عرفت الثورة الفرنسية «بونابرتها» الذي انقلب على جمهوريتها، ونشر المنطلقات الثورية في عموم القارة الأوروبية في نفس الوقت بصيرورته «نابليون الأوّل» مزعزعاً بإمبراطوريّته «البرجوازية» سلالات النظام الملكي القديم.
كان الشغل الشاغل في الثورة الروسية في المقابل، كي لا يحمل معه «الجيش الأحمر» قائداً بسمات بونابرتية يطيح بهيمنة الحزب البلشفي. تأوّلت الثورة الروسية أحداثها ومنعطفاتها في مرايا الثورة الفرنسية، وجرى توظيف غريزة الإشتباه والتحسس من «البونابرتية» مرة للإطاحة بباني الجيش الأحمر، القادم من خارج السلك العسكري، ليون تروتسكي، ومرة بتصفية الماريشال الفذ توخاتشيفسكي ذي الأصول الأرستوقراطية، قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية رغم نظرياته العسكرية السديدة التي سيتعان بها عملياً في غمرة الحرب. كذلك جرى إبعاد أبرز صناع النصر فيها على ألمانيا الهتلرية، الماريشال جوكوف، عن مركز القرار العسكري كما السياسي، بسرعة بعد الحرب. أما الثورة الصينية فكان لها «بونابرت» خاصتها، في شخص الماريشال لين بياو، الذي كان قاب قوسين من خلافة ماو، في السنوات الأولى من «الثورة الثقافية»، وبالتالي من فرض هيمنة عسكرية على حساب تلك الحزبية، قبل أن تواجهه العراقيل في الجيش نفسه قبل الحزب، ثم تطيح به «عصابة الأربعة» بقيادة زوجة ماو، ويُردى كـ»خائن» حاول استعجال الخلافة التي وُعِدَ بها.
«بونابرت» الثورة الإيرانية عرف مصيراً مختلفاً. لقد نسجت حول اللواء قاسم سليماني، بشكل أو بآخر، هالة بونابرتية. فالرجل قاد «فيلق القدس» أبرز تشكيلات «حرس الثورة الإسلامية» للعمليات الخاصة والخارجية، وواظب على التمسّك بصورة «الجندي» في خدمة الثورة الإسلامية والولي الفقيه «بعيداً عن الأضواء». هذا البعد عن الأضواء تحوّل بحد ذاته إلى إطار لتنامي الأسطورة، التي نسجها الواقع والمخيال معاً، وتقاطعت مع التفتيت الكياني والمجتمعي لبلدان المشرق العربي بالتحديد. قاد إمبراطورية من الميليشيات المهدوية في المنطقة، وأشرف على إدارة القتال بنفسه سواء في سوريا أم في العراق، وهو المشرف أساساً على ملف «حزب الله» منذ أواخر التسعينيات من القرن الماضي. «بونابرت» في هذه الحالة كان يبدو تماماً كذراع متقدمة لـ«المرشد» الثيوقراطي، إلا أنّ السلك «الحرسي» الذي ينتمي له، ويبرع في قيادة عملياته الخارجية، أصبح بنتيجة سطوته في الداخل وحيويته في الخارج معاً، مهيمناً على السلك «الكهنوتي» نفسه الذي على رأسه الولي الفقيه. والنظام الإسلامي ككل، بثنائية الملالي والحرس الذي يستند إليها من دون أن تلغي ركنه الثالث، بيروقراطية الدولة «المزمنة»، كان يجد في هذا الرجل «التركيبة الكيميائية» المثلى بالنسبة إلى صورة النظام المشتهاة عن نفسه، كـ»ثورة دائمة» سريعة الحركة، توظّف التفكير العسكري في منهج الحروب اللامتكافئة، وكيفية المواءمة ضمن هذه الحروب بين ما القطاعات النظامية والتشكيلات غير النظامية. جمع بونابرت إيران في هذه الحالة بين صورة النظام عن نفسه، وعن ثورته، وبين تاريخ طويل من مكافحة أعمال التمرّد، أي ما هو بالنسبة له مكافحة ثورة مضادة، وما هو بالنسبة لأخصامه وضحاياه مكافحة الأفعال الثورية والتحررية نفسها. حتى قبل مقتله، كان سليماني بمثابة ثالث ثلاثة بنظر مقاتلي الميليشيات المهدوية الموالية لإيران في البرّ العربي، من بعد الخميني والخامنئي، وكان المرشد الحالي قد لقّبه بـ«الشهيد الحيّ» يوم توليته «فيلق القدس».
باعتبار تاريخ العرب والعجم، يبدو سليماني أشبه ببونابرت الساسانيين، رستم فرخزاد، أبرز القادة المتصدين للفتوحات العربية الذي صاح قاتله بعد القادسية «قتلت رستم وربّ الكعبة»
في الثورة الفرنسية، انقلب بونابرت على الجمهورية وصار الإمبراطور نابليون الأول. في الثورة الروسية، كانت السمة البونابرتية لأي شخصية تتكئ على «العسكر» عاملاً مسرّعاً لتهلكة هذه الشخصية أو إبعادها. في الثورة الصينية، كان «بونابرتها» لين بياو يتجهز لخلافة ماو قبل أن يطيح به الصراع الداخلي من جهة، والتقارب الصيني الأمريكي من جهة ثانية. أما في الحالة الإيرانية، فقد أطيح بالهالة البونابرتية من الخارج تماماً، وقبل أن تستكمل بناء ذاتها، أو أقله قبل أن تدلي بما عندها حول سمات خليفة المرشد الحالي في القادم من سنوات. في لحظة محتدمة للغاية، شرق أوسطياً كما بالنسبة إلى الداخل الأمريكي، أقدمت ادارة دونالد ترامب على بتر المآل البونابرتي لنظام الثورة الإيرانية، في الوقت نفسه الذي زادت فيه سيطرة «الحرس الثوري» على تخت السلطة في إيران، بالمقارنة مع السلك الكهنوتي من ناحية، ومع البيروقراطية المزمنة، من ناحية ثانية. أثرُ مصرع سليماني على سطوة الحرس نفسها هو ما يفرض نفسه كسؤال أوّل، وكلّ انتظار للرد الإيراني على القتل الأمريكي، ثم الردّ الأمريكي على الردّ الإيراني، رهن هذا السؤال الأوّل. الكاريزما البونابرتية التي صنعها ليس فقط سليماني حول نفسه، بل التي صنعها النظام الإيراني ككل والميليشيات المهدوية العربية التي إلى جانبه، حول سليماني، هي الآن مقام خال لا يمكن ملؤه مباشرة. أساساً من سمات الهالة الكاريزمية حين تعقد حول شخصه أنها تصعب الأمور أمام من يعتزم إعادة تشكيل هذه الهالة حول شخص آخر.
في تاريخ الفكر العسكري، سيبقى سليماني من أعلام الحروب غير المتكافئة وغير النظامية. لكن مقتله يدفع أكثر فأكثر بالأمور نحو دوامة الحرب النظامية، الحرب المباشرة بين الولايات المتحدة وبين إيران. لا داعي لاستعجال الأيّام المقبلة، أو للنطق بحتمية هذه الحرب، لكن في أقل تقدير الحديث عن أي تسوية بين أمريكا وإيران الحالية، أي النظام المنبثق عن الثورة الإسلامية فيها، بات خارج تغطية الواقع.
بالتوازي، يمثّل سليماني في تاريخ العلاقات بين شعوب المنطقة تداخلاً بين منحى تغلبي «إيراني» غير مسبوق، على العرب، نتيجة الانقسامات العربية الكيانية والمذهبية والسياسية، وبين منحى «مهدوي» عربي موال لإيران، يتجذر في دائرته المذهبية ويتجاوزها في نفس الوقت، ملحقاً به فلول ما بقي من أيديولوجيات منكسرة أخرى.
باعتبار تاريخ العرب والعجم، يبدو سليماني أشبه ببونابرت الساسانيين، رستم فرخزاد، أبرز القادة المتصدين للفتوحات العربية الذي صاح قاتله بعد القادسية «قتلت رستم وربّ الكعبة». مع فارق جوهري، وهو أن رستم العائد بعد أربعة عشر قرناً، يصدر هذه المرة «الإسلام الثوري» للعرب، إسلام الثورة الإيرانية. إسلام ثوري يبدو «عروبياً» فوق اللزوم، بالنسبة للمعارضين الإيرانيين للجمهورية الإسلامية، ويبدو «فارسياً» ومذهبياً بحتاً بالنسبة للمناوئين العرب لها، أو يبدو بالعكس تماماً متجاوزا للمذهبية ومتجاوزا للقومية بالنسبة لكل معسكر الممانعة بين العرب. إسلام ثوري مدمج بنزعات انبعاث المجد الإمبراطوري الغابر للأخمينيين والساسانيين، لكن أيضاً مدمج بنزعة انتابت إيران بعد ثورتها للابتعاد عن هذا التاريخ القديم، نفس التاريخ الذي يهدّد ترامب اليوم إيران بضرب معالمه، إن هي ردّت على قتل سليماني.
قتل رستم فرخزاد مرة جديدة وفي نفس المكان تقريباً. انما على يد الإمبرياليين الأمريكيين هذه المرة، وليس جيوش عمر. جرت الإطاحة ببونابرت الثورة الإيرانية، إنما على يد أعداء نظامها. في هذا التداخل، بين مرايا رستم ومرايا بونابرت يجوز التأمل قليلاً قبل أن يداهمنا باقي المشهد.
كاتب لبناني
رائع .. مقال كأنه لوحة فنية ، مقال أخاذ وجميل . مع ذلك ، صحيح ان الأدب والفن يسبق السياسة لكنه مع ذلك ينبغي الحذر ،،فبكل الأحوال لا يقدم بديلاً عنها وقد يمثل حفرة او ورطة تقع فيها السياسية ولا تخرج الا بثمن باهظ ، الم يقرأ العربي الفخور والشهم والشجاع والكريم صدام حسين التاريخ من هذه الزاوية الفنية ، ووقع وأوقعنا جميعا في الحفرة ، التي ما زلنا عالقين فيها ، وبينما كان بعضنا ينادي العم سام ليخرجه منها نادى البعض الآخر العم قاسم ..
ما رأي أهالي ال ١١ ألف سجين الذين استشهدوا تحت التعذيب في سجون فرعون النظام السوري وسرب لهم القيصر ٥٥ ألف صورة ب(استشهاد) هامان سليماني ؟
شكراً أخي وسام سعادة. مازلنا لانعرف هل رستم أم نابليون هو الذي مات, لكن الضربة كانت موجعة لدرجة أن المرشد غص وبكى وبكوا معه. وترامب يبدو هو الأخر اليوم أكثر حذراً مما مضى. إذاً يبدو أن التوافق الإيراني الأمريكي الذي جعل البلدان العربية مسرحاً للدماء والتوحش انتهى, لكن هل سينتهى التسلط والتوحش, في سوريا والعراق واليمن ولبنان, نتمنى ذلك. وبما أن ترتيب الأوراق لم ينتهي بعد, لا نتفائل بهذه السرعة. مثلاً أنا أعتقد أن رأس بشار الأسد مرهون بموافقة إسرائيل, ولهذا لن يكون من ضمن حسابات ترامب. أما ماتبقى فسيكون موضوع شد وجذب, سيضعف ثقل إيران ولكن لن يفيد ترامب كثيراً. تماما كما أن رد حزب الله السابق أو الأخير على نتنياهو بقي كما هو بلا تداعيات. برأيي هي فرصة جديدة للشعوب العربية لتتابع مسيرتها.
المعلق امل ….. لا اجد سببا لاعتبار فرعون مصر شخصا ضارا للامة العربية حيث انه مات منذ اكثر من 3000 سنة من بدأ الحقبة الاسلامية ولم يكن هناك اي تأثير سلبي منه على العرب والاسلام او المسيحية فلماذا يكثر استخدام اسمه وكانه عدوا لنا ؟ الامر يختلف عند اليهود واكاذيبهم فلماذا ننجرف معهم ضدشخصية لم يكن لها اي علاقة بنا ؟ كفى انجرافا نحو افكار وقصص اليهود الكاذبة . ولو خيرت بين فرعون ونتنياهو او اي قائد صهيوني لعانقت فرعون وشكرته على حكمته ضد هؤلاء .
وضعت نفسك في موقف حرج ياأخي Howard لو سألتني لقلت لك أن فرعون هذا الزمان هو نتنياهو فكيف تعانق فرعون؟ بالمناسبة يوجد أكثر من فرعون في هذا الزمان