صحيح أنّهم لم يدخلوا إلى دير البلح برّياً، ولكن سكان المناطق الشّرقية منها، نزحوا منذ بداية الحرب، وتهدّمت بيوتهم، إذا مشيت في دير البلح ترى البيوت المقصوفة، وهي كثيرة إلى جانب البيوت التي ما زالت قائمة.
المدينة خالية من الأجواء الرّمضانية نهائياً، حفيدة شقيقتي الصغيرة عمرها خمس سنوات، تبكي يومياً تريد العودة إلى منزلها الذي قُصف كي تلعب في ساحته، أحياناً تضربها أمها لتسكتَها، الجدّة فقدت ابناً وابنة وحفيدة وزوج ابنة جراء القصف، انهارت الجدّة تماماً وامتنعت عن تناول الطعام.
كانت دير البلح مدينة هادئة، معظم أهل البلد الأصليين مزارعون، كانوا يخرجون من الفجر إلى الحقول ويعودون منهكين وينامون مبكّراً، وهذا كان سبباً للتهكّم والسُّخرية منهم على مواقع التواصل.
يحاول الناس في رمضان جاهدين إسعاد أسَرِهم ولكن بلا جدوى، فمن لم يفقد شخصاً من أسرته يكون قد فقد من الأقرباء أو من الجيران.
ابنة أختي كانت مخطوبة، وكانت تنوي أن تعمل حفل زفاف مميّزاً، ولكن للأسف ذهبت إلى بيت زوجها بالجلباب من غير أي طقوس.
الوجوم والبؤس والشّقاء واضح على الوجوه، كبرنا عشرين عاماً خلال نصف عام، إن لم يكن أكثر، شابت القلوب قبل الرؤوس.
كانت عبارتنا المشهورة «رمضان بيجي وخيره معه»، كان الناس يأكلون ما لذّ وطاب بلا استثناء بين غني وفقير، أما رمضان في هذه الأيام، فليس فيه ما لذّ ولا ما طاب، ولا نستطيع القولَ إن الميسورين أفضل حالاً بكثير، نعم قد يملكون مالاً، ولكن البضاعة نادرة، والجميع معرّضون لقصف مفاجئ، قد لا تكون أنت المقصود في القصف، لا يوجد مكان آمن في قطاع غزّة ولا حصانة لأيٍّ كان، مهما كان بعيداً عن السّياسة.
كان الباعة يستعدّون لاستقبال شهر الخير، يعرضون بضائعهم الجميلة المتنوعة على الشّوارع، أما المراكز التجارية الراقية فتعرض بضائعها داخلها في ترتيب لافت، كان الناس يستعدون لرمضان قبل حلوله بأسبوع، يحضرون الأجبان والألبان بجميع أنواعها، وقمر الدّين والتّمر والمكسّرات لحشو القطائف، والعصائر الطبيعية أو الصناعية، الآن لا يوجد شيء من هذا سوى التّمر لأنّه يدخل مع المساعدات، الشَّوارع مليئة بالبسطات العشوائية التي لا تَعرض سوى المعلّبات أو زيت السّمسم (السّيرج) أو السُّكر المسروق من المساعدات، الشّوارع مكتظة في النهار، الازدحام غير طبيعي، الناس يتفرجون على البضاعة ويمضون، لأنّه ببساطة لا يوجد ما يشترونه.
أكاد أجزم أن كلّ أهل القطاع يتناولون الفطور نفسه لأنّه لا يوجد بدائل، لا أتحدث عن أولئك الذين لا يصلهم شيء وأدركهم الجوع في الشّمال.
كانت الزّينة تعلّق على الأبواب وفي الشّوارع، والأسواق كان يميّزها كثرة الفوانيس، كنا نشتري فانوساً للأطفال، اشترينا السّتائر المضيئة والنّجوم والأهلّة، ولكن للأسف لا يوجد كهرباء لنضيئَها.
كان الناس ينزلون إلى الشوارع بعد الفطور، ولكن الآن الخوف هو سيّد الموقف.
الناس يفطرون ثمّ يراوحون في أمكنتهم، إلى أين يذهبون؟ لا ضوء في الشّوارع ولا أمان، كنا ستة أنفار في الشقة، الآن نحن أكثر من عشرين، فقد نزح إلينا بعض الأقارب من الشّمال.
الليل رعبٌ وخوفٌ، ظلامٌ دامسٌ، حتى الهمس لا نسمعه، ما نسمعه فقط هو هدير الطائرات المخيف التي تكون عائدة من قصف، أو التي جاءت لتقصف، تهتز الشبابيك والأبواب بقّوة، نخشى تحطّم الزجّاج، ولهذا نترك الشبابيك مفتوحة، رغم البرد الشديد.
صوت الطائرة الزّنانة المقيت الذي لا يتوقف ولا لحظة منذ بداية الحرب، إلا خلال أيام الهدنة القصيرة، هذا يسبب الصُّداع والعصبية لدى أكثر الناس، إنهم يتفنّنون في تعذيبنا.
صوت نباح الكلاب المُرعب التي تتوافد بالمئات بمجرد حلول الظلام.
المسحّراتي جاء فقط في الليلة الأولى مع طبلة كبيرة، بعبارته المشهورة «اصحَ يا نايم وحّد الدايم، رمضان كريم» كان ينادي بصوته الجميل على سكان الحارة، كل واحد باسمه، ولكن في اليوم نفسه حدث قصف عنيفٌ، وبمجرّد التطبيل هاجمته الكلاب بسبب خوفها منه، غاب المسحراتي وغاب صوت طبلته.
نربط منبّهات التلفون للاستيقاظ، لأنّنا لا نسمع صوت المؤذنين، فقد هدموا أكثر المساجد.
حتى أذان المغرب، بالكاد نسمعه من مساجد بعيدة جداً لم تُهدم بعد. أحياناً نفطر بعد الأذان بحوالي خمس دقائق، لأنّنا لم نسمع الأذان جيّداً، ونخشى المخاطرة بأن نفطر قبل الأذان، فيضيع صيامنا.
وجبة السُّحور عبارة عن فول معلّب وجبنة مصرية، هذا سحور معظم أهل قطاع غزة، لأنّه لا بديل عن هاتين المادّتين، أنا لا أتسحّر، لأنني لا أحب الفول المعلّب ولا هذا النّوع من الجبنة، أكتفي بكوب شاي فقط.
هنالك تجار يستغلون حاجة النّاس وقلة البضاعة لرفع الأسعار، وبعضهم يستغل الكاسد من بضاعته بأسعار البضاعة الممتازة وأكثر، ثمن البيضة تجاوز الدولارين، علماً أنّ بعضها فاسد.
قرّرتُ أن أفرِحَ صغيرتي ابنة السّنوات الخمس في عيد ميلادها رغم الحرب، اقتنيت أربع بيضات لإعداد الكعكة تبيّن أنها فاسدة، أرسلتُ شقيقها مرة أخرى لشراء البيض، ولكن أن يحضرها مفقوسة في كيس نايلون، كي يتأكّد من صلاحيتها أمام البائع.
هنالك لصوص يسرقون كل ما تقع عليه أيديهم، مثل العتاد الكهربائي، بعضهم سرق أعمدة كهرباء خشبيّة من الشّوارع لتقسيمها وبيعها كحطب، سرقة سيارات، أحدهم سرق سيارة ودخل في شارعنا الذي لا مخرج منه، لحق به صاحب السّيارة، فما كان من السّارق إلا أن دهسه، عندما خرج من في الحي لمساعدة صاحب السّيارة أطلق اللص عليهم النّار وهرب.
لا أنسى أعمال الخير الغالبة على الناس، لم يبخل أكثرهم على من هُجّروا وجاؤوا من الشّمال، لا يحملون شيئاً، بعضهم وصل حافياً.
ما حكيت لك عن جرّة الغاز؟
-ما بها جرة الغاز!
-لأني أعاني من مشاكل في التنفس لا أستطيع الطهو على الخشب والكرتون، ولهذا حرصت جداً على الغاز، ولكن رغم ذلك استنفدت الجرّة، وليس سهلاً الوصول لملئها، لي صديقة تعيش في السّويد ولزوج أختها محطة غاز في دير البلح… حدّثتها وأنا جداً محرجة، قلت لها تحدّثي مع أختك لأن وضعي الصحي لا يسمح لي بالطّهو على الخشب بسبب الدخان، أريد ملء جرّة الغاز، تعاطفت معي فعلاً، تحدّثت مع أختها التي تعيش في تركيا، وهذه اتصلت وأرسلت شاباً من طرفهم، أخذ جرّة الغاز الفارغة وأعادها ممتلئة، طبعاً عادت لتنفد من جديد.
لا يستبعد النّاس العاديون في قطاع غزة بأنّ هناك عملاء مدسوسين يعملون على نشر الفوضى بتنسيق وخدمة للاحتلال.
وصلتني هذه الرسالة الرمضانية من دير البلح، واستشرت صاحبتها في نشرها فوافقت، كتَبَتها في لغتها المحكية ولم أجر فيها سوى تعديلات طفيفة. كانت هذه الرسالة رداً على سؤالي لها: كيف رمضان عندكم؟