ليس صعبا أن نتصوّر كيف كنت ستستقبل خبر سقوط نظام بشار الأسد في سوريا. كان الفرح سيغمر قلبك؛ كنت ستكتب مقالتك الأسبوعية بمداد العين وبريشة الأماني، وترسم لنا بكلماتك البنفسجية أنفاس ذلك المساء السوري، مساء الحرّية، وتأخذنا حتى حفاف المدى، حيث صرخت مرّة عن وعي يقظ ومن وجع: «يا وحدكم.. أيها السوريات والسوريون أنتم وحدكم، وحدكم أي وحدكم، لا تصدقوا أحدا. وحدكم في العزلة ووحدكم في الألم. وحدكم تدفعون ثمن انهيار العرب وموت أرواحهم وذلهم أمام القوى الكبرى وانحناء أنظمتهم لإسرائيل. وحدكم يا وحدكم، وحدكم يا وحدنا». هناك، عند ذاك المنحنى كنت ستضع النقطة على آخر السطر، أو ربما الفاصلة، وتمضي بقناعة الإنسان الحر والمؤمن بحكمة الشك وبضرورة السؤال وتقول لنا: افرحوا، هذا المساء، باسم الدماء التي أراقها نظام الطغمة المستبدة، وباسم من أمضوا حياتهم تحت نعال القمع والاضطهاد، ومن ناموا على وسائد الخوف والقلق. افرحوا كما يفرح الأطفال وهم يتراكضون حتى التعب وراء سرب فراشات تتراقص أمامهم في بحر من نور، وفوقهم سماء تمطر عليهم زرقة وأحلاما وعناقيد حب وأمل. فمن مثلك كان يركض، كالأطفال وكالعاشقين، مندفعا نحو نهايات المنى، كسهم سابح في فضاءات شوّشها رصاص الغدر ولوّثتها زمر من «المثقفين»
و»المفكرين» و»المبدعين» قايضوا ضمائرهم «بالأخضر» وبالذلّ، ورضوا أن يصيروا وعّاظا للسلاطين وللأمراء.
جميع الاحتمالات إزاء وجهة سوريا المقبلة ما زالت مفتوحة؛ فتداعيات الأيام القليلة التي تلت سقوط نظام الأسد تعكس حالات من الالتباس والريبة والتشكيك بكل ما حصل قبل انهيار النظام، وتنذر بالآتي
نراك واقفا على شرفة بيروتك ممتلئا رضا بنهاية عصر الديكتاتور المستبد. إنّه رضا من يقف على الأرض غير مستسلم ليأس مستأصل في روح شرقنا وفي تراتيل أهله. يقف ويصر أن يصغي لصوت التراب ووصاياه لمن بقوا عليها، ويعرف أن هزيمة الطاغية لن تصبح نصرا مكتملا إلا إذا أنجزتها ثورة لا ترتكز على أسس طائفية، كما كتبتَ مرارا؛ فأنت من دافعت دوما وآمنت أن الثورات التي تحتاجها شعوب شرقنا يجب أن تكون من أجل كرامة الإنسان وحريته وعيشه في أنظمة حكم تحترم ذلك الإنسان وعقله ومواطنته، ولا تعامله كالعبيد أو كالحيوانات. إنها ثورة من أجل الشعوب ولها، ولا تحميها أو تدعمها أو تهلل لها أنظمة الفساد والطغيان، عربية كانت أم أجنبية؛ ولا تتحكم فيها شبّيحة أو ميليشيات مرتزقة. ثورة تهدم سجون الطغاة ولا تبني بدلها سجونا، بل أوطانا وأخلاقا وإنسانا حرا ومنتجا وقوانين تحميه من جور حاكم مستبد؛ «فالثورة أولا حرية»، كما علّمتنا. نراك واقفا على شرفتك ترتشف الندى وتسمع متأسّيا، مثلما نسمع نحن في هذه الأيام، صهيل الغيب وأنّات المجهول وصرخات الأمهات وهن يبحثن بين عظام الزمن عن أولادهن أو أزواجهن، الذين صاروا حكايا في «قوقعة» الروائي مصطفى خليفة حين كان «سجينا متلصصا» في سجون الأسد. كنت أتمنى أن أكتب لك رسالة فرح خالص، بيد أن الغد المناوئ كان واقفا على رأس يراعي يتربص بكل حرف وكلمة؛ فسوريا اليوم يلفها المجهول ويتكالب عليها طغاة الأمس ووحوش النظام العالمي الجديد، ويلِغُ من دمائها أكثر من أسدين، حافظ وأرييل شارون، كما وصفتَ ذات مرة. والشام قد تبقى «بوابة التاريخ» وستحرسها الرماح، ولكن أي رماح.
أراك بعد فرح المرحلة، ستكتب أن العبرة باقية في نبض الوجع والقهر، فلا طاغية سيدوم حكمه ما دامت نطفة الانسان مغموسة بماء الحياة وروحه مقطوفة من زهرة الحرية. ستكتب لنا قوانينك ضد اليأس وضد العجز؛ فعن أمثالك لن تغيب مفارق التيه التي وقفت عليها جموع المثقفين، ومن اعتنقوا اليسار طريقا ومبادئ عندما حاربَت حركة طالبان الغزو الأمريكي لأفغانستان. وقتها تفرّقت مواقف الرفاق وتاهت بوصلات من عارضوا فكر حركة طالبان وقوانينها الظلامية؛ فوجدنا أن بعض المثقفين والمفكرين اليساريين والشيوعيين والعلمانيين، يدعمون حركة طالبان في حربهم ضد أمريكا، لا من باب دعمهم للحركة، إنما من باب تأييدهم لحق كل شعب في الحرية والاستقلال والسيادة. أذكر انني كتبتُ في حينه ردا على مقالة نشرها الكاتب التقدمي الراحل رشاد أبو شاور، انتصر فيها لطالبان ضد الأمريكيين: «يتمنى مثقف تقدمي علماني يساري أن ينتصر طالبان في أفغانستان على أمريكا الشر والطغيان. وأقول له إنها أمنية العاجزين الضعفاء، ودعوة لنختار بين ظلم أمريكا الغازية وظلمة حركة سياسية دينية أصولية، لا يجمعنا معها أي موقف أو رؤية». كتبتُ حينها وأعرف اليوم أن الوضع في سوريا، وإن حمل بعض ملامح تلك التناقضات، يبقى مختلفا.
ولكن، عساني أستبق الأحداث، رغم أن جميع الاحتمالات إزاء وجهة سوريا المقبلة ما زالت مفتوحة؛ فتداعيات الأيام القليلة التي تلت سقوط نظام الأسد تعكس حالات من الالتباس والريبة والتشكيك بكل ما حصل قبل انهيار النظام، وتنذر بالآتي. فإسرائيل توطد احتلالها للأراضي السورية وتتوغل حتى صارت قريبة من حدود دمشق، وتحتل السماء ويقصف طيرانها أرض سوريا من دون حسيب أو رقيب أو معارض. وتركيا توغل في سيطرتها على أجزاء واسعة من سوريا، وتعدّ العدّة للقضاء على الوجود الكردي المحمي سابقا تحت راية الدولة السورية وبعض القوى الأجنبية التي رعت الوجود الكردي ودعمته. وأمريكا محرّك الفوضى ومدمّرة أوطان العرب، تمهّد لابتلاع سوريا وتفكيكها أو تطويعها إما بالقوة أو بالتفتيت أو عن طريق احتواء عناصر وقيادات «هيئة تحرير الشام» وهي الجهة البارزة، حتى الآن، في تحديد معالم النظام المقبل والمتأهبة لحكم خلافة سوريا، خاصة بعد أن نجحت في ترئيس جماعتها على الحكومة الانتقالية الجديدة. ولنا في علاقة أمريكا الحالية مع حركة طالبان، عبرة ونذير.
بالمختصر، فإن سوريا بعد الأسد ذاهبة نحو المجهول؛ واحتمال توافق المجموعات التي تناحرت بينها في السنوات الأخيرة على أرضها، ضعيف أن لم يكن مستحيلا؛ خاصة أن معظمها ما زال يدين بالولاءات نفسها التي دان بها من قبل هذه «الثورة»، ويعمل بالدوافع نفسها، ومن أجل تحقيق المآرب ذاتها التي قاتل من أجلها، حتى لو جمّل بعضهم لغة خطابه وتبنّى مواقف توافقية، كي تستسيغها الدول الغربية وتلك التي تخطط للمشاركة في نهب ثروات سوريا وتحويلها إلى عدة «كيانات» أو إلى كيان صوريّ هزيل غير قادر على حماية مواطنيه أو تأمين شروط عيشهم بكرامة وبحرية، كما كان يفترض أن تضمنها هذه الثورة.
لا أريد أن أستبق الأحداث، لكننا، وأنت سيّد العارفين، نعيش في شرق ما زال يحاول أهله أن «يعبروا الجسر في الصبح خفافا.. من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق إلى الشرق الجديد»، فأنا أكتب إليك رسالة فرح يجهضه غالبا التخلف ويؤرّقه العجز الذي أخشى أنه حاضر ليس في الحالة السورية وحسب، بل في لبنان وفي فلسطين، وهي عندك وجوّاك «واحد بكلّ، وكلّ بواحد».
وأخيرا، يا معلم الحب والأمل، لقد مددتَ أضلعك لهذا الشرق «جسرا وطيدا»؛ وهذا الجسر سيبقى ممدودا وسترفرف روحك فوقه راية للحرية وبوصلة للسوريين الفقراء واللاجئين، الذين أحببتهم وأعلنت أنك منهم، وللفلسطينيين واللبنانيين الأحرار. أما هم في سوريا ولبنان وفلسطين، إلى أن تحين الساعة وتتبدل فصول الزمن، سيغنون مع فيروزهم نحن هنا «جرح الهوى وهناك في أوطاننا جراح»؛ ففي دمشق، كما قال صاحبك الدرويش: «تسير السماء على الطرقات حافية، حافية.. ويواصل فعل المضارع أشغاله الأموية.. في دمشق، نمشي إلى غدنا واثقين من الشمس في أمسنا. نحن والأبديّة سكان هذا البلد.. في دمشق تطرّز أسماء خيل العرب، من الجاهلية حتى القيامة، أو بعدها بخيوط من ذهب».
وإلى أن يعود الكلام في دمشق «لأصله» المشتهى، لك، من جميع أحبائك، سلام حرّ محمّل على نسائم الفرح المرتجف، ومعه همسات أبواب مضمخة ستبزغ شموسها يوما ما. هكذا تؤمن قلوب المؤمنين بالحب ما دام في الشرق «الياسات»، وهمم حرّة.
كاتب فلسطيني