وجدتُ رسالةً متمدّدة على الطاولة كشابّة مغرمَةٍ بيفاعتها، تعانِدُ الصّباح بكسلها وتتمَطْى بكلّ غيّها مع تسبيلة عينين مغرورتين بسحرِهما حتى يضعُف الصباح أمامهما، فيُمهِلها وقتاً أطول لنهوضها. ورقةٌ بيضاء تضجّ بلغةٍ تعسّرَ عليّ فهمُها كأنها لغة مسمارية، حَملتها كما لو أحمل طفلاً بكلتا يديّ، قلتُ لأدلّلها قليلاً علّها تفضي لي بسرّها، مسحتُ على وجْهها، قلّبتها يُمنةً ويسرة، نظرتُ لوجهها الآخر ذي اللون المائل باستحياء إلى البيج الخفيف.. لا جدوى ظلّتْ مُطبقة تماماً بعنادها على فمها، لا تنبسُ حروفها ذات الّلون الأحمر بسرّها الغريب الذي بدأ يشدّ فضولي من ياقته للتعرّف على قصّة هذه الرسالة.. من أين أتَتْ؟ وكيفَ وجدتُها هكذا كأنها نزلَتْ من السماءِ مباشرةً على طاولة المائدة التي أستعملها عادة للكتابة؟ ولماذا وضِعَتْ هنا بالتحديد أمامَ الكرسيّ الذي أجلسُ عليه دائماً؟ هذا يؤكّد أنّ صاحبَ الرّسالة يريدُ توجيهَها لي بالتحديد (أو لربما كلّ هذا صدفة بصدفة) قالتْ دَهشَةُ عيون حَيْرَتي.
لربما حُملَتْ هذه الرسالة من قبلِ الريح من عمقِ مكان بعيد ثم ضاقَتْ بحملها فرمتْها على باب شُرفتي وذهبتْ، إلا أن الرّيح بحكم العشرة الناشئة بينها وبين الرّسالة لمدّة لا بأس بها، جعلتها تؤنّبُ نفسها وترجعُ إلى بلكونتي لتضعها في مكانٍ آمن، بحيث لا تمزّقها ريح أخرى، أو يبلّلها مطرٌ يجهلُ رقّته. ودّعتْها بقبلةٍ طويلة كانتْ كفيلةً بأن تدخلها من باب الشرفة إلى الطّاولة بقفزة رشيقة، نعم لعلّ هذا ما حَصل! أو من الممكن ألّا يكونَ هذا الذي صارَ، فالرسالة كُتبتْ بحروف تُتقن الالتفاف والتدوّر بثقة باذخة للنيلَ من شوقِ القارئ، لابدّ أنها دوّنَتْ من قبل يدٍ غير بشريّة، لربما رسمتها أناملُ جنيّ ما، كانَ يتنقّلُ ليلاً بينَ هذه البيوت التي تتوافق جميعها مع الليل فتلبسُ لونه وتحرِمُ أنوارها الّسهرَ، لم ير إلا بيتي يعاندُ الليلَ فارتأى أن يدخُله لابدّ أن كرسييّ غير المتعلّق بطاولته قد جذبه، فمن عادتي أن أبقي له حريّة مسافة تفصله عنها، هكذا يشعرُ بحرّية يتغاوى بها على بقيّة الكراسي الخمسة ويبقي يديه مفتوحتين لكلّ مَن يهوى الكتابة. أغراهُ انفتاحُ تفكير الجّماد ليجْلِسَ عليه ويكتب ما أحاولُ فكّ طلاسمه الآن، أوليس من الممكن أن يكون جنياً عاشقاً، أرادَ أن يفاجِئ حبيبته برسالة غراميّة، يُقرّ فيها بأنّ التّوقَ لرؤية طيفها النّورانيّ قد أعياه فكتبَ (كلّما شقّ الشوقُ قلبي شِقّين/ شَقيتُ من تَشاقِي دَمكِ في فروعي) وإنما بلغته، أو أن تكون رسالة عَتَب مثلاً يعترض فيها على مزاجيّة حبيبته قائلاً (ومَن جاوَرَ القلبَ جنى من جودِهِ جُلّه/ وإن جُرنا عليه بالوصلِ/ لا جِنايَةَ لنا، فما جُدنا بغير جودِه) آه من عشيقَته التي يوماً تُجاهرِ بهيامها وأخرى تنسى وجودَه.. نعم يحصل هذا لربما هي جنيّة كاتبة لها عالمها الخاص الذي تغرقُ به، وتبحثَ عنها وبها فقط، وهذا لا يعني قط أنها لا تعشقه، بل يعني أنها تحبّه لكنّها تحبّ نفسها أكثر. المهم أنّ هذا الجنيّ المسكونُ بخليلته نسيَّ رسالتهُ هنا، أو قرّر ألا يرسلها لجنيته، أم أنها خابرَته وشدة لهفَته أوقعتْها من أناملهِ هنا لتشغلني بلغزها، أيها الجنيّ اللعين!
في الحقيقة أذكرُ البارحة أني لوهلةٍ طائشة، رأيتُ شبحاً يخطفُ طيفَه بسرعة ورائي بالطبع التفتّ ولم أرَ شيئاً، أوليسَ من الممكن أن يكون هذا الشّبح هو من وضع الرسالةَ هنا، ربّما نعم، وربّما لا، هذه نقطة الالتباس المميتة!
شبحُ السّاكن الأوّل لهذا البيت وما زال يعيش فيه ويحنّ لامتلاكه بكلّه، كما في السابق، نعم من المحتمل أن وجودي هنا مع طفليّ أقضّ مضجَعَ راحته، وبما أنّه لا يستطيعُ أن يكلّمَ الأحياءَ، ارتأى أن يوجّه لي ما مفاده: «أخرجي من هذا البيت، فأنا الذي بنيته لبنةً لبنة، ونمتُ فيه بصحبة ذكرياتي السعيدة التعيسة لردح من الزمن، بعد وفاة زوجتي وانشغال ولديّ عني برحلتي حياتهما، وحدي أقلّب الصور ودموع حنيني من مئة عام لم أبرح مكاني، لا أكلّم أحدا ولا أحد يكلمني أو يشعر بوجودي، حتى استأجرتِ أنتِ بيتي أيتها المعتوهة، المستأجرون الذين كانوا قبلك هنا وجودهم مثل عدمه، يستيقظون يعملون يأكلون وينامون، ينامون قلتُ لك أيتها الشقيّة، كنتُ أستمتعُ بتجوالي هنا بحريّة، ما أن يتحرّش الظلام في كلّ الأمكنة، أجلسُ حيثُ أنت تماماً، أعدّ أمزجَة أقداح الويسكي، أترجِمُ ما تقوله لي أدخنة سجائري وأحاورُ ذكرياتي ملياً، أما بوجودك فقدتُ كلّ هذا، لا تهبيني إلا خمس ساعات أو أقل من الرّاحة وأحياناً تستولين على الليل حتى يستولي عليك. أولا تفهمين؟ أنا تحرقني لحظات النهار، لذلك أبقى مختبئاً في هذه الخزانة المخفيّة في الحائطِ الأيمن، لا تتعبي نفسك في البحث عنها، لن تريْها أنت، أخرجي من حياتي، دعيني أعودُ إلى كامل ليلي بسلام وأعيشُني كما أعتدتُ. نعم هذا فحوى الرسالة، أوتعلم يا عزيزي الشّبح: أحبّ طاقةَ هذا المنزل ولن أخرج منه، عليكَ أن تتأقلم مع حضوري وتتقاسم معي ساعات الليالي الشغوفة بنا، نعم هذا جوابي على هذه الرّسالة المحتملة، هناك احتمال رابع أيضاً كان يحاولُ أن يطرقَ بابَ عقلي وأنا أعدّ قهوتي الزنجيّة الملامح، إلا أنني حين عدتُ إلى طاولتي لم أجد الرسالةَ ! لقد اختفتْ وسحبَتْ سرّها معها.. هل رأى أحدكم رسالتي، لربّما الرسالة، لم تكن رسالة من أحدٍ، لربّما قريني الشبح في داخلي استيقظ وأحدثَ كلّ هذه الفوضى اللاخلاّقة!
٭ شاعرة سورية مقيمة في ألمانيا