رسالة استثنائية تفيض شعراً وحزناً وشجاعة في وجه أقدار أليمة تلقيتها من روائية وشاعرة هي الشابة السورية/اللبنانية مريم مشتاوي، وكان تاريخ الرسالة 22 أيلول/سبتمبر 2019.
ولكنني لم أنشرها في عمودي الأسبوعي على الرغم من جمالها الفني الأدبي؛ لتأثري بجرح قلب مريم لرحيل طفلها، وقررت أن من حقها أن تبوح بذلك بنفسها.. وها هي تفعل.
اليوم، وقد نشرت مريم رسالتها لي في عمودها الأسبوعي، صار بوسعي أن أتحدث عنها، وبالذات عما دعاني لعدم نشرها، وهو قولها: «إنه ابني الصغير الذي نهش السرطان جسده وتركه لي جثة هامدة على صدري»، وكأم.. لا أعرف ما هو أكثر إيلاماً في الحياة من فقد الأم لطفلها.
على الرغم من طعنة القدر، استطاعت مريم الوقوف على قدميها لتردد معي «صباح الخير أيها الفرح»، كما جاء في رسالتها.
وها هي تزدهر عطاء في روايتها «جسور الحب» ـ دار المؤلف ـ لندن، وتستحق قراءة نقدية متأنية.
لمريم مجموعات شعرية ربما كان عليها أن تضم إليها رسالتها لي التي تسيل شعراً، ولن أخفي ارتياحي لقول مريم فيها لي:
«هل تحسين كم غيمة زرقاء هبطت فوق كتفي وأنت تُنْهضينني من رمادي بعد كل انتكاسة لأردد معك: صباح الخير أيها الفرح».
أتمنى أن تجد الشابات كمريم، في أبجديتي، ما يحرضهن على مواجهة قسوة الأقدار بترداد عبارتي «صباح الخير أيها الفرح»، لعلها من كتابي «أعلنت عليك الحب».
على الغلاف الأخير لروايتها الجديدة نشاهد صورة مريم مبتسمة كأنها لم تنزف جرح قلبها، ونقرأ في بعض تعريف الغلاف بها: «صدر لها عدد من المجاميع الشعرية آخرها «حين تبكي مريم»، كما صدر لها عدد من الروايات منها «عشق» و«ياقوت» و«تيريزا أكاديا». أسست صالوناً ثقافياً في لندن تستقطب إليه نخبة من الأدباء والشعراء والمثقفين العرب والأجانب.
ويا عزيزتي مريم، أبجديتي سعيدة لأنها كما جاء في رسالتك لي: «هل تعرفين كم غيمة زرقاء هبطت فوق كتفي وأنت تنهضينني من رمادي بعد كل انتكاسة». وختاماً، أتمنى أن يكون في أبجديتي ما يحرض إرادة مقاومة مآسي الحياة لنتابع المسيرة.. رغم الفخاخ اليومية والطعنات القدرية.
حين قرأت الخبر عن ذلك الداعية الباكستاني الذي اتهم النساء بالتسبب في «وباء كورونا» كدت لا أصدقه لو لم ينشر في منبر له مصداقيته.. وهكذا (بنظره) كورونا فيروس هو عدم التزام النساء بالحشمة لأنهن «يرقصن ويقصرن ثيابهن»!.. حين يقرأ طبيب غربي ترجمة لهذا الكلام بلغته سيتوهم أن الدين الإسلامي الحنيف لا يتناسب مع فهم مصائب العصر، والفيروسات التي تسبب الأمراض.. فذلك الداعية يجد الحل في حشمة الحريم وتوقفهن عن الرقص وليس في الذهاب إلى المختبرات والجامعات لاكتشاف لقاح ضد هذا الوباء أو علاج للمصابين به. هذا الداعية لا يمثل عقل الإسلام الحنيف، والعمامة لا تصنع داعية إسلامياً «لذوي اللحى الكثة والعقول الرثة»، كما وصفهم فيلسوف مصري.
كم تمنيت أن يتحدث ذلك الداعية الإسلامي منتقداً العنف المنزلي ضد النساء التي تزايدت خلال فترات الحجر الصحي في العالم العربي والغربي أيضاً. ففي أستراليا مثلاً خصصت الدولة 61 مليون دولار لمكافحة العنف المنزلي وضد مرتكبيه.. أما في بلادنا العربية فقد تضاعف العنف المنزلي خمس مرات في أحد الأقطار، ناهيك عن أقطار لم تتحدث عن ذلك بالأرقام وبالشفافية الإعلامية ذاتها.
وليت ذلك الداعية الباكستاني الإسلامي تذكر معاناة المرأة كالرجل بسبب وباء كورونا بدلاً من اتهامها بأنها كورونا!!
ذلك «الداعية» الباكستاني لماذا لم يجد غير النساء سبباً للوباء ولم يخطر بباله ضرورة اتباع نصائح الأطباء حول الحجر الصحي، أي عدم التجمع حتى لعرس؟
وها هو عرس في قطر عربي يتسبب في نحو 90 إصابة بكورونا، وبدلاً من أن يشجب ذلك الداعية خرق قواعد السلامة العامة لم ير إلا الثياب القصيرة للنساء! ولم يخطر بباله شجب الأعراس والمباريات الرياضية وكل تجمع يستطيع فيه شخص واحد نقل العدوى إلى كل من لامسه أو صافحه أو قبله «قبلة الموت».. هذا الانفصام بين بعض رجال الدين والعلم لا صلة له بروح الإسلام الحنيف، بل يسيء إلى المسلمين جميعاً لا المرأة وحدها.
تهرب من الحجر المنزلي إلى التلفزيون متطلعاً إلى فيلم فكاهي ينسيك قليلاً السيد الموت الذي يتربص بالجميع، واسمه هذه الأيام كورونا. ولكن شاشات التلفزيون صارت مولعة بإتحافنا بمسلسلات تدور أحداثها في المستشفيات، وبطلها الطبيب (الوسيم) طبعاً.
من حق المخرج اختيار ذلك الموضوع ديكوراً للتوفير في نفقات الإنتاج.. فالمسلسلات المتلفزة التي بطلها طبيب وتدور في المستشفى لا تكلف المنتج مالاً للإنفاق على الديكور والملابس.
وها هو التلفزيون الفرنسي مثلاً يطلع علينا في قناته الأولى الناجحة بمسلسل (طبي) جديد اسمه «المقيم»؛ أي الطبيب المناوب الذي يقيم هذه المرة في المستشفى! وأهرب من تلك المذبحة النفسية إلى أي برنامج خفيف الظل أو تلك التي تصور مخلوقات الله الجميلة-الحيوانات، وجماليات الطبيعة، والأفلام الضاحكة، وغير ذلك مما لا مرض فيها ولا مستشفيات.. وأظننا هذه الأيام في حاجةإلى إجازة من مسلسلات المرض والمستشفيات! ويقاطعها الكثيرون مثلي.
الحجر المنزلي؟ إننا ببساطة نختنق ويزيد في ذلك الشعور كلام داعية إسلامي يتهم المرأة بأنها فيروس كورونا!
ونكتشف فضائل الصمت!
ما قرأته في مقالة المتألقة مريم مشتاوي من صدق التعبير وجميله، وما تبع من عِبَرٍ، وعَبَراتٍ صامتة فرضتْ نفسها والأمر جلَلٌ، كان مداده من جمال روح الكاتبة.. لحظة جعلتني في متاهات ذكريات غائصا..
وعبارةُ « لا أعرف ما هو أكثر إيلاماً في الحياة من فقد الأم لطفلها »، تصبح بها تلك الأم، هي أمي ومن أبلغ ما قرأت في المعنى… ويبقى « صباح الخير أيها الفرح »؛ و« جسور الحب »؛ مع نسيانٍ إلى حين، من لطيف نواميس الوجود..
في إحدى المعارض هذه سنين، سألتُ الكاتب الأمريكي “دوڭلاس كينيدي Douglas Kennedy” : “ما سر نجاح رواياتك ؟”.. ثم مازحاً : “أَلِأن دائما على الغلاف صورة إمرأة حسناء ؟”..
فكّر لحظة، ثم أجاب : “ربما لأنني أتكلم في مشاكل الناس.. نعم، هذا هو السر”.. ثم انتفض : “لكنني لا أحلها”.. وهنا المفارقة، والفرْق بين الفِرق.. لأن هناك في الأدب ما يحل مسائل ومشاكل.. وهذا ما نجده في بوح مريم الجميل..
الإعتراف بفضل الآخرين علينا نبلٌ، وعلامة دالّةٌ على صفاء النفس.. هذا الصفاء ما نجده إلا عند الصفوة.. وأنت يا مريم من الصفوة..
مع التحايا لكما…
ندعو له بالرحمة /وللأديبة وأهلها الصبر والسلوان /أن يرحل صبي في مقتبل العمر ويعمر آخر لأن يسأم الحياة دليل آخر قاطع على أن الأقدار ليست عادلة وهو أحد المواضيع التي حاولت التعبير عنها في الرواية السيرية “أنجلينا فتاة من النمسا” ومنها الاقتباس التالي:
“ليست كل السجون من صنع البشر، أو بإرادة البشر، عقابا للمذنبين وحفظا للنظام والأمن والاستقرار والممتلكات. فكثير من السجون من صنع الحياة نفسها، يوضع فيها الإنسان من دون إذن، وبغير محاكمة، وبغير ذنب! وأي ذنب هذا الذي ارتكبته السيدة دوفا حتى تحكم عليها الحياة بالعيش المؤبد خلف قضبان الإعاقة والمرض المزمن والألم الدائم؟! وأي ذنب هذا الذي ارتكبه الأعمى لكي يُحكم عليه بالعيش في زنزانة الظلام مدى العمر؟! وأي ذنب للأرواح البريئة حتى تحبس في أجساد سيئة الهيئة، قبيحة المنظر، عرضة للسخرية؟! وأي عدل في ذلك إن كانت أرواح أخرى تحيا في أجساد جميلة، فاتنة، تنبهر الأنظار لمشاهدتها؟!”
#وجودية #حياة #قدر #الحياة_ليست_عادلة
كل المودة والاحترام والتقدير للرائعتين غادة السمان ومريم مشتاوي
جميل ما كتبت في وجه قبيح للوجود.. وتأتي الشيخوخة، فيكون الجميع في نفس الزنزانة..
بوركت أخ مولود بن زادي …