفتياتٍ يراهن في نهاية المطاف بلا ثمن! إذ يتعين علينا أن ندرك أن السقوط في نظر هذه الأنظمة ليس أخلاقياً، بل هو في الأساس سقوطٌ من الثمن. ولعلنا نذكر كيف دمر سمعة فتاتين لكي يقرص أذن المخرج خالد يوسف.
للأسف، أقولها بغضبٍ وغيظٍ وألم، لن يلاقوا جزاءهم الذي نوقن به جميعاً، وبفرض أنهم لم يخرجوا كالشعرة من العجين، بفضل فريق الدفاع، ولئن أدينوا فسوف يتم تسريبهم بصورةٍ أو بأخرى لينضموا إلى جوار هشام طلعت فيتهمونا بالمجون والمرض النفسي.
وحدها ثورةٌ حقيقيةٌ، ثورةٌ عميقة، تضرب الأساس الاقتصادي وما بُني عليه من طبقاتٍ وأنظمةٍ، قادرةٌ على رد الاعتبار للناس ورد المظالم وعدل الميزان المختل منذ القدم، على استعادة الآدمية المهدرة بمشاعرها بوجودها الأعمق لكي لا يصير الجسد مجرد أداةً للعمل وسلعةً للمتعة.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول awadh:

    لا حول ولا قوة الا بالله .. ما نشهده في مصر من قبل الثورة وما بعد الانقلاب شيء يندي له الجبين

  2. يقول ميساء:

    وما خفي أدهى وأمر يعني من المر

إشترك في قائمتنا البريدية