تسبب مهرجان جرش الأخير في كثير من اللغط المستحق. ومع وقائع المهرجان وكل اللغط الدائر حوله برز السؤال: هل يحتم الواجب الأخلاقي والحقوقي والتعاضد الإنساني أن تلغى الفعاليات الفنية ذات طابع الفرح والرفاهية والبذخ احتراماً لشهداء فلسطين الذين تجاوزت أعدادهم حتى الأرقام المرعبة المعلن عنها، وفي ظل استمرار مذبحة الإبادة البشعة القائمة في غزة التي تقدم كل يوم المزيد من أشلاء الأطفال والمدنيين والصحافيين، أم أن إقامة هذه الاحتفالات والمهرجانات هي صورة من صور التحدي للوضع الراهن وهي تقدم فرصة إعلانية قوية للإفصاح عن المساندة المتسعة لفلسطين على ألسنة مشاهير مهمين ما كانوا ليتحدثوا دون توافر مثل هذه الخشبات الاستعراضية والفرص الفنية؟
لو كانت أي مصيبة قائمة أخرى، لو كانت أي كارثة واقعة مختلفة، لو كان أي حدث مأساوي آخر، لربما كانت الإجابة المستحقة هي نعم، إقامة هذه الاحتفالات هي صورة من صور التحدي الفني والنضال الإعلامي، وهي فرصة ميكروفونية عالمية للصدح بالمساندة لفلسطين والكشف عن كل جرائم الكيان البشع الذي يحتلها الآن، لكن الكارثة الغزاوية الحالية ليست كأي كارثة، هي ليست مجرد مصيبة، وهي ليست مجرد واقعة مأساوية، كارثة غزة هي واحدة من أبشع جرائم البشرية على مدى تاريخها، أي تلك البشرية، القصير، هي واحدة من أعنف عمليات الإبادة والتطهير العرقي العلنيين، عمليتا إبادة وتطهير يتفاخر الكيان القائم عليهما بهما، يستعرضهما أشلاء ودماء، ومقابر جماعية ومدن كاملة ممسوحة بالأرض بلا أدنى خجل أو وجل أو قلق من المنظور العالمي أو التقييم القانوني الدولي، ولِم يخجل وعلام يقلق والحكومات الكبرى في جيبه، وقادة العالم الحر يتملقون مجرمه الأكبر ويغنجونه بأسماء دلع، والأحكام الدولية والمواقف الحكومية الشريفة من بعض الدول والاعتصامات والمظاهرات المليونية من الكثير من الشعوب حول العالم كلها تمر دون التفات أو تأثير؟
ليست هذه الكارثة كغيرها من الكوارث، ولا مصابنا فيها كغيره من المصابات. المفترض أن يكون العالم الشرق أوسطي بأكمله في حالة حداد تام، أن يصطبغ كله باللون الأسود، أن يمتنع عن مظاهر الفرح والترف المعلنة، أن يكرس إعلامه لكشف المجرم ومساندة الضحية، ألا يكون له شغل يشغله عن أعمال الإغاثة والمساعدة والمساندة، أن يقطع العلاقات ويقفل السفارات ويطرد السفراء ويمنع التعامل الاقتصادي ويقاطع مقاطعة عامة كاملة، أن يمتنع عن حضور القمم والمؤتمرات والمناسبات، أن يترفع عن الدخول في مفاوضات ومحادثات، أن يمتنع عن المشاركة نهائياً في الأولمبياد الذي يشارك فيه الصهاينة «برياضيين جنود» فرغوا للتو من غسل أياديهم النجسة من دماء الفلسطينيين الطاهرة ليحملوا بعدها كرة أو مضرباً، أن يغلق أبواب شرقه عليه من المحيط إلى الخليج احتجاجاً وغضباً وحداداً، ولن يكون كل ذلك إلا أضعف الإيمان.
أما المهرجانات والأغاني والاحتفالات، والناس على وسائل التواصل تستعرض متع حياتها، والمشاهير يروجون لمنتجات شركات وضيعة تساند الكيان، إلى آخرها مما كنا نعتاد ونفعل قبل السابع من أكتوبر وما كان يجب أن نعتاد أو نفعل وفلسطين مُحتلة مُستغلة مُنتهكة لها خمس وسبعون سنة، فيجب أن تقف جميعها، يجب أن يسكن الزمن وتتجمد اللحظة وتُحبس الأنفاس، وتجحظ العيون، تماماً كما عيني الأسير المحرر بدر دحلان، وتتوقف الحياة أمام لحظة بشاعة جنسنا البشري الحالية تلك وحتى تنتهي هذه اللحظة وينال صانعها؛ هذا الكيان الوضيع، عقابه المستحق.
أمهات وآباء يدفنون أطفالهم أجساداً بلا رؤوس، ورؤوساً بلا أجساد، يتجولون تائهين بين الأنقاض، يجمعون أطراف أبنائهم فلذات أكبادهم من بين الصخور ومن تحت التراب، هل من مستوعب لهذا المشهد؟ أوَ بعد مشاهده المصورة لا نزال نتساءل أن: هل يجب أن تستمر الاحتفالات لأنها تعطي دقيقتين لفلسطين أمام ساعات المرح والغناء السعيد؟ هل هذا سؤال عقلاني؟ هل هذا زمن طبيعي منطقي الذي نعيش؟