يطلق مصطلح الروايات العظيمة على الروايات التي حققت معاني (العظمة) المرتبطة دائماً بسلطة الأثر وقوة التأثير، الذي يمتد لأطول فترة ممكنة من الزمن في واقع التلقي، وواقع اعتبار روايات ما مصدراً إلهامياً لسلسلة طويلة من الأعمال أو الروائيين أو النصوص، قريباً وبعيداً.
ومن اهم الكتب التي تتناول الحديث عن الأعمال الروائية العظيمة، كتاب «روائيون عظام ورواياتهم» للكاتب الإنكليزي سومرست موم، الصادر عن (دار المدى) وهو عبارة عن بحوث أدبية قصيرة تناولت أعظم عشر روايات في العالم، إضافةً إلى حياة كُتّابها من الرجال والنساء.
يذكر سومرست موم في مقدمة كتابه ما دفعه لخوض هذه التجربة، حيث طُلِبَ منه في الولايات المتحدة الأمريكية تحديد قائمة بعشر روايات عالمية وجاء اختياره مرفقاً بعبارة «إن القارئ الذكي سيحصل على متعة أكثر من قراءتها إذا تعلم فن القفز المُفيد». وعلى أثر ذلك يقترح عليه ناشر أمريكي إعادة طبع السلسلة المختارة بعد حذف ما يراه حشواً أو غير ضروري. مع كتابة مقدمة لكل رواية على حدة، وبما أن مختصر ما كتبه سومرست نُشر في إحدى المجلات الأدبية، ونال إعجاب المتابعين والقراء، لذلك تشجع لطبع مقالاته عن تلك الأعمال العظيمة في كتاب مستقل، مع حذف ما خصصه لمارسيل بروست، إذ يقول عن صاحب «البحث عن الزمن الضائع» إن روايته طويلة ولا يمكن حتى مع الحذف اختصارها إلى حجم معقول. ويشير في السياق ذاته إلى محبي بروست المُتعصبين، ويعتبر نفسه واحداً منهم، بل يفضل الضجر مع بروست على التسلية بصحبة كاتب آخر.
يذكر الكاتب في مقدمة الكتاب، إن الحديث عن أفضل عشر روايات مجرد هراء. ربما هناك مئة رواية في رأي الكاتب، ويتوقع بأن خمسين مُثقفاً أو قارئاً إذا شاركوا لاختيار مئة رواية وهي الأفضل عالمياً، لا يتجاهلون الأعمال التي ذكرها في كتابه. ومن ثم يحاول تفسير تفاوت الآراء بشأن الروايات ولماذا أنَّ القارئ قد يعجبهُ عمل دون غيره، فبنظر المؤلف توجد عدة عوامل تتحكم في مذاق القارئ منها، التوقيت أو الزمن الذي تابعَ فيه العمل الروائي، أو أن ثيمة الرواية تكون أكثر أهمية بالنسبة لقارئ معين.
وقد يراودنا سؤال مهم من قراءة السطور الأولى لهذا الكتاب: من هو أعظم الكتاب بالنسبة إلى سومرست موم؟ وهنا يجيبنا سومرست موم عن هذا السؤال: كما قلت في بداية مقدمتي لرواية «الحرب والسلم» بين جميع الروائيين العظام الذين أغنوا العالم بأعمالهم عالم الكنوز الروحية، بلزاك هو الأعظم بالنسبة لي، فالخصوبة في العمل الروائي هي ميزة الكاتب، وخصوبة بلزاك كانت مذهلة.
وبعد مقدمة عن بلزاك ونشأته وحياته الاجتماعية وتأثير النساء في حياته يختار سومرست موم الحديث عن روايته «العجوز غوريو» (اخترت العجوز غوريو لعدة أسباب. القصة التي يرويها تثير الاهتمام على نحو مستمر، ففي البعض من رواياته يقاطع بلزاك السرد ليتحدث حول جميع المواضيع التي لا علاقة لها بالقصة، ورواية «العجوز غوريو» تخلو من هذا العيب). كما يعتقد سومرست موم أن بلزاك هو الروائي الأول الذي استخدم (نُزلاً) كمكان تجري فيه أحداث قصته. (إنه يترك شخصياته تفسر نفسها بكلماتها وافعالها بموضوعية و»العجوز غوريو» جيدة من حيث البناء، حب العجوز الذي يضحي بنفسه من أجل بناته الجاحدات، إنه يرى شخصياته من خلال مزاجه الحيوي، وواقعيتهم ليس من الحياة الواقعية، إنهم مرسومون بألوان أولية حيوية، واحياناً مزخرفة، وهم أكثر إثارة من الناس العاديين، لكنهم يعيشون ويتنفسون، وأنت تصدقهم، وأعتقد أن بلزاك هو نفسه يصدقهم). وفي العديد من رواياته يظهر طبيب مخلص يدعى بيانشون، وحين كان بلزاك يحتضر قال (ابعثوا بطلب بيانشون سينقذني).
وكذلك في قائمة أهم عشر روايات، قد تكون هناك رواية عظيمة على الرغم من أن كاتبها لا يتمتع بموهبة ابتكار! مثل ستندال صاحب رواية «الأحمر والأسود» الذي أخذ حبكة الرواية من صحيفة نشرت محاكمة أثارت الاهتمام في وقتها، وقد كره ستندال أسلوب الكتابة المتأنقة بلاغياً الشائعة في وقتها، لكن على الرغم من ذلك تبنى أسلوباً بارداً جلياً منضبطاً يزيد ببراعة رعب القصة ويضيف إليها تشويقاً ساحراً.
وعندما ينصرف المؤلف إلى رواية «توم جونز» الكوميدية للكاتب المسرحي والروائي الإنكليزي هنري فيلدنغ (فعلى الرغم من مجونه وعربدته) تعتبر هذه الرواية من صنف الروايات التشردية، التي نشرت لأول مرة في 28 فبراير/شباط 1749 في لندن، وهي من أوائل أعمال النثر الإنكليزية، التي توصف بأنها رواية، وتعتبر أقدم رواية أشادَ بها سومرست موم في هذا الكتاب: (قيل عن الأسلوب الجيد هو الذي يشبه حديث الرجل المثقف، وهذا ما حققه أسلوب فيلدنغ، إنه يتحدث إلى القارئ ويروي قصة توم جونز كما أنه يرويها وهو جالس إلى طاولة العشاء مع زجاجة من النبيذ وعدد من الأصدقاء. إنه لا يتأنق في كلماته أكثر من كاتب حديث).
وعلى عكس رواية توم جونز، يكتب سومرست موم عن صاحبة العاطفة المهذبة جين أوستن وروايتها «كبرياء وهوى»: (كانت ملاحظاتها دقيقة وعاطفتها مهذبة، لكن إحساسها بالفكاهة هو الذي أضفى القوة على ملاحظاتها ونوعاً من الحيوية المهذبة على عاطفتها. كان مجالها محدودا. كتبت ذات النوع من القصص في جميع كتبها، وليس ثمة تنوع كبير في شخصياتها، فقد كانوا الأشخاص ذاتهم الذين نُظر إليهم من وجهة نظر مختلفة إلى حد ما. كانت تتمتع بحس سليم من الدرجة العالية، ولا أحد عرف حدودها أفضل منها. كانت تجربتها الحياتية محصورة بدائرة ضيقة من المجتمع الريفي، وذلك هو السبب الذي جعلها قانعة بالتعامل معه. كتبت فقط حول ما عرفته وقد لوحظ أنها لم تحاول أبداً إعادة خلق محادثة بين الرجال لأنها لم تسمعها ابداً في الواقع).
وعلى عكس رواية توم جونز، يكتب سومرست موم عن صاحبة العاطفة المهذبة جين أوستن وروايتها «كبرياء وهوى»: (كانت ملاحظاتها دقيقة وعاطفتها مهذبة، لكن إحساسها بالفكاهة هو الذي أضفى القوة على ملاحظاتها ونوعاً من الحيوية المهذبة على عاطفتها. كان مجالها محدودا.
وعن روايتها «كبرياء وهوى» يقول سومرست موم: (اعتقد أن من المستحسن قبول حكمة، إن الذي يجعل الأثر الأدبي يكتسب صفة الديمومة ليس إطراء النقاد ولا تأييد الأساتذة ولا تدريسه في الكليات الجامعية، بل الجمهور الواسع من القراء الذي وجدَ جيلاً بعد جيل ، متعة وكسباً روحياً في قراءته، إن الرواية ذات القيمة الأعلى في رأيي هي رواية «كبرياء وهوى» لإنها الأكثر إقناعاً من جميع الروايات الأخرى. لم أقل بعد عما يجول في ذهني حول الميزة الأعظم لهذا الكتاب الفاتن: إنه كتاب ممتع ـ بل إنه أكثر امتاعاً من بعض الروايات الأهم والأشهر. وكمال قال والتر سكوت، تتعامل الآنسة جين مع الأشياء العادية والمشاعر المعقدة، ومع شخصيات الحياة العادية، لا شيء يحدث ويثير الاهتمام، ومع ذلك حين تصل إلى أسفل الصفحة تقلبها بتلهف لكي تعرف ما الذي سيحدث بعد ذلك مباشرة، لكن لا يحدث شيء ذو أهمية، فتقلب الصفحة ثانية بالتلهف ذاته).
ويفرد سومرست موم فصلاً مطولاً عن حياة تشارلز ديكنز صاحب «قصة مدينتين» فروايته «دافيد كوبرفيلد» في جزئها الاعظم سيرة ذاتية، لكن ديكنز كتبها على شكل رواية وليس سيرة ذاتية، فيرسل دافيد كوبرفيلد وهو في سن العاشرة إلى العمل بدافع زوج أمه الشرير، كما حصل مع ديكنز في طفولته وعانى من الطريقة ذاتها (الخزي) بسبب اختلاطه مع صبيان من عمره غير مساوين له له اجتماعياً..
ولا يغيب إبداع الأخوة برونتي عن ساحة أفضل عشر روايات في العالم وهنا يرشح سومرست موم رواية «مرتفعات ويذرنغ» للكاتبة إميلي برونتي، هذه الرواية المشحونة بالحب والرومانسية والألم والنشوة فكيف استطاعت كاتبة (عمل واحد) ابنة رجل دين، عاشت حياة انعزالية أن تكتب رواية رومانسية على نحو عشوائي! يرجح البعض أن هذه الرواية كانت من تأليف برانويل شقيق إميلي برونتي لكن هذا الرأي مجرد شائعة ولا يستند إلى دليل قاطع. ويرى سومرست موم أن مرتفعات ويذرنغ تعبير عن النوازع الداخلية والكبت الذي عاشت فيه الكاتبة غريبة الأطوار، فقد عرف عن إميلي إنها شخصية منعزلة سريعة الغضب، لا تتحدث إلى الغرباء كثيرة الحنين إلى الوطن (عندما سافرت برفقة شقيقتها إلى بروكسل)
وفي هذه الرواية صبت إميلي كل أحلام اليقظة التي عاشت داخلها، رومانسيتها، غضبها الشديد، نوازعها الجنسية، غيرتها، كراهيتها وقسوتها وساديتها. يقول سومرست موم: (ليسَ فينا احدٌ متجانس، هناكَ أكثر من شخص يسكن فينا، ودائماً في صحبه مضطربة مع رفيقه، وميزة كاتب الروايات هي أنه يمتلك القدرة على أن يضع في قالب مادي محسوس الشخصيات المتنوعة التي يتكون منها في شخصيات فردية).
أما عن فلوبير كاتب الرواية العظيمة «مدام بوفاري» فقد صمم في هذه الرواية الرائعة على أن يكون واقعياً وموضوعياً، فقرر أن يشاركنا كل العواطف التي جعلنا نشعر بها أثناء قراءتها. يقول سومرست موم: (لا استطيع إقناع نفسي بأن إيما بوفاري هي ابنة فلاح عادية. فالحقيقة هي أنه كان فيها شيء من كل امرأة وكل رجل. وحين سئل فلوبير عن النموذج الذي اختاره ليمثلها قال: مدام بوفاري هي أنا. نحن جميعاً لدينا نزوع نحو أحلام اليقظة السخيفة، التي نرى فيها أنفسنا أغنياء وسيمين ناجحين، أبطالاً أو بطلات المغامرات الرومانتيكية، لكن معظمنا يتحلى بالوعي، أو الجبن، أو بالبعد عن المغامرة، فلا ندع أحلام اليقظة تؤثر في نحو جدي على سلوكنا. لكن مدام بوفاري كانت استثناء في ذلك، حاولت أن تعيش حلم حياتها، كانت استثناء في جمالها).
واذا كنا وجدنا في الشخصيات المبتكرة في روايات جين أوستن وفلوبير تجسيدات للعواطف العنيفة، الكبرياء، الشهوة، الحسية، الكراهية، فإن رواية «الأخوة كارامازوف» للكاتب الروسي العظيم دستويفسكي على العكس منها فقد وضع دستويفسكي في هذه الرواية جميع شكوكه المعذبة وحماسته للإيمان بما رفضه عقله وبحثه القلق عن معنى الحياة، إن رواية «الأخوة كارامازوف» انبثاقات عن كاتب معذب، مشوه، ذي حساسية مرضية، لكن على الرغم من أنها ليست حية، فهي تنبض بالحياة.
إلى جانب هؤلاء ينضم إلى قائمة أفضل عشر روايات في العالم تولستوي بروايته «الحرب والسلم» وكذلك هرمان مليفل بروايته «موبي ديك».
سومرست موم، روائي وكاتب مسرحي إنكليزي كان من أشهر كتاب بداية القرن العشرين، وكان من أكثر الكتاب ربحاً في الثلاثينيات من القرن العشرين. اشتهر بكثرة كتاباته التي تنوعت ما بين روايات مسرحية وقصص وكتب سياسية. امتاز بأنه كاتب واقعي يستمد قصصه من الحياة ومن ملاحظته للناس في أسفاره العديدة، من أكثر رواياته شهرة «القمر وستة بنسات»..
كاتبة عراقية
مقال مشوق و يستحق القراءة بيراعة كاتبته الرائعة.تحياتي و محبتي
مقال مشوق و يستحق القراءة لبراعة كاتبته الرائعة فيه.تحياتي و محبتي