لا يزال القائمون على شؤون البلاد في الجزائر يتصرفون في مصالح العباد بطريقة “التجربة والخطأ” ولا تزال كل فئة تعتلي العرش منهم حديثا تنقم على أختها ما اقترفته أيديها قديما، كأن عرش هذه البلاد على الماء، لا يكاد يستقر أمرها على قاع؛ فالخيارات السياسية بعد التحرير لم تحقق للدولة الاستقلال الاقتصادي، وكمية المعلومات التي انبنت عليها مخططات الحكومات السابقة نسفتها البيانات التي استجمعتها طائرات “الدّرون”. وإثيوبيا التي كانت تعيش المجاعة في السبعينيات تحولت إلى مصدّر غذائي في افريقيا، والدول الأخرى تتعجب من الجزائر كيف لها أن تستورد الحبوب وهي تتمتع بكل هذه الإمكانيات… وما إلى ذلك من مراجعات صريحة جاءت في خطاب الرئيس الجزائري عن الفلاحة والفلاحين آخر فبراير/شباط 2023م.
تقويم كان الخبراء المخلصون يسدونه إلى السلطة منذ فترة فلا ترعيهم أذنا واعية، وربما ازورّت عما يقولون لها فاتهمتهم بالمزايدة عليها والتشكيك في مصداقية المؤسسات الرسمية التي قدمت للحكومات تلك المعلومات.
وها قد بان للناس عوارها، على لسان الرئيس نفسه، فمن سيحاسبها على الهدر في الجهد والوقت والمال إذن؟
أم أن الأمر سيمر مر السحاب، ما دام أن “اللّعاب حميدة والرشّام حميدة” كما يقول المثل الشعبي في الجزائر؟
الفلاحة نشاط لصيق بالسياسة أشد ما يكون الالتصاق، اعتمد عليه الجزائريون كثيرا في مقاومة الاحتلال الفرنسي، كمصدر رزق مستقل عن منظومة الحكم آنذاك، وكمورد يدعم المقاومين بعد ذلك.
واليوم، لا تخفي السلطة في الجزائر أن الفلاحة ركن ركين في ثالوثها الاقتصادي، وتراها بديلا جديا للمحروقات. أما وأن الأمر قد أصبح كذلك، فإن للذهب الأخضر رسائل إلى القادة السياسيين عليهم ألا يتجاهلوها.
شخصية الرئيس الجزائري تتبدى على سجيتها حينما يفارق ناظراه ورقة الخطاب ليرتجل كلمات، نمت في بعضها عن إيمان بالله وحب عميق للزراعة، ولكنّ في إيمانه ذلك شيئا من التناقض، لم تسعفه ثقافته الدينية البسيطة ولا المحيطون به في توليف أفكاره للتتناسق مع مراده.
فللرجل جرأة على مراجعة التركة الخاطئة، وله إرادة- جللتها هالة إعلامية مروضة- على أن يبلغ بالبلاد أعلى الدرجات في الاكتفاء الذاتي. بيد أنه في الدلالة على السبيل إلى ذلك وقع في ما لم يحتسبه خطيب في موقع رئاسة الجمهورية.
احترام أملاك الرعية في الدعوة إلى الاستثمار على أراضيها من العدل، الذي هو أساس الملك، والحديث عن “الأرض لمن يخدمها”- شعار الثورة الزراعية- متأخر جدا عما درج الناس عليه في تملّك الأراضي وقسمتها فيما بينهم؛ فالناس منذ العهد النبوي يتعاملون بالحديث النبوي الشريف “من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق”.
إن نزع الأراضي من الفلاحين تحت حجة أنهم لا يحوزون على عقود الملكية، وبالتالي هي أراض عامة ملكيتها تعود للدولة مغالطة مفضوحة؛ فالعقود تصدرها السلطة بعد الاستقلال بموجب قوانين حديثة مستجلبة من الأجنبي، روحيتها مستمدة من الاشتراكية التي لا تبيح للناس التوسع في الملكية الخاصة. علاوة على ذلك، فإن الدولة حادثة والملكية العرشية مثلا للأراضي قديمة، ولا يمكن للحادث أن يرفع القديم، إلا بمسوغ شرعي. والسلطة تفتقد لهذا فلا يمكنها أن تعطيه.
جاء في كلام الرئيس أن الجزائر لا تزرع “الحرام” في سياق حديثه عن المنتجات الفلاحية، حُقّ له ذلك والشعب الذي يخاطبه مسلم. ولكنه قدم بحماسة “سَلْفِية” من خزينة الدولة قدّرها تسعين في المئة من أي مشروع يتقدم به مستثمرون.
“السلفية” تعني لدى الناس في الجزائر القروض الربوية. ولم يخبرنا السيد الرئيس عن مصير القروض الربوية منذ الاستقلال وليته أخبرنا، كما أخبرنا عن مساحة الأراضي الزراعية المستصلحة فعليا؛ غاضا الطرف عن قرارات بعض ولاته الذين استبقوا الموسم الفلاحي الجاري بمنعهم الحراثة في بلديات كثيرة يتمدد فوق أراضيها السد الأخضر، سد سيقدم خدمة للاتحاد الأوروبي الذي دعم المشروع بالمال والخبراء لعله يصد عنه بعضا من التصحر والجفاف.
القروض الفلاحية
لا يتقدم للقروض الفلاحية المسماة بـ”الرفيق” و”التحدي” غير مرابين لا يخافون الله على أرضه. ولنسأل الرئيس عن مآل المقترضين هل سددوا ما عليهم للخزينة العمومية أم ليس بعد؟
لقد عودت السلطة المقترضين من الفلاحين على مسح ديونهم كل فترة، أو المطل في مطالبتهم بالتسديد كل مرة، وربما فتحت لهؤلاء أبوابا كثيرة للهرب من تبعات القرض، كما فعلت مع قروض “لونساج” و”لونجام”.
أما السواد الأعظم من الفلاحين فلا يتقدمون للاستفادة من هذه “السَّلفيات” ويودون أن لو كانت “قروضا حسنة”، وجلاً من تبعات القرض الربوي على الأرض الفلاحية في حياتهم الدنيا، وخوفا من موقفهم أمام الله عز وجل في الحياة الآخرة.
لا يبث الرئيس خطابه على الموجة نفسها التي يلتقط بها الفلاحون أفكاره “النهضوية”. إن لهؤلاء المزارعين منطقا خاصا في وزن الأشياء لا يدركه الساسة في البلاد. ولهذا رأى الناس في عمل السلطة هذا غصبا جديدا عهدوا مثله إبان الاستعمار، في تماه بين الفرنسيين الذين وصفوا الأهالي بالبدو، فلم ترهم يستحقون هذه الأرض الطيبة فمكنتها للمعمرين.
والرئيس وصف أراضيهم أنها فارغة، وأن نشاطهم تقليدي لا مردودية فيه، والمستثمرون المرابون أولى بها، فأي فرق بين المعمرين والمستثمرين إذن؟
وبين هذا وذاك، يندب الأهالي حظهم من هذه الدولة التي كافحوا من أجل تحريرها، كيف تنقم منهم سعيهم النبيل، وهم من يزرع الأرض بكد اليمين وعرق الجبين لكسب لقمة حلال عاما، وعاما آخر يتركونها مراعي تسرح فيها أنعامهم، انظروا إليها كيف جفت حشائشها ويبست، فطفقت الرؤوس تأكل من الرؤوس.
مئة قنطار من الحبوب في الهكتار دفعة واحدة! هل تطيق الأرض الفلاحية ذلك بما استودع الخالق فيها من أقوات؟
لقد جرب الألمان ذلك وفشلوا، وقالوا للناس بجرأة الباحث الموضوعي، لقد أخطأنا الطريق حين استنفدنا الطاقة الطبيعية للأرض بدافع الجشع، وقالوا إن لديهم تسعة أعشار من الأراضي الفلاحية لم تعد صالحة لحياة إنسان يمكنه أن يعيش عليها مئة عام بلا أمراض، لقد لوثا البيئة وآن لنا أن نتوقف. وطفق حكماؤهم السياسيون يشجعون على الزراعة العضوية في ما تبقى لهم من أراض لم تمسسها الملوثات الكيميائية. في حين تحفز السلطة عندنا جشع الطامعين في الأرباح من الفلاحة باستخدام هذه “المغذيات” لينتشر الوباء على أراض معظمها لا يزال بكرا كيوم خلقه الأول.
العمران البشري
الفلاحة والحياكة والبناء والسياسة، صنائع ضرورية للعمران البشري، كما يقول أبو حامد الغزالي في “إحيائه”. ثم يتساءل هذا الفيلسوف العظيم عن أي الأعمال أشد ضرورة للإنسان من هذه الأربعة. فيذهب إلى القول إن السياسة أكثرها حاجة، لأن بها صلاح بقية الأعمال أو فسادها؛ لذلك يحسن بالقادة في البلدان المسلمة أن يحسموا أمرهم في ماهية السياسة التي ينتهجون قبل النظر في النهضة الاقتصادية.
إن تدخل الدولة الحديثة في تفاصيل الحياة اليومية للناس أثقل كاهلها بالمهام فبدت للرعية عاجزة متخبطة، ولو أنها وصلت فروع الحياة وشعابها بأصول الحكم في الإسلام ثم تنحت، لأراحت واستراحت. ولكنها عاندت شعبها وتأبّت، فأرهقت غيرها وأُرهقت.
كاتب من الجزائر