رسمية عودة والعدالة الأمريكية غير العادلة ـ سياسة الكيل بمكيالين

في العاشر من شهر حزيران/يونيو القادم ستعقد جلسة في المحكمة الفيدرالية في ديترويت بولاية ميشيغان، للنظر في التهم الموجهة للسيدة رسمية عودة، الأمريكية من أصل فلسطيني، ليس لأنها اخترقت القانون الأمريكي، بل لأن السلطات القضائية تريد إعادة فتح ملف عمره 44 سنة، عندما كانت شابة في مقتبل العمر واحتجت بطريقتها على ما رأت بأم عينيها من ظلم لا محدود لحق بشعبها بشكل عام وعائلتها بشكل خاص، بعد اقتلاع الشعب الفلسطيني من وطنه ورميه في المنافي، واستكمال مسلسل النكبة باحتلال ما تبقى من مزق وأشلاء عام 1967، لتكتمل فصول المأساة بين النكبة والنكسة. بعد 44 عاما من اعتقالها في إسرائيل وبعد عشرين سنة على استقرارها في الولايات المتحدة، مواطنة ناشطة في كل المجالات، عادت العدالة الأمريكية العرجاء تفتش في الدفاتر العتيقة لتجد مبررا لاعتقال الحقوقية والمربية والقائدة والإنسانة رسمية يوسف عودة، وتوجيه تهمة الكذب والتزوير في طلب الإقامة التي تقدمت به عام 1994، تهم لو ثبتت عليها سيحكم عليها بالسجن لمدة قد تصل الى عشر سنوات، ويتم إبعادها من البلاد وتجريدها من جنسيتها الأمريكية. لقد قامت السلطات الفيدرالية بالتدقيق والتمحيص في الطلب لمدة خمس سنين، وهي تحمل بطاقة الإقامة ثم منحت بعدها الجنسية الأمريكية. فما هي قصة رسمية عودة التي تجسد جانبا من معاناة جيل النكبة الذي هي واحدة منه.

رسمية وجيل النكبة

ولدت رسمية عودة عام النكبة في بلدة لفتا الجميلة التي تنتشرعلى سفح جبل غربي القدس. هـُجّر أهل البلدة جميعهم عند احتلال البلدة في بداية عام 1948 وأصبحوا لاجئين، بمن فيهم عائلة الطفلة رسمية الذين استقروا في رام الله. وعندما اشتد عودها وتلفتت حولها فلم تجد أمامها إلا حياة التشرد والحرمان تتجرع منها كل يوم شيئا من الذل والهوان، ثم جاء الاحتلال البغيض عام 1967 لتنطبق فكا الكماشة على ما تبقى من وطن ومن شعب ليبدأ فصل جديد من تحدي الصعاب وعدم الاستسلام للهزيمة. كانت مقاومة الاحتلال بعد الهزيمة إيذانا لبداية تحمل الفلسطينيين المسؤولية الأساسية في النضال بعد هزيمة الأنظمة، فانخرط في مقاومة الاحتلال، ليس فقط شباب وشابات فلسطين فحسب، بل شباب العرب وشاباته ومحبو الحرية والسلام والمتضامنون مع العدالة والرافضون للقهر والظلم والغطرسة الإسرائيلية المدعومة من عواصم الدول الإمبريالية، خاصة الولايات المتحدة.
كانت رسمية مثلها مثل الملايين من شعبها تشعر بعمق المأساة وترفض الاحتلال بطرقها البدائية كشابة صغيرة في مقتبل العمر، فاعتقلتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بتهمة لم تثبت عليها، في ظل محاكمة غير عادلة فحكمت على إثر التهمة ثلاثة مؤبدات و10 سنين وتم هدم بيتها واعتقال أفراد أسرتها، كما تعرضت للتعذيب داخل السجون الإسرائيلية، كما يقول محاميها جيم فنيرتي، الذي تعرف عليها في عمان عام 1984. أفرج عن رسمية عام 1979 في عملية تبادل بين جندي إسرائيلي اختطف أثناء اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان في آذار/مارس عام 1978 مقابل 76 أسيرا من بينهم 12 مناضلة. بعد أن استقرت مؤقتا في سوريا ولبنان والأردن، التحقت رسمية بوالدها في الولايات المتحدة عام 1994. وعند تعبئة طلب الهجرة لم تذكر هذا الاعتقال في طلبها. والحقيقة أن مسؤولية اكتشاف الاعتقال تقع على عاتق ضباط الهجرة الذين يمنحون أنفسهم خمس سنوات من التقصي والتحري قبل أن يعطوا المتقدم وحامل الإقامة الجنسية الأمريكية.
وكان يمكن للأمور أن تسير بهدوء بدون أن ينتبه للأمر أحد، كآلاف الطلبات، لكن رسمية كانت نشيطة في كل المجالات، حيث لم تترك مجالا من مجالات العمل الاجتماعي والمجتمعي والعدالة الاجتماعية إلا وسارت في دروبه.
– انضمت إلى جمعية لمساعدة المهاجرين الجدد من العرب، حيث منحها تحالف شيكاغو الثقافي شهادة تقديرعلى جهودها النبيلة؛
– تعمل رسمية نائبة مدير لـ’شبكة العمل العربية – الأمريكية’ التي تأسست عام 1995 في شيكاغو، وهي منظمة غير حكومية وغير ربحية تعمل على مساعدة المهاجرين والدفاع عن قضايا العرب والمسلمين ومناهضة التمييز العنصري؛
– أنشأت رسمية لجنة المرأة العربية في منطقة شيكاغو، التي تضم نحو 600 عضو من النساء؛
– انخرطت رسمية في دعوة العرب، خاصة للانضمام إلى مشروع الرعاية الصحية الذي تبناه الرئيس باراك أوباما وأصبح يعرف باسمه ‘أوباماكير’؛
– وقفت مع السكان الأصليين الذين يسمون هنودا أمريكيين وانتصرت لهم ولقضاياهم. كما شاركت في العديد من الفعاليات للتضامن مع أبناء أمريكا اللاتينية والأمريكيين من أصول أفريقية؛
– كانت صوتا مناهضا لحروب الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، وشاركت في مظاهرات تندد بالتدخل العسكري الذي كان على وشك أن يبدأ في سوريا.

رأي الجالية العربية والفلسطينية

كل من تحدثت معهم من أبناء الجالية في شيكاغو يجمعون على أن اعتقال رسمية وخروجها المؤقت تحت كفالة مالية بانتظار المحاكمة، قضية سياسية بامتياز. وقد تجمع أبناء الجالية أمام المحكمة تضامنا مع رسمية عندما تم توجيه التهمة رسميا لها في تشرين الثاني/نوفمبر 2013 في ديترويت. وهم الآن يستعدون لحشد أكبر عدد ممكن من أبناء الجالية لحضور المحاكمة في العاشر من شهر حزيران/يونيو القادم، بالإضافة إلى مجموعة مظاهرات أمام المحكمة وحملات كتابة رسائل لمسؤولي الولاية، كما أخبرني حاتم أبو دية زميل رسمية ورئيس ‘شبكة العمل العربية -الأمريكية’. وقال في مقابلة مطولة: ‘نحن لا نشك أبدا بأن المستهدف هم ناشطو الجالية العربية والفلسطينية. يريدوننا أن نخاف وننكفئ في بيوتنا ولا نشارك في العمل الجماهيرى الهادف إلى مناهضة التمييز ضد العرب والمسلمين، ولا ننتصر لقضايا العدالة ومناهضة الحروب، خاصة عندما يتعلق الأمر بمناصرة حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإنهاء الاحتلال وإقامة دولته المستقلة’.
العدالة على الطريقة الأمريكية لها طعم خاص عندما يتعلق الأمر بالعرب والمسلمين، يضيف أبو دية. نحن لا نخترق القانون الأمريكي. نحن مواطنون من الدرجة الأولى ولا نقبل أن نعامل بطريقة تمييزية. وأضاف ‘ان التضامن مع رسمية يوم محاكمتها يبعث رسالة قوية للسلطات الأمريكية مفادها أننا نعرف حقوقنا وندافع عنها ولا نقبل أن يستفرد بنا المتطرفون أو العنصريون أو الحاقدون على العرب والمسلمين’. إن اعتقال رسمية، يضيف أبو دية، يعتبر اختبارا للجالية العربية ومدى تنظيمها ووعيها وتضامنها مع أبنائها وبناتها المظلومين. فإذا نجحنا في الامتحان سيفكر غلاة العنصريين كثيرا قبل استهدافنا، وإذا فشلنا نتحول إلى بطة عرجاء نخضع للتمييز والاستهداف بدون أن ندافع عن أنفسنا.

استهداف العرب والمسلمين ليس جديدا

لقد بدأ استهداف العرب والمسلمين، خاصة الفلسطينيين، في الولايات المتحدة منذ عام 1972 وبعد عملية ميونخ أيام الرئيس نيكسون الذي فوض الأجهزة الأمنية مراقبة الفلسطينيين تحت ما سمي ‘عملية بولدر’، التي استمرت خمس سنوات من المتابعة والترحيل والتنصت بهدف ترويع الناشطين في ظل الالتفاف الجماهيري الذي كانت تحظى به الفصائل الفلسطينية. وكانت الأجهزة الأمنية الأمريكية تشارك المخابرات الإسرائيلية في كل ما تجمعة من معلومات. وفي عام 1987 قامت الأجهزة الأمنية باعتقال 8 من أنصار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في ما سمي بـ(ال.أيه. 8)، أي ناشطو لوس أنجليس الثمانية، حيث أقرت الأجهزة القضائية بترحيلهم واستمرت المرافعات والمحاكمات نحو 20 سنة إلا أن المجموعة كسبت القضية وأسقطت عنهم كافة التهم.
أما العملية الثالثة المعروفة باسم (هولي لاند 5) أي المتهمون الخمسة في جمعية مؤسسة الأراضي المقدسة التي كانت تجمع أموال الزكاة وتوصلها للأيتام والمدارس في الأرض الفلسطينية المحتلة. وهذه العملية التي نفذت على خلفية أحداث 11 أيلول/سبتمبر ذهب ضحيتها خمسة متهمين بقضايا لا تشكل أية تهمة لدى أي جالية أخرى. حكم غسان العشي عام 2008 بـ65 سنة سجن، رغم أنه بـُرئ في المحكــــمة البدائــــية، لكن الأجهزة الأمنية استأنفت الحكم وأدين الرجال الخمســة بأحكام مختلفة. وكان أحد الشهود ضد العشي رجل مخابرات إسرائيليا مجهول الهوية، قال في مداخلته ‘إنني أشم رائحة علاقة بين مؤسسة الأراضي المقدسة وحركة حماس’. وهكذا حكم الرجل هذه المدة غير المسبوقة بناء على رائحة شمها ضابط مخابرات إسرائيلي، مما دعا الاتحاد الأمريكي للحقوق المدنية أن يدين الحكم واعتبره ‘انتهاكا للحقوق الأساسية للمسلمين، ويقوض بشكل أساسي منظومة القيم الأمريكية والالتزام بالتعديل الأول على الدستور الأمريكي’. وأخيرا أود أن أذكر أن الشاب الفلسطيني أليكس عودة من مدينة رام الله قتل بدم بارد في مكتب المنظمة العربية لمناهضة التمييز في آب/أغسطس عام 1985 وكان القتلة معروفين أو شبه معروفين من ‘عصبة الدفاع اليهودية’ الذين احتفلوا بمقتله، بل شوهوا تمثالا للشهيد نصب عام 1994 أمام مكتبة سانتا آنا وهربوا إلى إسرائيل وبقي الحادث مسجلا ضد مجهول.
إنها العدالة الأمـــريكية التي تفتخر بصدقيتها وحياديتها ومهنيتها العالية إلا إذا تعلق الأمر بالعرب والمسلمين.

‘ أستاذ جامعي وكاتب عربي مقيم في نيويورك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عصفور:

    تحية إلى كل المناضلين الشرفاء وأنتم تاج الأمة التي تمر في عصر التخاذل بقيادة زعران وبدون خجل

إشترك في قائمتنا البريدية