على نحو شبه فطري، يطلق عامة المصريين لفظة (أمريكاني) على كل شيء زائف ومزور مبهرج، لهذا لم يصدق المصريون، ولا أي شعب آخر سليم الفطرة، ما روجه ويروجه الساسة الأمريكيون عقب محاولة اغتيال دونالد ترامب، وزعمهم الجزافي أن العنف السياسي دخيل على ما سموه بالقيم الأمريكية، فالتاريخ السياسي لأمريكا منذ استقلالها عام 1776، عظيم الدموية، واغتيالات الرؤساء الأمريكيين توالت، من أبراهام لينكولن إلى جيمس غارفيلد إلى ويليام ماكينلي، وصولا إلى جون كيندي، ومحاولات الاغتيال تتابعت من الرئيس آندرو جاكسون إلى فرانكلين روزفلت إلى هاري ترومان إلى جيرالد فورد ورونالد ريغان وصولا إلى ترامب، ناهيك عن اغتيالات بالعشرات لقادة سياسيين ودينيين بارزين، إضافة لمئات الآلاف سنويا من ضحايا القتل العشوائي الجماعي، وأمريكا تعتبر حق وحرية حمل السلاح الناري من مفاخرها الدستورية، وفي يد الأفراد الأمريكيين المدنيين اليوم، ما يزيد على 400 مليون قطعة سلاح، أي بزيادة 50 مليونا عن إجمالى عدد السكان.
وأبعد من ذلك، وربما أعمق، تبدو جرائم السلاح أظهر العناصر المؤسسة لوجود هذه «الأمريكا»، وتلك ظاهرة أقدم من إعلان استقلال أمريكا البيضاء، وظهور المؤسس جورج واشنطن، فقد كان الغزو والاقتحام الأوروبى للأمريكتين الشمالية والجنوبية أكثر مذابح التاريخ هولا ووحشية، وحين وصل كريستوفر كولمبوس عام 1492 إلى شواطئ الأمريكتين، كان يظن نفسه تاه وهبط على سواحل الهند، وحين صادف السكان الأصليين للأراضي الجديدة، ظنهم من الهنود، وإن كانت وجوههم تميل للحمرة، قياسا لوجوه الهنود الداكنة اللون، فأطلق عليهم ومن تبعه صفة الهنود الحمر، وليس في ما كتب عنهم تقديرات دقيقة لعدد السكان الأصليين، وإن وصلت بعض التقديرات إلى مئات الملايين، أو مئة مليون على الأقل، قيل إنهم وصلوا للأمريكتين قبل آلاف السنين عبر مضيق بيرينج أعلى شمال المحيط الهادئ، وعبر نحو 150 سنة على وصول الغزاة الإسبان والبريطانيين والبرتغاليين والفرنسيين وغيرهم، كان ما يعرف بالهنود الحمر، قد أبيدوا جميعا تقريبا، وكانت حروب الإبادة في أمريكا الشمالية أشمل وأسرع، إما بالقتل المباشر بقطع الرؤوس وسلخ الجلود بعد حرق الأجساد، أو بحروب الخداع ونشر الأوبئة الفتاكة كالجدري والحصبة وغيرها، وكانت المكافآت ترصد للمتسابقين على قتل الهنود الحمر، وتدفع مئة جنيه إسترليني لكل من يأتي برأس هندي، وهو ما استمرت وتيرته الإجرامية إلى ما بعد إعلان استقلال أمريكا ودستورها، وإصدار قوانين إبعاد الهنود إلى ما بعد غرب نهر المسيسبي، حتى صار عدد الهنود الحمر اليوم في أمريكا، لا يجاوز واحدا في المئة من إجمالي السكان، وفي حرب الإبادة المرعبة، جرى استخدام الأساطير التوراتية المكذوبة ذاتها، التي استخدمت وتستخدم إلى الآن في احتلال فلسطين وطرد وإبادة شعبها، كان (البيوريتانيون التطهريون) من البروتستانت، يعتبرون قتل السكان الأصليين قربانا لانتظار العودة الثانية للسيد المسيح، ويصورون حربهم الهمجية، كأنها حرب العبرانيين القدامى ضد الكنعانيين العرب في فلسطين، ويفتعلون طابعا مقدسا للقتل بالجملة، تطور في ما بعد إلى صورة الكاوبوي الأمريكي ـ راعي البقر ـ في أفلام الويسترن الهوليوودية القديمة، البطل المقتحم المتمنطق بمسدساته، ويطلق مئة رصاصة في الدقيقة، ومع الدور الكوني المتسع لأمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، حلّت صورة رامبو وأبطال حروب النجوم، وتقدمت واشنطن لإنقاذ وتخليص العالم من سكانه المسالمين المساكين بعد شفط ثروات أوطانهم، وإضافة للملايين الذين قتلتهم أمريكا في الحروب وصولا إلى القصف النووي لهيروشيما ونجازاكى، شنت واشنطن حروبا وتدخلات عنيفة فائقة الهمجية، وقتلت بأسلحتها الأحدث نحو عشرة ملايين إنسان، من فيتنام إلى العراق وأفغانستان، إضافة لمشاركتها الفعلية المتبجحة في إبادة الفلسطينيين بحرب غزة الجارية منذ نحو عشرة شهور، وما جو بايدن وترامب وغيرهما، إلا نماذج محدثة من الكاوبوي ورامبو الأمريكي، وما إسرائيل في أصل تكوينها، إلا مثال مستنسخ من سيرة أمريكا، وربما لم يكن من فراغ، أن بنيامين نتنياهو رئيس حكومة العدو الحالية، أعلن فور فشل محاولة اغتيال ترامب، أنه يخشى من محاولة اغتياله في إسرائيل، وادعى أن موجات التحريض الداخلي ضده وضد عائلته بلغت حدودا خطيرة، وربما لم تبق إلا رصاصة طائشة تنطلق إلى رأسه من حيث لا يدري.
شنت واشنطن حروبا وقتلت بأسلحتها الأحدث نحو عشرة ملايين إنسان، من فيتنام إلى العراق وأفغانستان، إضافة لمشاركتها الفعلية في إبادة الفلسطينيين بحرب غزة الجارية منذ نحو عشرة شهور
وربما هي محاولة من نتنياهو لإبراز التماهي الأمريكي الإسرائيلي، وهو يستعد للذهاب إلى الكونغرس الأمريكي، وإلى لقاء مباشر مع بايدن، سارع الأخير إلى الإعلان عنه، فيما لا يستبعد أن يلتقي نتنياهو مع ترامب شخصيا وسط احتدام حملات انتخابات الرئاسة الأمريكية، فهو ينتظر قدوم صديقه الأخلص ترامب إلى البيت الأبيض مجددا، بعد أن بلغ ابتزازه للرئيس الأمريكي الحالي إلى حدوده القصوى، وخضع بايدن الذي يقبض نتنياهو على رقبته، ويتقدم لدور اللاعب الرئيسي في صناعة مصائر البيت الأبيض والكونغرس بمجلسيه، والإمساك بمفاتيح الإيباك اللوبي الصهيوني الأشهر، المتحكم في تمويل حملات الانتخابات، ويقدر إجمالي التمويل المطلوب هذه المرة بما يتجاوز 20 مليار دولار، ففيما يفشل نتنياهو وجيشه في الحرب ضد المقاومة الفلسطينية، وتهدده أشباح هزيمة أفدح، إن غامر بشن الحرب ضد حزب الله، ويخفق في اصطياد صورة نصر موهوم بفشل محاولة اغتيال محمد الضيف قيادي كتائب القسام، ويذهب إلى واشنطن مجللا بجرائم العار ومجازر الإبادة الجماعية، ويطمع في التعويض عن الإخفاق الحربي، وتقديم نفسه في صورة الكاوبوي الخطابي في واشنطن، وكله ثقة في أنه سيحظى بالتصفيق الأمريكي الرسمي الجامع إلى حد كبير، وأنه سيكسب الجمهوريين والديمقراطيين معا، خصوصا بعد فزع الديمقراطيين من شحوب وتداعي صورة بايدن، وسعي مشرعي الكونغرس الديمقراطيين إلى التخفف من أوزار بايدن، الذي ارتكب خطأ في حق الكاوبوي نتنياهو، وزاد من نبرة الخلافات العائلية بين واشنطن وتل أبيب، وأمل في تحدي صلف نتنياهو، وحرق خطوطه الخلفية في الداخل الإسرائيلي، ثم جاءت الفرصة سانحة طائعة لرغبات نتنياهو، وزاد وضع بايدن تدهورا في الداخل الأمريكي، وبدت صورة الرئيس الأمريكي الحالي أكثر قتامة، وجاءت الرصاصة التي جاوزت حافة الأذن اليمنى لمنافسه اللدود ترامب، جاءت الرصاصة لتنهي ربما حلم بايدن بتجديد انتخابه للرئاسة، فقد نجا ترامب من نار اختراق الرصاصة بهزة رأس قدرية، بينما اندفعت الرصاصة ذاتها رمزيا إلى رأس بايدن مباشرة، وجعلته يفيق أكثر إلى وضعه الكارثي أمام خصمه ترامب، وهو الرجل الذي لا يصدق في كلمة واحدة يقولها، لكنه تفوق على بايدن في مناظرة 27 يونيو الماضي، وكشف هزال عقل وذاكرة بايدن، ووضع الرأي العام الأمريكي أمام اختبار عجيب، بين رجل يكذب طوال الوقت، وآخر لا يتذكر أغلب الوقت، وجاءت استطلاعات الرأي العام منحازة إلى الرجل الكذاب، فقد سحق بايدن العجوز المتهالك بدنيا، وظهر في صورة الكاوبوي القاتل المفضلة عند قطاعات واسعة من الأمريكيين، وبالذات عند حملة شعور تفوق الجنس الأبيض، وهم في فزع من تداعي الغلبة السكانية لجماعات الواسب، أي البيض الأنكلوساكسون البروتستانت، وهم حملة رسالات العنف المروع المؤسس لأمريكا، ورواد إبادة الهنود الحمر، واستعباد وقتل عشرات ملايين الزنوج المجلوبين قسرا من شواطئ افريقيا على المحيط الأطلنطي، وكان قد حذر المؤرخ الأمريكي الراحل آرثر شليزنجر من تداعي دور جماعات الواسب، واستحالة الحديث عن أمة أمريكية متجانسة في أفران الصهر، وتنبأ بما سماه تفكيك أمريكا وحربها الأهلية المحتملة، ومن ضياع أسطورة الحلم الأمريكي، فلم يعد بوسع أمريكا ـ كشركة اقتصادية لا أمة ـ أن تلبي التوقعات، والجماعات الأفقر والأقل تعليما من الواسب، باتت تشعر بأن خير أمريكا يذهب لغيرهم، وتعلق الجرس في رقبة المهاجرين الأغيار، ومن هنا تنجذب هذه الشرائح إلى أفكار ترامب الرافضة لقدوم المهاجرين اللاتينيين وغيرهم، وتعتبرهم سببا لدمار أمريكا، وتعد بعودة أمريكا عظيمة مرة أخرى، بالتخلص من أمم الأغيار في أمريكا، وبرغبات الانعزال عن حروب العالم المكلفة، وحصر الاهتمام في مواجهة الصعود الصيني ونصرة إسرائيل، وما بين أمريكا وإسرائيل اندماج استراتيجي متطابق، وهو ما قد يجده نتنياهو مناسبا أكثر لكيان الاحتلال، وإن كانت المفاجآت واردة، فقد يذهب ترامب وقد صار البيت الأبيض أدنى إليه بعد فشل رصاصة الاغتيال، قد يذهب الرئيس المقاول بطبعه إلى إنهاء حرب غزة، ويفضل كسب أموال الخليج، ومد شبكة اتفاقات أبراهام إلى المملكة الخليجية الأغنى، وقد تشي السوابق باللواحق.
كاتب مصري