عزيزي بورخيس
لقد خفتَ أن تحرق «كتاب الرمل» كي لا يختنق الكوكب بدخانه، فأودعتَه في الغابة. لقد وجده صديقي البارحة وخبّأه عندي، وحذّرني من قراءته طويلا. تسلّلتُ إلى صفحاته ليلا، لا صفحة أولى له ولا أخيرة. «كالرمل، لا بداية له ولا نهاية»، ولكنّه كما ذكرت، لا يمكن أن يطأ ظلّه أحد من دون أن يتلوّث.
لقد رافقتُ ذلك الشاعر إلى قصر الملك، رأيته يهديه مرآة في القصيدة الأولى التي استعارت مجازاتها من الأقدمين، وفي السنة التالية ايضًا، أهداه قناعًا ذهبيًا لعفوية القصيدة التي تحرّرت من نمطيتها، إلا أنهّ في العام الثالث، حين سمع قصيدته «الكلمة»الساحرة، أهداه خنجرًا، قتل به الشاعر نفسه وسقط على يدي… خفتُ كثيرًا، نظرت إلى الملك فرأيته يهيم في الدنيا تائها… وحين سألتُك عزيزي بورخيس لماذا فعلتَ به ذلك أجبتَني: «بأنّ الجمال هبة محرّمة على البشر، ومعرفتها ذنب كبير».
استيقظتُ مذعورة، حاولت رمي الكتاب من يدي، لم أستطع، التصقت أوراقه بأصابعي، حاولتُ الاتصال بصديقي ليعينني على التخلّص من كتابه، لم يجب، كان قد سافر إلى قرون غابرة، بحثًا عن تدفّق الحبّ الأصيل في قلبه، في لا تناهي المكان والزمان، سافر لتكتمل صورة حبيبته في مخيّلته، بعد أن أُزيل السيف بينهما.
هل بدأت أصابعي تحترق، أم أنّني لم أعد أرى جيدا؟ ثم سمعتُ صوتك عزيزي بورخيس يقول لي:» إنّ العمى التدريجي ليس مأساة. إنّه كغسق صيف بطيء». لكنّنا نمرّن خيالنا على رؤية ما نريد أن نرى! ربّما يكون هذا عيبنا البشري! أو ربّما عدستنا اللاصقة! يبدو أنّي الآن معك في الحلم، ذلك الذي التقيتَ فيه الآخر… الآخر! الترقيم العشوائي لكتاب الرمل لا يدعني أفهم جيّدًا ولا أن أصغي إليك جيّدا! الصفحات تنقلني من مكان إلى آخر بسرعة كالذكريات التي لا تأبه لمنطق التتابع والزمن.. والرسوم أيضًا تختفي! أعود إلى أوّل الكتاب، إلى الآخر الذي التقيتَه هناك. من منكما كان يحلم بالآخر؟ السبعيني الذي دام حلمه سبعين عامًا وأراد أن يستعيد ماضيه؟ أم ذلك الشاب الذي أراد ان يرى مستقبله؟ من منكما يريد أن يواصل ذلك اللقاء؟ لماذا عليّ أن أصدقّك بأنّه من واجبنا أن نقبل بالحلم تمامًا، كما نقبل بالعالم، وأننا نولد ونرى ونتنفّس؟! لماذا علينا أن نضرب موعدًا مع الآخر؟ مع ماضينا البعيد الذي ضاعت أحلامه؟ ونحنّ ودّعناه منذ زمن طويل، وربّما قتلناه. الماضي الذي تراكمت فوقه السنون صار كذلك الولد وقد تعوّد أن «يقبل هذا القبح كلّه، كما يقبل المرء بهذه الأشياء المتنافرة التي نسمّيها العالم لمجرّد أنّها توجد معا».
سأوّدعك الآن عزيزي بورخيس! وكلمات حبيبتك بياتريس ترنّ في أذني «إنّ الوداع مهرجان لا معنى له من التعاسة»، لذلك سأظلّ أبعثر كلّ شيء كما خطواتنا على الرمل، وأعيد ترتيب العالم من جديد، معك حقّ أنت أيضًا، طريق العودة أقصر من طريق الذهاب.. طالما أنّ اللايقين دربنا وأفقنا. أمّا هذا الكتاب اللامتناهي، فسأعيده إلى الغابة، لن أحرقه! لا أريد أن يختنق هذا الكوكب بدخانه! تكفيه كورونا وكلّ الأشياء الأُخرى… فكورونا أيضًا تحتقر الجنس البشري!
٭ أكاديمية وروائية لبنانية