صنعاء ـ «القدس العربي» : التقيتُه في مقهى «مدهش» في شارع المطاعم وسط صنعاء. كان يرتدي قميص نايلون ومعوز (إزار تقليدي) في طقس شتوي قارس في دلالة على عوزه الشديد بل وبلوغ تكيّفه مع قسوة الأيام حداً لم يعد يأبه لشيء أكثر من الطعام؛ وهي القسوة التي وجدتها أكثر وضوحاً في هزال جسمه وشحوب وجهه، بل كانت أكثر قسوة في شقوق قدميه التي تحكي قصته الطويلة مع المشي على الأرصفة فقيراً.
ما أقسى هذه الحياة! رشاد اسماعيل أحد أبرز اسماء الجيل الثاني في المحترف التشكيلي اليمنيّ وأهم فناني الجرافيك في بلاده يجلس على ذلك المقعد الحديدي وتلك الطاولة التي ملستها الايدي، حيث ينتظر رغيف خبزالخمير (خبز تقليدي) ليتناوله مع كأس شاي كوجبة إفطار مجانية يحصل عليها هنا.
يأتي إلى هذا الشارع صباح كل يوم من حيث يُقيم في إحدى اللوكاندات. وحتى يصل إلى هنا عليه أن ينتظر باصاً يقله مجاناً، وأحياناً يضطر للمشي مسافة طويلة.
قد تكون هذه المعاناة التي يعيشها الفنان رشاد اسماعيل هي أقسى ما عاشه ويعيشه تشكيلي يمني بحجم تجربته. إنه يعيش مرارات الجوع والتشرد منذ عقدين تقريباً، وخلالها، للأسف، لم يلتفت لمعاناته أحد، وفي المقابل مازال حريصاً على عزلته وانطواءه على نفسه.
أهم فنان جرافيك
هو خريج كلية الفنون الجميلة في القاهرة، عاد إلى بلاده مستهل الثمانينيات، وبدأ تجربته الفنية في وزارة الثقافة، وعلى مدى عقد ونصف وربما عقدين أنجز عدداً كبيراً من الأعمال، وظهرت تجربته متميزة بقدرته المختلفة على الرسم بالأسود بالحبر الشيني على ورق مقوى؛ وهو الأسلوب الذي استمر عليه، وبرز من خلاله أهم فناني الجرافيك في بلاده، إلى أن توقف وغاب…وكان آخر ما قام به رشاد قبل الغياب التام، هو معرضه الشخصي الأول في نهاية التسعينيات.
خجول
لم أعرفه إلا من خلال الشاعر محمد القعود رئيس اتحاد أدباء صنعاء. كان رشاد يتحدث إليّ بصوت خفيض؛ وعلى الرغم من كل هذه القسوة المعيشية التي يتعايش معها مازالت شخصيته محتفظة بدماثة خُلقه وخجله وعزة نفسه إذ لا يطلب الناس ولا يتسول، وإلى ذلك مازال وعيه الفني حاضراً وتحدث إليّ، من خلاله، عن تجربته ولوحته كان يتحدث وكأنه في مرسمه. تناول حديثنا ما كانت عليه تجربته، وبخاصة في علاقته بالرسم بالحبر الأسود الشيني، موضحاً أن هذا الأسلوب كان يمكّنه من التمييز بين الأشكال في لوحته.
عندما يلتقي الخجل والفقر والابداع في شخص ما فإن النتائج تكون قاسية لاسيما في بيئة ابداعية طاردة كالبيئة اليمنية.
أشار رشاد إلى أن تخليه عن اللوحة وتوقفه عن الرسم كان مع بداية الألفية الجديدة نتيجة تدهور ظروفه المعيشية، وعدم استقراره في بيت واحد، بل إن عدم استقراره وتنقله بين البيوت واللوكاندات قد ذهب بجميع ما كان يمتلكه من أعمال، حتى بات اليوم لا يملك عملاً واحداً من أعماله؛ وبالتالي ـ كما يقول ـ فإن ما تبقى من تجربته هو ما اقتناه المقتنون من معرضه الشخصي الوحيد ومشاركاته في المعارض الجماعية.
ونتيجة لذلك لم نحصل على صورٍ لبعض لوحاته إلا من خلال صديقه التشكيلي والشاعر صبري الحيقي، إذ هو يحتفظ بأعداد لمجلات يمنية كانت تنشر صوراً للوحات هذا الفنان. ونتيجة لعلاقة الصداقة التي كانت تجمعهما فقد حصلنا من صبري، أيضاً، على معلومات قريبة من حياة رشاد؛ وتُنشر لأول مرة نقلاً عن مصدر يكاد يكون مصدرها الوحيد.
أنجز رشاد عديد من الأعمال، وغالبها بالحبر الشيني الأسود باعتباره الأسلوب المتاح له لأصابته بعمى الألوان
عمى الألوان
عن بداية معاناة رشاد من العزلة وتعلقه بالرسم بالحبر الشيني الأسود تحدث الفنان صبري الحيقي لـ «القدس العربي»، عن الأسباب التي تقف وراء اختياره الرسم بهذا الأسلوب وخلفية عزلته وانطوائه…يقول:» لو تعرفْ القاهرة أو عشتْ فيها ستعرف أن المواصلات العامة أحياناً تجبرك على الجري والتعلق بأبواب الباصات لكي تلحق مشوارك. ومن سوء حظ رشاد اسماعيل أنه حينما كان يدرس في القاهرة حاول مرة، وهو يجري، أن يقفز إلى الباص، فسقط في الشارع وأُصيب، حينها، بكدمات سببت بداية معاناته من الانطواء ونوع من التوحد… إضافة إلى أنه أصبح مُصاب بعمى الألوان، مما أجبره على أن يحدد أسلوباً واحداً في الرسم هو الحبر الشيني الأسود على ورق مقوى …ونادراً ما رسم بالألوان تقريبًا، وقد تكون مرتين أو ثلاث مرات هي كل ما رسمه بالألوان.»
«رسمتُ بالحبر الشيني الأسود كثيراً، لكن هناك أعمال اشتغلتها بالألوان الزيتية. متى ما توفرت الأجواء الملائمة ممكن أعود للرسم؛ فالفن التشكيلي يحتاج إلى وضع مستقر، فمتى ما تهيأت الفكرة وتوفرت الظروف الملائمة يمكن أن تمارس طقوسك مع اللوحة»، يقول رشاد لـ»القدس العربي»، في أول أحاديثه للإعلام منذ غيابه عن الساحة، مضيفاً» أنا فنان من هذا الواقع وانتمي إليه، وقد يتجاوز الفنان واقعه، لكن يبقى العمل الفني يحمل في مضمونه نقداً موضوعياً للواقع»، مؤكداً إمكانية عودته للرسم، «متى ما استعدتُ استقراري وانتظمتْ حياتي يمكن أن أعود للوحة.»
في لوحة رشاد تنتظم الأشكال وتتداخل المكونات الهندسية التي يحرص على مظهرتها وفق رؤيته ولغته التي اعتمد عليها في كل لوحاته تعبيراً تجريدياً عن قضايا واقعية توجه إليها بالنقد في ايقاع شكلي هندسي يعكس نضج تشكيلي مبكر؛ فالأشكال الهندسية لغة تُتيح للفنان متى ما استوعب خصوصيتها التعبير عما يُريد؛ فهذه الأشكال موجودة في كل شيء حولنا، كما يقول.
الانعطافة المؤلمة
في هذا السياق أنجز رشاد عديد من الأعمال، وغالبها – كما سبقت الإشارة – بالحبر الشيني الأسود باعتباره الأسلوب المتاح له لأصابته بعمى الألوان، وبقي من خلال تجربته يحرص على البقاء بجانب لوحته، على الرغم من معاناته من العوز خلال فترة حضوره في المحترف، ووصلت به الحال أنه كان يستعين بعائد عمله مع مجلة الثقافة الصادرة عن وزارة الثقافة في تحسين ظروف معيشته – حسب الحيقي- وهو وضع استمر إلى بداية الالفية الجديدة. فماذا حصل بعد ذلك؟
يوضح الحيقي، «حصل أن أهملته مجلة الثقافة بعد ذلك؛ ففقد – حينئذ-مصدراً من مصادر تحسين دخله…وكان طموحه حينها هو أن يوفر لقمة العيش فقط.»
ويتذكر الحيقي موقفاً « كان تقريباً في بداية الألفية، وجدتُه في الوزارة (يقصد وزارة الثقافة) ينتظر أمين الصندوق ليأخذ منه قيمة الغداء. كان يكلمني، وكأنه يكلم نفسه، وهو يتمني أن يكون أمامه صحن من الرز»، « تصوّر فنان بحجم رشاد اسماعيل يتمني أن يكون لديه صحن من الرز. يا لهذا العالم الحقير! لا أحد يهتم بأحد، لا أحد يسأل عنه، ولا عن احتياجه. حاولت أن أعطيه مالاً فرفض رفضاً قاطعاً…فأي فن سيبقى بعد هذه الحاجة، حاجة الجوع؟! حاجة لا يعرف مرارتها إلا مَن عاشها!».
تباً لهذا الوضع العربي الذي يهدر به حكام الخليج مئات المليارات لدعم الاقتصاد الأمريكي ومصانع أسلحته بدل إستثمارها في الوطن العربي في الزراعة والصناعة واستخراج الثروات الطبيعية والتعليم والصحة ومحاربة الفقر. تباً لكم، ألا تخافون الله واليوم الذي تصبحون فيه تحت التراب تنتظرون يوم الحساب؟
كنتُ أتمنى أن ينشر في هذا المقال لوحة (بانوراما) مثلا، بحكم إنها تمثل خصوصية الفنان وأسلوبه، لكنه للأسف أختار ثلاثة رسوم توضيحية من ديوان (فيض) وهي لا تمثل لوحات هذا الفنان مطلقا. فهي ليست أكثر من رسوم توضيحية لكتاب.
أما لوحاته التشكيلية فهي جهد مختلف ومركب تركيبا دقيقا وعجيبا.
وقد كتبت عن ذلك في الدراسة الوحيدة التي كُتبت عنه منذ بدأ الرسم ونشرتها في مجلة (اليمن الجديد) 1989.
لهذا أشكر (القدس العربي) على هذه الالتفاتة الإنسانية لهذا الفنان.
في بلاد العرب يموت الفن وتندثر الثقافة. في يمن الحضارة وجدات ناطحات السحاب يموت فنان متميز جوعا وهناك من يصرف مليارات الدولارات للقتل والسفك والدمار.. ياللعار
العتب كل العتب على رئيس فرع اتحاد الأدباء- صنعاء، ومحرر الملحق الثقافي في صحيفة الثورة، الذي لم ينشر عن هذا الفنان أي شيء منذ ثلاثين سنة. رغم ازدهاره وحضوره القوي ما بين 1985 و 1999. ولم يعرّف به في سنوات الإحباط والانكسار التي لازمته منذ سنة 2000 إلى 2020. رغم إنه يشاهده دتئما في وزارة الثقافة أو في نفس المقهى الذي أشار إليه الكاتب.