في نهاية عام 1941، كانت عائلة العراقي اليهودي داوود شماش قد قررت الرحيلَ عن البلاد، بعيد الهجمات التي عرفتها بغداد (حوادث الفرهود)، والتي أدت لمقتل العشرات من يهود المدينة. في البداية، كان قرار الوجهة الجديدة إلى مومباي، التي مثلت خيارا محمّلا بالفرص والمخاطر، ولذلك لن يطول المقام في الهند، إذ ستقرر العائلة الهجرة إلى فلسطين لفترة وجيزة، قبل أن تكمل طريقها إلى لندن للاستقرار فيها.
مع مرور السنوات، كان أولاد عائلة شماش يكبرون، بدون أن يعلموا شيئا عن تاريخ عائلتهم، أو عن تاريخ اليهود في بغداد، وهنا ستقرر فيوليت زوجة داوود أن تحمل على عاتقها نقل قصص الماضي وذاكرته إلى أبنائها وأحفادها. كانت فيوليت في الأساس ابنة تاجر عراقي يهودي، وقد عاشت فترة طفولتها في بغداد في عدة أحياء، في حي حنوني اليهودي ولاحقا في منطقة الكرادة، التي كانت في العشرينيات، كما تذكر، عبارة عن مجموعة من المزارع التي تزود المدينة بالفواكه والخضروات. ورغم مرور قرابة 4 عقود على مغادرتها العراق، بقيت صور بغداد العشرينيات والثلاثينيات مسكونة في فؤاد فيوليت. لكنها ستنتظر أسئلة الأحفاد عن أصولهم، لتندفع نحو كتابة مجموعة من الرسائل لابنتها في فرنسا على مدى عشرين سنة، ولتقوم لاحقا هذه الابنة برفقة زوجها بجمعها وإعادة تحريرها، ومن ثم نشرها بالإنكليزية في عام 2008 تحت عنوان «ذكريات جنة عدن: رحلة في حياة يهود بغداد»، وذلك بعد عامين من رحيل فيوليت الأم عن حياتنا.
في هذا النص، حاولت فيوليت العودة بنا إلى شوارع بغداد الطفولة، لتحدثنا عن يوميات الجنة التي عرفتها هي وغالبية يهود المدينة آنذاك؛ فخلافا لصورة بغداد المثقلة اليوم بهمومها وبروائح البارود والدم، تكشف لنا هذه العراقية الأصيلة عن صورة أخرى لبغداد، دافئة، ومتنوعة، ومتسامحة مع الآخر وثقافته، وتعج بالحياة والطقوس؛ ولعل الجميل في هذا النص أيضاً، أن فيوليت تبدو أحياناً وكأنها تقرأ من كتاب شهرزاد القديم، وربما يعود هذا التأثر لمئات القصص التي سمعتها من جدتها، أو يخيل لنا أنّ نص شهرزاد بقي المرافق لها طوال سنوات الغربة عن وطنها، وهذا ما أتاح لنا الاستماع إلى قصص أهل بغداد، وأبطالهم، وحياة بعض لصوصهم، وأيضا أنواع الطعام؛ كما أن شهرزادنا الجديدة، ستبقى تحوم في قصصها حول شوارع المدينة، لنكتشف معها قصة أخرى لتطور شارع الرشيد في العشرينيات والثلاثينيات، وأيضاً حكاية حي الكرادة، الذي غدا لاحقا من الأحياء الشهيرة. ولعل هذا الاهتمام اليومي، جعل نص فيوليت، أكثر قربا ودفئا من حياة الناس، ولذلك لن يشعر شهريار (القارئ) وهو يسير مع شهرزاد اليهودية، بأي ملل، أو رغبة بقتل حكاياها لصالح عشرات النصوص والروايات الأخرى، وإنما سيبقى مولعاً ومحتارا في قدرة هذه السيدة على كتابة نص أثنوغرافي فريد عن هذه المدينة.
كانت فيوليت وهي تخطّ رسائلها، تحلم بالعودة يوما ما إلى بيت أهلها، لكنها غادرت، ليبقى نصها شاهدا على ذاكرة مدينة بأكملها عن فترة ما. بيد أنّ المترجم العراقي علي شاكر، سيتمكن من تحقيق رغبتها بالعودة ولو رمزيا إلى عالمها البغدادي عبر ترجمة نصها مؤخرا بعنوان «رسائل فيوليت» بلغة لم تخل من عشرات الكلمات العراقية العامية، لنكتشف من خلال هذه الترجمة، أن لكل عصر في بغداد شهرزادها، وأن سر هذه الساردة، بقي ينتقل بين بنات بغداد وأهلها من جيل لآخر.
تبدأ حكاية فيوليت من عام 1912، فهي وخلافا للتواريخ الرسمية، لا تحتفظ بيوم ولادتها، وإنما قيل لها بأنها ولدت في اليوم نفسه الذي يحتفل به اليهود بعيد «الهانوكا»، وهو تأريخ للأحداث لا يعدّ غريبا، وإنما اتبعته معظم مجتمعات ما قبل الحداثة، التي عادة ما كانت تؤرخ لأحداثها ويومياتها من خلال المواسم الدينية أو الموسمية. كان منزلهم قد بني في بدايات القرن العشرين، وأكثر ما علق بذهنها عنه، غياب النوافذ المطلة على الخارج، فكانت الجدران المبنية بالآجر كل ما يطالع السائرين في الشوارع الضيقة. ولعل في ذكرياتها ما يتوافق مع ذكريات المعماري العراقي الراحل رفعت الجادرجي عن منزل جده عارف آغا في شارع الرشيد، إذ يؤكد أنّ الشكل الأولي للمنزل، الذي بني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لم تكن فيه أي نوافذ تطلّ على الشارع، لكن ذلك سيتغير مع بناء منزل جديد لزوجة جده التركية خاتون هانم خلال الحرب العالمية الأولى، الذي كانت فيه نوافذ للخارج. ومما تذكره فيوليت عن حي حنوني اليهودي الذي عاشت فيه، أنّ الأزقة كانت قذرة وتفتقر إلى الجاذبية، وكانت تشكل مع بعضها بعضا متاهة يسهل على المرء أن يضل طريقه فيها، ويحاذيها الكثير من الباعة، وكان واردا أن يحشر حلاق نفسه وعدته في ركن ضيق بدون أن يكون له محل، ثم يقوم بعرض خدماته المختلفة للزبائن من قص شعر وخلع الأسنان وفقع الدمامل.
قرر والدها بناء منزل جديد في الكرادة، و هو ما سيمكننا من خلال ذاكرتها من التعرف على هذا المكان في العشرينيات. تذكر فيوليت أنّ الانتقال شكل نقطة تحول في حياة العائلة، إذ كان عليهم التأقلم مع منطقة زراعية بحتة، حيث لا أسوار أو أسيجة تحيط بالممتلكات وترسم حدودا لها، وهذا ما جعلهم عرضة للسرقات المتكررة. مع ذلك تقول فيوليت عن تلك الأيام «كنا نحيا في جنة عدن». ستكمل حديثها عن بغداد الطفولة، لتلتقط لنا صورا أخرى من الذاكرة عن زي النساء العراقيات بعيد الحرب العالمية الأولى. إذ تؤكد أنّ السيدات اليهوديات كنَّ يرتدين الألبسة ذاتها التي ارتدتها المسلمات حتى ثلاثينيات القرن العشرين، كالجلاليب الطويلة والفساتين ذات التنانير الفضفاضة والسراويل، ومن القصص الطريفة أيضاً التي تذكرها هنا، أنّ قص الفتيات لشعرهن لم يكن مقبولا قبل الثلاثينيات، فشعر البنت كان بمثابة تاج لعزتها، وحدث التحوّل، كما تذكر فيوليت، عندما افتتح في هذه الفترة أول صالون تصفيف للشعر في بغداد، الذي شهد إقبالا كثيفا، وهذا ما عدّه الكبار خرقا للأعراف السائدة، فراجت أغنية تصوّر استنكارهم للأمر مطلعها «بنت البيت قصت شعرها»، كما تذكر أنّ الرجال في بغداد ظلوا حريصين على الالتزام بالزي العثماني في هذه الفترة.
بقيت صورة جنة عدن طاغية على ذكريات فيوليت عن بغداد خلال العشرينيات والثلاثينيات، لكن مع قدوم الأربعينيات كان المشهد يتغير، إذ تقدم لنا هذه السيدة العراقية سردية أخرى هنا، حول أسباب هجرة اليهود في هذه الفترة، فهي برأيها لم تكن طوعية، بل نجمت بالدرجة الأولى عن تطور الأحداث في العراق بعيد الأربعينيات، وأنه لولا هذه الأحداث لما هاجر القسم الأكبر من اليهود وبقيوا عراقيين.
في الثلاثينيات، أخذت الحافلات تمرّ من أمام منزلهم في الكرادة، فصاروا يستقلونها للذهاب إلى المدرسة بعد النزول في المحطة الأخيرة من شارع الرشيد. وهنا تصف لنا الطالبة فيوليت شارع الرشيد كما عرفته، فقد كان يتسع لمرور ثلاث عربات تجرها الخيول، لكنه لم يكن معبدا، فكان الغبار يغطي جنباته في الصيف، وتملؤه الأوحال في الشتاء، وكانت الأبنية على جانبي الشارع سكنية بارتفاع طابقين، قبل أن يشرع مالكو العقارات بتحويل غرف الطوابق الأرضية إلى محال تجارية بدون أن تكون لها واجهات عرض زجاجية. وعلى جوانبه تعثر على بعض النساء وبجوارهن قدر كبير مليء باللوبياء المسلوقة للبيع، بينما كان هناك رجال يسلقون عظام الخروف وأحشاءه، وكان أكثر الباعة جذبا هو «أبو العمبة» الذي كان يصنع «لفات» (سندويش) مكونة من الخبز الملفوف وفي داخله مخلل المانجو المتبل.
مقهى موشي
ستروي لنا فيوليت عن مقهى موشي، من خلال ما رواه لها والدها عن هذا المكان. فقد كانت القهوة في زمنها الوسيلة المتعارف عليها لنقل الأخبار العائلية والمجتمعية أيضا، وكان رجال الأعمال المسلمين واليهود يُشاهدون جالسين جنبا إلى جنب وهم يرتدون العباءات فوق ثيابهم، وقلة فقط كانت ترتدي البدل الأوروبية، وكان الجميع حريصين على تغطية رؤوسهم بالعمائم أو بالشماغ (العقال). كما أن شهرزادنا غالبا ما كانت تسترق السمع لحكايا زوار والدها في منزلهم، ومنها قصة الشيطان الذي يخرج على هيئة حصان لتاجر، فجنّ الرجل وأُخِذ إلى مشفى المجانين في بغداد، وهي روايات تبدو في حبكتها ومصادرها مقبلة من قصص ألف ليلة وليلة، التي تناقلتها الذاكرة الشعبية العراقية وأعادت روايتها والتعديل عليها على مرّ الأزمنة.
بعد زواجها من داوود شماش، الذي عمل بالتجارة، وعرف بعزفه على العود وتأدية أغاني محمد عبد الوهاب، بقي اليهود يعيشون في ظروف جيدة، ولا تخفي أنها وأهلها كانوا يرون أن وجود البريطانيين يشكل ضمانة لوجودهم، ويبدون سعادة عارمة كلما ذكر اسم الملك فيصل أمامهم، فقد «كان حاكما عطوفا».
وخلال هذه الفترة أيضا، ظهرت السينما في بغداد، مما ترك أثرا بالغاً في حياة الشباب، الذين أخذوا يقلدون نجومها ويصففون شعرهم ويدهنونه بالبريانتين (الملمع/الجل).
طعام أعياد اليهود
تظهر لنا رسائل فيوليت عن طقوس اليهود وأعيادهم في بغداد، أنه لم يكن هناك ما يعكر صفو هذه الاحتفالات. ومما تذكره عن تلك الأيام أنّ والدها كان يجلب «الشكرجي» (صانع الحلوى) إلى المنزل، ليمضي ليلتين في إعداد اللوزية وبسكويت «أبو قدراسي»، أي بسكويت السماء. وربما من أجمل الصور عن تلك الفترة، هي الصورة التي تنقلها لنا عن غداء العيد ودلالات الطعام الدينية في هذه المناسبة، إذ تبدأ الوليمة بشكر الله على ما جاد به من نعم، ثم يتناولون مربى التفاح لتكون سنتهم الجديدة المقبلة حلوة المذاق كالعسل، يلي ذلك أكل الرمان ليكون عامهم زاخراً بالأعمال الصالحة، كما يزخر ثمر الرمان بالحبوب، ومن ثم يتناولون البصل كي تكون السنة مرة على أعدائهم، وأخيراً كان يحين وقت تقديم رأس الخروف المطبوخ مع المرق، فيدعون الله أن يجعلهم دائما في رأس مساعيهم، لا في ذيلها.
الأربعينيات.. هجرة جنة عدن
بقيت صورة جنة عدن طاغية على ذكريات فيوليت عن بغداد خلال العشرينيات والثلاثينيات، لكن مع قدوم الأربعينيات كان المشهد يتغير، إذ تقدم لنا هذه السيدة العراقية سردية أخرى هنا، حول أسباب هجرة اليهود في هذه الفترة، فهي برأيها لم تكن طوعية، بل نجمت بالدرجة الأولى عن تطور الأحداث في العراق بعيد الأربعينيات، وأنه لولا هذه الأحداث لما هاجر القسم الأكبر من اليهود وبقيوا عراقيين.
كان فيصل الثاني طفلا في الرابعة من العمر، عندما انتقل الحكم إليه بعد مقتل والده الملك غازي في عام 1939، فعيِّن خاله، الأمير عبد الله، المعروف بولائه لبريطانيا برتبة وصي، لكن ما سيعكر صفو وجودهم، كما تروي، هو قدوم مفتي القدس العام الحاج أمين الحسيني الذي لجأ إلى العراق. ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية أخذ قسم كبير من اليهود العراقيين يعودون إلى بغداد، وقد ترافقت هذه العودة أيضا مع وصول عدوى المعارك في أوروبا من قبل السفارة الألمانية وقيام المفتي بتصعيد نبرة هجومه على البريطانيين وتحريضه ضد اليهود، ومما تذكره هنا أن البغداديين المسلمين بدوا متعاطفين مع هتلر، ما أخذ يؤثر في علاقتهم بهم، فأخذت بعض أحاسيس الكراهية تحلّ محلّ الود والوئام، ومع حلول 1941 اندلع انقلاب رشيد عالي الكيلاني الذي كان معروفا بموالاته للنازية، وافتتح عهده بإلغاء معاهدة مع بريطانيا، لكن بعد شهر من ذلك فشل الانقلاب وهرب الكيلاني خارج البلاد، وفي ذلك اليوم، وبينما كان جنوده يشعرون بخيبة الأمل مما حدث، شاءت الصدف أن تترافق هذه المشاعر، كما تذكر فيوليت، مع احتفالات اليهود بأحد أعيادهم، فما كان من هؤلاء الجنود إلا أن فسّروها بوصفها احتفالا بهزيمتهم، فوقعت على أثرها ما عرف بحادثة الفرهود، عندما قام عساكر وعوام من المدينة بمهاجمة اليهود، وهنا تروي لنا تفاصيل ما حدث لحظة بلحظة، وكيف كانوا يهربون من منزل لآخر، وقتل حارس منزلهم الكردي، إلى أن قام جيرانهم المسلمون بحمايتهم، ومما تذكره أيضا عن هذه الأحداث، أنه رغم أن المسلمين قادوا هذه الهجمات، لكن في المقابل كان هناك مسلمون آخرون دافعوا عن وجودهم، وشكّلوا مجموعات للدفاع عن يهود المدينة.
بعد هذه الحادثة، بدا أنّ العسكر لن يتوانوا عن تكرار فعلتهم، وهذا ما حدث بعد ذلك بسنوات مع تكرار الضغط على اليهود بعيد عام 1948، ما دفعهم لاحقا لمغادرة العراق إلى أوروبا وأمريكا وفلسطين. وربما ما يكشفه هذا السرد لآخر أيام اليهود في بغداد، أنهم بقوا وحتى آخر لحظة يفضلون البقاء على الرحيل، وأنّ سياسات الدول في العراق وسوريا أيضاً كانت سببا في هجرة أعداد كبيرة منهم بعد أن شعروا بالتهميش والتخوين، كلما توترت الأمور. ولعل ما يدعم هذا الاستنتاج، ما تبوح به فيوليت في رسائلها الأخيرة من مشاعر اللجوء والشعور بالغربة بعيدا عن وطنها العراق، كما أنها لا تصوّر هجرة اليهود العراقيين لفلسطين بوصفه حلما، بل كانت أياما مليئة بالمرارة والشعور بالغربة المستمرة، إذ أدركوا أن الجنة بالنسبة لهم لم تكن هي أرض الميعاد في فلسطين، بل هي بغداد وقصصها وتفاصيلها اليومية.
كاتب سوري
دائما اتابع ما يكتبه يهود العراق عن حياتهم في بغداد و أيضا عما يُكتب عنهم ، ولدي البعض من الكتب التي حكوا فيها عن حياتهم وذكرياتهم في العراق ومنه النسخة الأنكليزية من الكتاب المذكور ، أضافة الى ما أحفظه في ذاكرتي مما سمعت عنهم من الأهل والأقارب و أيضاً من بعض الأصدقاء هنا في المهجر الذين هم من الطائفة اليهودية و قصوا لي عما حصل لهم من ظلم وتعدي ، ووجدت أن جميعهم مازال يحمل في قلبه حب كبير وولاء واشتياق لوطنهم الأم العراق الذي تركوه قسراً . مقال جميل جدا ، شكرا للكاتب محمد تركي الربيعو .
شكراً للكاتب الذي يتحفنا بالقصص التأريخية الموثقة!
الذين غزوا فلسطين صهاينة أوروبيين خربوا علاقة اليهود بالمسلمين!! ولا حول ولا قوة الا بالله
كانت الحركة الصهيونية تفجر أماكن العبادة ليعود العراق الكنيس لتبث الرعب فيهم ليهربوا من بلادهم، الحركة الصهيونية اشترت اليهود العرب ليهاجروا إلى فلسطين، وهم هم من أساؤوا للعلاقة الطيبة لجميع مكونات الشعب العربي من مسلمين ومسيحيين ويهود..