إسطنبول ـ «القدس العربي»: عقب أشهر طويلة من المناكفات والمباحثات والتهديدات، فرضت الإدارة الأمريكية حزمة عقوبات على تركيا رداً على شرائها منظومة S400 في خطوة يجمع مراقبون على أنها ستسرع من خطوات أنقرة لتفعيل المنظومة وإدخالها الخدمة فعلياً في أقرب وقت ممكن، ما يعني فرض معادلة استراتيجية جديدة على الصعيدين الإقليمي والدولي.
فلماذا رفضت أمريكا بيع تركيا منظومة باتريوت واعترضت لاحقاً على شرائها منظومة روسية؟ ولماذا تعاقب أمريكا تركيا على شرائها المنظومة الروسية التي تمتلكها ثلاث دول أخرى في الناتو؟ وما تأثير العقوبات الأمريكية على الصناعات الدفاعية التركية ومستقبل “العلاقات الاستراتيجية” بين البلدين وفي إطار الناتو؟ وما هي الدلائل والانعكاسات الاستراتيجية لتفعيل تركيا المنظومة الروسية؟
الحاجة إلى منظومة دفاعية
منذ عقود تعاني تركيا التي تمتلك ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي “الناتو” من معضلة عدم امتلاكها منظومة دفاعية متقدمة ما أثر على تصنيف جيشها وقدراتها على المناورة في الكثير الملفات الاستراتيجية في المنطقة، ورغم محاولاتها الحثيثة على مدار العقود الماضية، فشلت أنقرة في تأمين احتياجاتها الدفاعية سواء بقدراتها الوطنية أو من خلال حلفائها.
هذه الحاجة تعاظمت بشكل كبير جداً مع اندلاع الحرب في سوريا وتصاعد التوتر في العراق والخشية من حصول نزاعات وحروب إقليمية لا سيما في ظل تصاعد التوتر بين إيران وأمريكا والخليج وتعاظم الضربات الإسرائيلية على سوريا وهي كلها تهديدات كبرى أحاطت الحدود التركية مع سوريا والعراق وإيران وصولاً لتعاظم الخلاف مع اليونان وصراع القوى الإقليمية في ليبيا وشرق المتوسط مؤخراً، الأمر الذي جعل حاجة لتركيا لمنظومة دفاعية أمراً ملحاً للغاية.
وبينما كانت تركيا تواجه تعاظم التهديدات على حدودها، استمر حلفاؤها الغربيون في رفضهم بيعها منظومة دفاعية متقدمة، ورفضت إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما مطالب تركيا ببيعها منظومة باتريوت وهو الطلب الذي رفضه الكونغرس أيضاً لاحقاً، وإلى جانب ذلك قامت دول أوروبية بسحب منظوماتها الدفاعية التي كانت تحمي الحدود التركية مع سوريا بينما كانت أنقرة في أمس الحاجة لها ما عزز الإحباط التركي من تحالفها الغربي ودفعها للبحث عن كافة الوسائل والطرق والخيارات لتأمين منظومة دفاعية من خارج إطار “الناتو”.
البحث عن البدائل
بحثت تركيا في كافة الخيارات الممكنة وعقب محاولات حثيثة بدأت مباحثات لشراء منظومة دفاعية صينية وبعد أن وصلت المفاوضات إلى مراحل متقدمة تراجعت أنقرة عن الصفقة لأسباب غير واضحة، ولكن يعتقد أن ذلك تم عقب ضغط أمريكي وغربي لمنع أنقرة من الحصول على أسلحة من دول خارج الحلف، وعلى الرغم من ذلك لم يبادر الحلف للتجاوب مع أي من المطالب التركية للحصول على منظومة دفاعية واستمر بتسكين المطالب التركية بإعارتها عددا من منظومات باتريوت.
لكن ومع تصاعد التهديدات والتحديات الاستراتيجية في المنطقة، حسمت أنقرة قرارها بشراء منظومة دفاعية من روسيا التي وافقت على بيعها ووقع الاختيار على منظومة S400 الأحدث في جعبة الصناعات الدفاعية الروسية، حيث تلقفت موسكو الطلب التركي وذلك بهدف إحداث اختراق داخل صفوف الناتو الأمر الذي لم يكن يهم أنقرة كثيراً في ذلك الوقت.
رفضت إدارة أوباما مطالب تركيا بيعها منظومة باتريوت
ومع نهايات عام 2017 توصلت تركيا وروسيا إلى اتفاق رسمي من أجل شراء أنقرة منظومة S400 الدفاعية، ووسط تقارب كبير في العلاقات بين الرئيسين رجب طيب اردوغان وفلاديمير بوتين ضغطت تركيا من أجل تسريع عملية تسليم المنظومة التي بدأ تسليمها عام 2019 وتواصل حتى جرى إتمام عملية التسليم بشكل كامل وجرى تدريب الطواقم العسكرية التركية على استخدمها.
وقبل أسابيع بدأت تركيا بإجراء الاختبارات النهائية على المنظومة في خطوة أخيرة قبيل أن تصبح جاهزة بشكل نهائي لدخول الخدمة وهو القرار الذي تأخر ليس بفعل الترتيبات التقنية وإنما في محاولة للوصول إلى حل ما مع الإدارة الأمريكية التي رفضت العروض التركية وصولاً لفرض العقوبات الأمر الذي يدفع إلى الاعتقاد إلى أن تركيا سوف تفعل خلال الأيام أو الأسابيع المقبلة المنظومة الروسية بشكل نهائي.
فشل الحلول وصولاً للعقوبات
على الرغم من شرائها المنظومة الروسية، أبقت أنقرة الباب مفتوحاً أمام الحوار مع واشنطن في محاولة للتوصل إلى حل ما إلى الأزمة وركزت جهودها على دعوة واشنطن لقبول تشكيل لجنة فنية عسكرية متخصصة للتأكد من أن منظومة S400 لن تؤثر على امتلاك تركيا طائرات F35 وأن تفعيل أنقرة للمنظومة الدفاعية الروسية لن يشكل تهديداً على أنظمة الرادار والمعلومات التابعة لحلف الناتو، لكن الإدارة الأمريكية رفضت العرض التركي.
وكانت أنقرة ترغب بدرجة أساسية في التوصل إلى صيغة تمكنها من العودة إلى برنامج طائرات F35 الذي أخرجت منه رغم أنها جزء أساسي من برنامج الصناعة والتطوير كعقوبة أولية إلى جانب الحصول على ضمانات لشراء منظومة باتريوت الدفاعية الأمريكية بشروط جيدة، إلا أن كافة هذه المساعي فشلت في ظل تراجع الثقة بين الجانبين وخشية أنقرة من تعرضها لـ”الخداع” مجدداً حيث اتهمت واشنطن مراراً بأنها لم توفي بوعودها المتكررة لتركيا في هذا الإطار.
ورغم أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أبدى تفهمه مراراً بأن “أخطاء إدارة أوباما هي التي دفعت تركيا لشراء المنظومة الروسية” وأجل فرض العقوبات مراراً على تركيا، إلا أنه اضطر في الأسابيع الأخيرة من وجوده في البيت الأبيض إلى التوقيع على العقوبات التي وصفت بانها “الأخف” من بين العقوبات المطروحة أمام الرئيس الذي لم يكن يتبنى بشكل حقيقي التوجه بفرض عقوبات على تركيا.
أنقرة سوف تفعل قريبا المنظومة الروسية بشكل نهائي
والاثنين، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية فرض عقوبات على رئاسة الصناعات الدفاعية التركية ورئيسها إسماعيل ديمير، وتشمل العقوبات منع جميع تراخيص التصدير إلى “مؤسسة الصناعات الدفاعية” ورفض منح أي تأشيرات لرئيسها ويعني ذلك أن الولايات المتحدة سوف تتوقف بشكل نهائي عن استيراد القطع التي تنتجها الشركات التركية والتي تدخل في تصنيع طائرات F35 ما سيلحق خسائر مادية كبيرة بالجانبين.
وإلى جانب ديمير، طالت العقوبات ثلاثة من كبار قادة رئاسة الصناعات الدفاعية وهم مصطفى ألبر دنيز، وسرحات غانش أوغلو، وفاروق ييغيت، وبموجب العقبات سيمنع بيع أي تقنيات أمريكية مباشرة أو مساعدة لمؤسسة الصناعات الدفاعية التركية ويحظر منحها أي قروض من البنوك الأمريكية أو الدولية، في أكبر تضييق تتعرض له المؤسسات التي تدير كبرى شركات الصناعات الدفاعية في تركيا.
التشكيك بهدف العقوبات
على الرغم من أن العقوبات الأمريكية كانت متوقعة وشبه حتمية على تركيا بفعل شراء المنظومة الدفاعية الروسية، إلا أن استهدافها لرئاسة الصناعات الدفاعية بشكل مباشر فتح الباب واسعاً أمام التساؤلات حول الهدف الحقيقي من هذه العقوبات، وما إن كان معاقبة تركيا على شراء المنظومة الروسية، أو “الانتقام” من المؤسسة الدفاعية التي نجحت في تطوير الصناعات العسكرية التركية بشكل كبير جداً في السنوات الأخيرة وجعلت تركيا مصدراً للتقنيات العسكرية وهو ما حولها من مجرد مستورد إلى مصدر ومنافس للصادرات العسكرية الأمريكية ولو جزئياً في بعض المجالات.
العقوبات الأمريكية طالت ثلاثة من كبار قادة رئاسة الصناعات الدفاعية
وتقول مصادر تركية إن شراء منظومة S400 الدفاعية الروسية قرار عسكري وسياسي يجري ما بين وزارة الدفاع ورأس الهرم السياسي في البلاد وأن مؤسسة الصناعات الدفاعية التركية لم تكن طرفا مباشرا في اتخاذ قرار شراء المنظومة أو تفعيلها أو تطويرها، وإن استهدافها بشكل مباشر ومركز جداً بالعقوبات يكشف عن نية أمريكية لاستهداف قطاع الصناعات الدفاعية في تركيا ولما منحه لتركيا من نفوذ إقليمي ودولي متصاعد عقب ما أحدثته الصناعات الدفاعية التركية من تغيير في مسار الكثير من المعارك في سوريا والعراق وليبيا وأخيراً في قره باغ في أذربيجان.
وتبدي أنقرة استغرابها من إصرار واشنطن على فرض عقوبات عليها على الرغم من صمتها على امتلاك عدد من دول الناتو منظومات دفاعية روسية مشابهة، حيث كشفت وسائل إعلام تركية مؤخراً عن أن القوات المسلحة اليونانية أجرت في الأيام الأخيرة اختبارات على منظومة S300 الروسية في جزيرة كريت الواقعية في قلب الصراع شرقي البحر المتوسط قرب السواحل التركية. وأوضح الخبر أن هذه الاختبارات جرت بحضور عسكريين من الجيش الألماني والهولندي والأمريكي، وهي جميعها دول أعضاء في حلف ناتو وتعارض اقتناء تركيا للمنظومة الروسية.
وتقول مصادر يونانية إن أثينا بدأت بنصب المنظومة الروسية في جزيرة كريت منذ عام 1999 بموافقة الولايات المتحدة. وحصلت اليونان على المنظومة الروسية من قبرص التي اشترتها ولم تتمكن من تفعيلها نتيجة التهديدات التركية حيث اضطرت الأخيرة عام 1997 إلى التنازل عن المنظومة لصالح اليونان مقابل حصولها على أسلحة وتجهيزات عسكرية أخرى، ولم تفعل اليونان هذه المنظومة لتفادي الدخول في صدام مع الناتو لكنها بدأت بإجراء تجارب عليها عام 2013.
كما تمتلك بلغاريا وحدتين من S300 تضم كل منهما 5 قاذفات. أما سلوفاكيا فورثت من تشيكوسلوفاكيا السابقة بطارية صواريخ S300 و48 صاروخا، وطلبت من موسكو تطوير منظومتها، عام 2015. وكل من اليونان وبلغاريا وسلوفاكيا، وكذلك تركيا والولايات المتحدة، أعضاء في “الناتو”، الذي تأسس عام 1949.
تحول استراتيجي
مع فشل جهود احتواء الأزمة بين أنقرة وواشنطن، وطرد تركيا من برنامج صناعة طائرات F35 قبل فرض العقوبات على رئاسة الصناعات الدفاعية التركية، فإن أنقرة تكون قد استنفدت محاولاتها ولم يعد لها خيار سواء التأقلم مع العقوبات الأمريكية وتفعيل المنظومة الروسية عبر إدخالها الخدمة بشكل رسمي، حيث أكدت تصريحات الرئيس وكبار الوزراء على أن بلادهم لن تتراجع على الإطلاق تحت وطأة العقوبات.
وفي هذا الإطار، يعتقد أن المنظومة الروسية المكونة من وحدتين رئيسيتين سيتم نشر إحداها في العاصمة أنقرة وأخرى في منطقة تتوسط الحدود الجنوبية لتركيا التي تغطي الحدود مع سوريا وسواحل تركيا المقابلة لجزيرة قبرص شرقي البحر المتوسط، في خطوة قد تدفع نحو تغيير موازين القوى في المنطقة التي تشهد نزاعاً متصاعداً حول الحدود البحرية والتنقيب عن الموارد الطبيعية هناك.
العقوبات لن تدفع تركيا نحو التصعيد
وبعيداً عن الآثار المحدودة للعقوبات، فإن تفعيل المنظومة الروسية المتقدمة لمواجهة المخاطر الاستراتيجية وتشكيل درع دفاعي للعاصمة وتعزيز موقف تركيا العسكري في الصراع في سوريا وشرق المتوسط، إلى جانب الإعلان عن تفعيل منظومة حصار الوطنية للدفاع الجوي المنخفض لمواجهة التهديدات الأقل على الحدود مع سوريا وغيرها من المناطق، من شأنه أن يؤسس لإنهاء معضلة الدفاع الجوي التي عانت تركيا منها على مدار العقود الماضية، ويعطيها دفعة أكبر ومساحة أوسع للمناورة في مزيد من الملفات الإقليمية والدولية.
إلى جانب ذلك، فإن العقوبات لا تبدو مؤثرة كثيراً على تركيا ولن تدفعها نحو التصعيد أكبر مع الإدارة الأمريكية الحالية، وعلى عكس التوقعات تشير بعض التقديرات في أنقرة إلى أن فرض عقوبات محدودة في نهاية حقبة ترامب يمنع صداما مباشرا مع الرئيس الجديد جو بايدن في بداية فترته الرئاسية ما يمكن أن يسهل مساعي بناء حوار جيد مع الإدارة الأمريكية الجديدة ومواصلة التعاون في الملفات الثنائية وفي إطار الناتو وتجاوز أزمة S400 تدريجياً لحين انقضاء فترة العقوبات المقررة لمدة عام من دون تمديد، وبالتالي تكون تركيا قد تجاوزت الأزمة بأقل الخسائر وامتلكت منظومة دفاعية استراتيجية متقدمة.