ليس من شك في أن جائحة كورونا، بوصفها مستجدا وطارئا، أربك حسابات البشرية جمعاء، اقتصاديا وسياسيا وعلميا، وفكريا وثقافيا وروحيا، وإعلاميا ورياضيا… ستجعلنا نعيد النظر في مجموعة من الأمور، منها: ماهيتنا، وكينونتنا، وكل ما يحيط بنا في هذا العالم من رساميل ماديا أو رمزيا.
ولعل أهم ما جعل الإنسان، في زمن كورونا هذا، يعيش حالة من الذعر، والفزع الأعظم والارتباك.. الشبيهة بمشهد هستيري جماعي، خلال هذه الأسابيع التي لم يشهد لها مثيل من قبل، هي فوبيا «الموت» التي تملكت الصغير والكبير، الأنثى والذكر، المثقف وغير المثقف… الشيء الذي جعل سؤال «الموت» يطرح نفسه من جديد، لكن هذه المرة كإشكال فلسفي من شأنه أن يخفف من غلواء هذا الرّهاب العالمي.
لقد أظهرت هذه الجائحة عدم قدرة الإنسان على إدراك وفهم هذه اللحظة التاريخية، وكذا عدم قدرته على استيعاب «الموت» كحقيقة بطريقة إيجابية.. طريقة بإمكانها أن تجنبه هذا الفزع الشبيه بفزع يوم القيامة، حيث المرء يفر من أبنائه وصاحبته، مع ضرورة التنبيه، في هذا الإطار، إلى أن هذا الفزع قد يكون سببا مباشرا في موت الآلاف من البشر، عبر أرجاء المعمور، بدون الوباء اللعين، ناهيك من الآثار النفسية والاقتصادية والسياسية… التي ستخلفها هذه الجائحة بعد تراجعها.
والحق أنه كان على الإنسان، قبل وقوع حدث كورونا، الذي قوض كل الثوابت، والمقولات والكليشهات، أن يتعلم بما يكفي، التفكير في «الموت» بطريقة إيجابية وصحيحة، حتى يُحرر نفسه مما هو عليه الآن، من وهن وضعف، وحتى يقوم بفعل ما فعله جلجامش عندما واجه حقيقة الموت، وهو يرى صديقه أنكيدو جثة هامدة، فلم يكن أمامه من حل سوى البناء من أجل الخلود، وقهر هذا العراء والعدم (الموت).
فليس الموت، كما يقول هايدغر، هو مثل المحطة بالنسبة للقطار، بل هو شبيه بنضج الثمرة، التي تقضي فترة وجودها كلها من أجل هذه اللحظة؛ لذلك علينا نحن البشر أيضا، أن ننتظر الموت في فترات وجودنا، بحزم شديد حتى يكون وجودنا جديرا بأصالته.
إن تصحيح نظرتنا لفكرة «الموت» في علاقتها بالحياة، أضحت ضرورة ملحة في زمن كورونا وما بعده، حتى نكون متأهبين باستمرار لهزم الموت، حينما يتحول إلى عدو يريد القضاء على وجودنا الجماعي.
إن مجرد التفكير في الموت، بوصفه نهاية للعالم، أو باعتباره خطرا سيوقف الحياة، يُصبح حجرة عثرة تقف في الطريق، وبالتالي يغدو الإنسان عاجزا تماما عن العمل بطريقة صحيحة، تاركا بذلك، الأبواب مشرعة أمام ضياع كينونته قبل أوانها.
وهذا الأمر يذكرنا تماما «بمطرقة» هايدغر الذي يقول: إن مجرد تفكير العامل في المطرقة التي يضرب بها الأشياء، يُفقده التركيز، ويفسد عليه العملية، في حين أن نجاح المهمة مرتهن بعدم تفكير العامل في حركة المطرقة صعودا ونزولا.
هزم الموت بوصفه خطرا يتهدد الإنسان باستمرار، لا يمكن التحقق إلا في حالة الكينونة الأصيلة بتعبير هايدغر دائما.. الكينونة التي لا تتكشّف إلا في منفعتها، لا في سلبيتها.. الكينونة التي تفهم نفسها عبر ما تقوم به وما تفعله. وبهذا الوضع نكون قد وضعنا أنفسنا في سياق هذا العالم لا خارجه. وهنا سأضرب مثالا لذلك بأولئك المتهورين الذين فاجأهم الموت، وتغول عليهم الوباء، فخرقوا حالة الطوارئ الصحية، في كل من مدينتي طنجة وفاس المغربيتين، وخرجوا بالعشرات في مسيرات ليلية ضد كورونا، مرددين أدعية دينية من أجل هزم هذا العدو، في حين أنه كان من المفروض عليهم الانصراف إلى البحث العلمي لهزم كورونا لمن استطاع منهم إلى ذلك سبيلا، أو الالتزام بقرارات الدولة، والاكتفاء بالأدعية بشكل فردي داخل البيوت كأضعف الإيمان.
إن تصحيح نظرتنا لفكرة «الموت» في علاقتها بالحياة، أضحت ضرورة ملحة في زمن كورونا وما بعده، حتى نكون متأهبين باستمرار لهزم الموت، حينما يتحول إلى عدو يريد القضاء على وجودنا الجماعي. ولكي نستطيع ذلك، علينا أن نعي الوعي الحقيقي بالأوضاع والظروف والأشياء التي تحيط بنا، بدون تسرع أو تهور، حتى يكون وجودنا وجودا أصيلا.. وجودا مفعما بالقلق الوجودي لا الخوف. وشتان بين الخوف والقلق. فالخوف هو إحساس دائم بالخطر، أي الخوف من شيء محدد على شيء محدد داخل العالم كما يقول هايدغر. أما القلق فهو غير قابل للتحديد لأنه مرتبط بالوجود في العالم «إن ما يشعر المرء بالقلق هو الوجود في العالم بما هو كذلك» (عن جون ماكوري – الوجودية).
٭ شاعر وكاتب مغربي