ما وصفه جهاز الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي مؤخراً كترسيخ لمعادلة ردع جديدة، تم التعبير عنه بأحداث صباح الثلاثاء على الحدود مع سوريا. اتخذت إيران قرار الرد بسرعة على أي هجوم تنسبه إلى إسرائيل ضدها أو ضد التنظيمات المرتبطة بها في الشرق الأوسط. في الخامسة فجراً أطلق أعضاء مليشيات شيعية أربعة صواريخ من سوريا نحو إسرائيل، شمال هضبة الجولان، واعترضت بطارية قبة حديدية تلك الصواريخ الأربعة بنجاح، وهذا الإطلاق لم يتسبب بأي ضرر أو إصابات.
الهجوم الذي تعتقد إسرائيل بأنه جاء بتوجيه من إيران لا يختلف كثيراً عن محاولات سابقة لمليشيات شيعية بإطلاق الصواريخ من جنوب سوريا نحو الجولان. وقد سُجلت أحداث مشابهة في أيار 2018 وكانون الثاني الماضي، ومرة أخرى في أيلول الماضي. في كل هذه الأحداث لم تدخل الصواريخ إلى أراضي إسرائيل، وكانت القبة الحديدية قد اعترضت معظمها. إطلاق الصواريخ الأخير في أيلول أعلن عنه بأنه جاء كرد إيراني على الهجوم الجوي الذي نسب إلى إسرائيل ضد أعضاء مليشيا شيعية في العراق، قرب معبر بو كمال على الحدود مع سوريا. حدث الهجوم في نهاية آب مساء يوم حدثت فيه هجمات جوية أيضاً في سوريا قرب حدود إسرائيل، وفي الضاحية بلبنان، التي هي الحي الشيعي في بيروت.
وفي السنوات الأخيرة نسبت إلى إسرائيل هجمات كثيرة، واعتاد الإيرانيون على الرد في حالات معدودة فقط. ولكن يدور الحديث هذه المرة عن سياسة كاسحة لإيران، فعلى كل عملية سيكون هناك رد. ما تفسير إطلاق الصواريخ فجراً؟ حتى الآن لم يتم توضيح هذه الأمور تماماً؛ فهما (إسرائيل وإيران) تصمتان. أمس نشرت شركة المخابرات الإسرائيلية الخاصة “إن جيست” صوراً جوية توثق -حسب قولها- بناء متسارعاً لقاعدة إيرانية قرب معبر بو كمال. وهناك أيضاً تقارير في وسائل الإعلام العربية، لا يعرف مدى موثوقيتها، عن حادثة أصيبت فيها قافلة لمليشيات شيعية في الصحراء في شرق سوريا وغرب دير الزور، بداية الأسبوع.
هذه الأمور تحدث على خلفية استعداد عال للجيش الإسرائيلي الذي يحرك بطاريات القبة الحديدية بصورة دائمة بين جنوب البلاد وشمالها: توتر مستمر في قطاع غزة بعد جولة القتال مع الجهاد الإسلامي هناك في الأسبوع الماضي، ونشاط كثيف لسلاح الجو ومناورة مفاجئة أعلن عنها أمس في قيادة الجبهة الشمالية، ويتزامن ذلك مع ذروة أزمة سياسية في إسرائيل قبل انتهاء موعد تكليف “أزرق أبيض” بني غانتس لتشكيل الحكومة. هذه فترة تداخلت فيها أخطار واعتبارات أمنية وسياسية هي أعلى مما في أيام عادية.
جذور الاحتجاج
إن التطور الإقليمي الذي يبدو أكثر أهمية في هذه الأثناء، وهو منافسة صعبة جداً، لا يحدث في إسرائيل أو في سوريا، بل في إيران. ورغم الخطوات الوقائية المتشددة التي اتبعها النظام، وعلى رأسها فصل مطلق عن شبكة الإنترنت، تولد الانطباع بأن الاحتجاج ضد السلطات بسبب رفع أسعار الوقود يواصل انتشاره وتوسعه في الدولة في هذه الأثناء.
تقارير لنشطاء في المعارضة ومراسلين، تصل بصورة غير مباشرة إلى وسائل الإعلام الأجنبية، تدل على موجة كبيرة من المظاهرات العنيفة، ومحاولات منظمة لقمعها بالعنف، موت عشرات المتظاهرين وعدد من رجال الأمن في الأحداث وتدمير منهجي للممتلكات بحجم كبير. وإن عدد المصابين الحقيقي والحجم الدقيق للمظاهرات غير معروف بشكل حقيقي.
“خلال 25 سنة قمت فيها بتغطية إيران”، قالت فارنز فسيهي في صفحتها عبر موقع “تويتر”، وهي الصحافية الإيرانية الأمريكية التي تكتب في “نيويورك تايمز”، وتابعت: “لم أشاهد خلال حياتي مظاهرات بهذا القدر من الجرأة والغضب والاتساع. لذلك، تم تعتيم الإنترنت بشكل كامل، النظام خائف”. عقبت مظاهرات إيران حيث أزمة متواصلة في العراق ولبنان، وهما الدولتان اللتان تحت نفوذ إيراني قوي.
الصفحات الأولى في الصحف العربية تغطي مؤخراً استمرار المظاهرات والأحداث والكوارث التي فيها عدد كبير من المصابين: من إيران، مروراً بالعراق ولبنان، وانتهاء بليبيا والسودان. تبدو الأمور بدرجة ما مثل نسخة جديدة من الربيع العربي، الذي دفن تحت الحروب الأهلية الدموية التي اندلعت في عقابه. ولكن إيران هذه المرة هي العنوان الرئيسي للاحتجاج في عدد من الدول، ذلك أن تأثير طهران وقوتها زادت مؤخراً، لا سيما بعد انتصار نظام الأسد في الحرب في سوريا.
التطورات الأخيرة في إيران يمكن أن تشجع إسرائيل بعد بضعة أشهر على البشائر السيئة عندما بث الإيرانيون ثقة بالنفس وزادوا قوة الاستفزاز تجاه دول الخليج والولايات المتحدة. ولكن إسرائيل الرسمية تحافظ في هذه الأثناء على ضبط نفس نسبي في ردودها العلنية، ولكن بصورة مفاجئة أكثر تلك المقاربة من إدارة ترامب الذي لا يأبه بما يحدث في إيران.
نعم، هذا مفاجئ؛ لأن الرئيس الأمريكي تلقى انتقاداً قاتلاً ومبرراً جداً على قلة فعله إزاء النشاط العسكري الإيراني. الآن حيث يتبين أن سياسة العقوبات التي اتبعها تثير أخيراً رداً حقيقياً داخل إيران، فإن ترامب غارق في خلافات سياسية داخلية. جهاز الأمن في إسرائيل يرفض بشدة التنبؤ بما هو متوقع في إيران وينتظر معلومات إضافية. في حين كتب د. راز سنت، الباحث المعروف في الشؤون الإيرانية في معهد بحوث الأمن القومي، أمس، في موقع المعهد، بأنه لا يوجد حتى الآن أي دلائل تشير إلى أن النظام في إيران يتعرض لخطر الانهيار أو أنه يفحص اتباع مرونة والخضوع لطلبات الغرب بخصوص الاتفاق النووي تحت ضغط مزدوج جراء الاحتجاج والعقوبات.
مع ذلك، حذر سنت جدا في تنبؤاته، فالنظام في طهران كان حقاً فعالاً جداً في قمع المظاهرات ضده في السابق، ولكن أحد دروس الربيع العربي يتعلق بالصعوبة الكبيرة بالتنبؤ بسلوك الجمهور أثناء مواجهات عنيفة ودراماتيكية والتنبؤ بتطور الاحتجاج الشعبي. إسرائيل، بالمناسبة، لم يكن عليها انتظار الربيع العربي من أجل التوصل إلى هذا الاستنتاج. فقد تعلمته جيداً وعن قرب في الانتفاضة الأولى وبدرجة أقل في بداية الانتفاضة الثانية.
بقلم: عاموس هرئيل
هآرتس 20/11/2019