تمر العشرون يوما الأولى من رمضان بسرعة، وطبعا التفكير العادي البسيط يربط بين ذلك والشهر الكريم، والحقيقة في هذا المرور السريع هو اختلاف التعود على الحياة. فالحياة التي كانت تبدأ مع الصباح وتستمر إلى الليل، صار صباحها هو الليل بعد الإفطار، وليلها هو النهار ينتهي العمل ليعود الشخص إلى بيته ينتظر مدفع الإفطار، ومن لا يعمل يصحو متأخرا بعد أن تمضي ساعات من النهار، وحتى تتعود الروح على نظام الحياة الجديدة يكون أكثر من نصف رمضان قد مضى بسرعة، وتصبح الأيام الأخيرة أطول وهي ليست كذلك، لكنها تنتهي وتعود الحياة إلى مللها القديم.
دائما وعبر كل السنين يكون لليل في رمضان النشاط.. العمل والخروج من البيت والسهر، اشترك في ذلك كل الناس عبر التاريخ الإسلامي، أتذكر حكاية الحاكم بأمر الله في مصر حين منع العمل نهارا في رمضان.. يوما وهو يمر نهارا ليتأكد من غلق المحلات وجد نجارا، أو حدادا لا أذكر، يعمل في محله، فأمر حراسه أن يقتلوه، لكن المصري الذكي قال له يا مولانا أنا أعمل بالليل وأحب السهر فسهرت كما تراني بالنهار! ضحك الحاكم بأمر الله ولم يقتله. منذ طفولتي وحتى الآن كان اليوم في رمضان يبدأ بعد الإفطار. لعب أو سهر بين الأطفال وأنا طفل، أو بين الكبار وأنا شاب. الفرق أنه في الطفولة كان السهر حول وقريبا من البيت. بعد ذلك صار بعيدا في المقاهي أو السينمات والمسارح، أو حول المساجد الشهيرة مثل مسجد المرسي أبو العباس في الإسكندرية. انتقلت للحياة في القاهرة في منتصف السبعينيات فصار الليل في رمضان أكثر اتساعا، ففي القاهرة ميدان الحسين والسيدة زينب، وفي منطقة الحسين وحولها منطقة الغورية وشارع المعز وغيره من آثار مصر الإسلامية. كانت القاهرة لا تزيد عن مليونين من السكان، فكان السهر هناك يجعلك ترى ما حولك من مفاتن العمارة والأعمال ولا تنشغل بالزحام، لأنه لا يوجد زحام. الآن تأتي الذكريات التي قد يصاحبها الألم من فقد الكثيرين، وفقد اتساع هذه الأماكن وهي خالية من الزحام، لكن الضحك يرتفع حولي في الفضاء مع كل مكان أتذكره.
كنت أعمل في الثقافة الجماهيرية وكانت في السبعينيات والثمانينيات تقيم سرادقا كبيرا في حديقة الخالدين في الدراسة ليس بعيدا عن منطقة الحسين. كنا نقدم فيه فنانين من كل أنواع الفنون غناء ورقصا، حتى قامت في الحديقة مشيخة الأزهر وانتهى السرادق. معظم الأيام كنا لا نذهب مباشرة إلى العمل الذي يبدأ من التاسعة مساء، لكن نلتقي نتناول إفطارنا معا في أحد مطاعم الحسين وننتقل إلى مقهى ثم إلى سرادق الاحتفال. كيف حقا كنا نضحك كل ذلك الضحك كأننا غير مشغولين بأي آلام في الحياة السياسية والاجتماعية، نحن الشباب الذي كان معارضا لكل سياسات النظام. كان الفضاء والاتساع يبعدنا عن السياسة في رمضان. أذكر أننا ونحن نتناول إفطارنا في الثمانينيات كيف حكيت لهم أني كنت في الصباح في التلفزيون فوجدت مشكلة عجيبة تم تحويل من فعلها إلى التحقيق. ما المشكلة يا إبراهيم؟ قلت مسلسل محمد رسول الله الذي يذاع الآن لا يظهر فيه الأنبياء كما تعرفون، لكن هناك صوت عبد الله غيث يقول مع تطور الأحداث جملة» وقال إبراهيم، أو وقال موسى، أو وقال عيسى، أو وقال يوسف أو محمد وغيرهم من الأنبياء فقام المحاسب بصرف المستحقات المالية لإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم باعتبارهم مشاركين في المسلسل، ولما تأخروا في الحضور لأن المسلسل كان في أجزاء أذيعت في التلفزيون على خمس سنوات، تم إيداع الأموال في الأمانات، ما أثر في ميزانية المسلسل لأنه قرر لهم مستحقات كبيرة باعتبارهم أنبياء». طبعا ارتفع الضحك للسماء.
كنت أعمل في الثقافة الجماهيرية وكانت في السبعينيات والثمانينيات تقيم سرادقا كبيرا في حديقة الخالدين في الدراسة ليس بعيدا عن منطقة الحسين. كنا نقدم فيه فنانين من كل أنواع الفنون غناء ورقصا، حتى قامت في الحديقة مشيخة الأزهر وانتهى السرادق.
والحقيقة إنني كنت قبلها بأيام في البرنامج الثاني في الإذاعة أسجل قصة قصيرة، وبعدها جلست مع الكاتب والمذيع المرحوم شوقي فهيم، فحكى لي كيف أنهم أذاعوا قصة مترجمة لتشيكوف، تم صرف مستحقات المترجم، وجاء المحاسب يسأله متى يأتي تشيكوف لصرف مستحقاته التي حجزها له، لأنه سيحولها إلى الأمانات. لو فتحت باب الضحك لن ينتهي في سهرات رمضان في الميادين والمقاهي، لكن المهم أن الليل كان هو النهار، ولا شك لا يزال عند من لديهم القدرة على السهر في الخارج بعد أن صار التلفزيون واللاب توب والموبايل، تجعل الأغلبية في بيوتها، أو حتى لو خرجوا إلى المقاهي فأكثرهم مشغول بالنظر في الموبايل. صار الفضاء الافتراضي سبيل التسلية او المتعة الفردية بعد أن ضاقت الميادين بسبب الزحام. كانت رؤية الناس بسهولة سبيلا إلى معرفة خبرات في الحياة، في الأغلب لا يعرف أصحابها معانيها الفلسفية، لكننا معشر الفنانين والكتاب نلتقط منها المعاني الفلسفية الغائبة. كان اتساع الدنيا يجعلك ترى ما حولك، وتصل إليك منه معان عظيمة قد لا تنتبه إليها وقتها، لكنها يوما تقفز إليك بالغائب عن أصحابها من معنى. كان الاستماع إلى الإذاعة منتشرا جدا بما تقدمه من أغان رمضانية توسع الدنيا حولك، ومن برامج أذكر منها برنامج «أحسن القصص» الذي كان يقدمه مذيع وكاتب رائع هو محمد علي ماهر ويخرجه يوسف الحطاب، يحدثك عن قصص الأنبياء كأنك تراها قبل الفجر وأنت، أقصد أنا، سهران. تسمع أصوات أعظم الممثلين مثل أمينة رزق وسميحة أيوب وعبد الرحيم الزرقاني وزوزو نبيل وتوفيق الدقن وحسن البارودي وغيرهم من عظماء التمثيل. كان يوسع في الليل حين أعود إلى غرفتي أو حين لا أخرج من البيت. كان رمضان هو الذي يدفعني إلى الفرجة على التلفزيون أو سماع الإذاعة لوقت طويل أو الخروج في الليل لتتسع الدنيا حولي حتى يأتي النهار فتضيق بالنوم أو بانتظار مدفع الإفطار. في الليالي التي لا أذهب فيها إلى الحسين أو السيدة زينب كانت المسارح هي المأوى أو السينمات. بعدها تصبح قهوة متاتيا هي الملاذ أو قهوة الحرية أو ريش أو الجريون حتى يقترب السحور، المهم أن يمضي أكبر وقت من الليل في الخارج حتى يبدأ النهار وتضيق البلاد.
من نوادر ذلك الليل أني وأنا أعمل في قصر ثقافة الريحاني، وكان مديره صديقي المرحوم الشاعر أحمد الحوتي، قررنا أن نأتي بالفنان الثوري عدلي فخري يغني كل يوم على مسرح القصر. كان عدلي فخري رحمه الله النسخة الثورية الأخرى من الشيخ إمام، وكان كاتب أغانيه هو الشاعر الكبير سمير عبد الباقي. كان ذلك يشغل مساحة من الليل لا نكتفي بها، بل نخرج بعدها إلى الميادين حتى نعود مع الفجر. ولأني صاحب فكرة حضور عدلي فخري، وكانت هناك مخاطرة كبيرة أن يتم تقديم أغانيه علانية في مكان حكومي، لكن سعد الدين وهبة رئيس الجهاز لم يعترض. لاحظت شخصا يتكرر حضوره كل ليلة ما أثارني.. بدا لي غريبا على ما نقدم فكنت أطلب له الشاي هدية مني، وكان عامل الشاي أعور واسمه عم موريس، فحين يقترب منه ليقدم الشاي أقول للرجل أن يتحرك قليلا إلى اليمين. يتحرك مندهشا ثم سألني لماذا أعزمه على الشاي كل ليلة وأطلب منه دائما أن يتحرك. قلت له أطلب منك التحرك لأن عم موريس أعور وقد يعطي الشاي لأحد جوارك، فضحك. قلت له أنا لا أعرف لماذا تأتي كل ليلة ولا أراك مندهشا أبدا مع الغناء. من أنت وهل يمكن أن تخبرني؟ قال لي باسما «أنا والله مخبر، وضابط مباحث قسم حدائق القبة هو الذي قال لي أن أحضر لأكتب تقريرا كل ليلة عما يحدث!» واختفى بعد ذلك فصرنا نتذكره كل ليلة ونضحك.
روائي مصري