صنّف كثير من المفكرين والناشطين السياسيين حرب غزة الحالية بوصفها أحد أهم معارك «نزع الاستعمار» في عصرنا، وهذا ليس بالطرح البسيط، أو الذي يمكن قبوله دون نقد، فإذا كانت الأعمال الحربية الدائرة تجري بالفعل على أرض محتلة، فإن لصقها بمفهوم «نزع الاستعمار» يقلل بشدة من بشاعة ما يحدث: لا معركة فعلية في غزة، بل حرب إبادة، تشنها دولة احتلال مدججة بالسلاح، على مدنيين لا توجد أي قوة فعلية مهتمة بحمايتهم، كما لا توجد أي دولة مستعدة لمنحهم الحق باللجوء الإنساني. وأي تحديد يتجاوز هذا الواقع، ويربطه بأي قضية متسامية، قد يرقى لمرتبة تقديم المبررات لجريمة الإبادة؛ أو إضفاء هالة خطابية، ومفاهيم تدّعي العمق، على أوضاع مؤلمة بشكل مروّع. لا يناضل عموم الغزاويين اليوم لنزع الاستعمار، أو نزع أي شيء آخر، بل فقط للبقاء على قيد الحياة.
رغم هذا فلا بأس بالتفكير بمفهوم «نزع الاستعمار» الذي تردد كثيراً، خاصة في أول الحرب، وهو مفهوم توسّع وتعقّد بشدة في عصرنا، مع تطوّر دراسات الاستعمار وما بعده، إذ لم يعد «الاستعمار» يعني مجرد سيطرة دولة على أرض أجنبية، واستغلال أهلها، وسلب مواردهم وثرواتهم؛ وإنما بات الحديث عنه أقرب لجردة حساب مع تاريخ التحديث، ونشأة الدول القومية، وتطوّر آليات الرقابة والضبط والهيمنة الثقافية، بل المفاهيم الحديثة عن الذات والآخر والعالم، والسياسات الحيوية المتعلّقة بشؤون الأجساد البشرية وإعادة إنتاجها، فكل ذلك تم في شرط تاريخي استعماري، فرضه عدد من الدول الغربية على العالم، ما أدى لانتزاع شعوب بأكملها من أنماط حياتها، وتقليدها الثقافي والتشريعي، ونظرتها إلى ذاتها وتاريخها؛ وجعلها تتبنّى أساليب جديدة في التفكير والتنظيم، يشوبها كثير من الاستلاب. تقريباً، حسب هذا المنظور، كل شيء في عالمنا ظاهرة استعمارية، من القانون المدوّن وحتى أكثر منتجات الثقافة الجماهيرية ابتذالاً. وبالتالي فإن «نزع الاستعمار» عملية شديدة الاتساع والشمولية، ويجب أن تتعمّق في القلب من ثقافتنا المعاصرة، وقد تتنوع أساليبها حسب مذاهب نازعي الاستعمار، من النزع العنيف والمسلّح، إلى «التفكيك» الفلسفي والثقافي، وصولاً إلى نصرة أنماط من الحساسيات، يصنّفها البعض ضمن «الصوابية السياسية».
تلعب القضية الفلسطينية دوراً مهماً في رواية «نزع الاستعمار» تلك، فإسرائيل تجسيد للدولة الاستعمارية الحديثة، بأكثر سياساتها وتقنياتها فجاجة؛ فضلاً عن أنها نتاج مزيج معقّد من العنصرية والعداء الغربي للسامية والفشل في التعامل مع مشكلة «الآخرية» وكل هذا صُدِّر إلى منطقتنا، بهيئة بناء استعماري استيطاني وحشي. ومن هنا يفضّل أنصار «نزع الاستعمار» وصف الفلسطينيين بـ«السكّان الأصليين» ليس فقط لأنهم كانوا في الأرض قبل استيطان الإسرائيليين، بل أيضاً لأن ذاك التعبير يشير إلى نمط من «الأصلانية» قبل الاستعمارية، التي دمّرتها تقنيات ومنظورات وسياسات التحديث العدواني الاستعماري.
هل يمكن للفلسطينيين فعلاً خوض معركة «نزع استعمار» بهذه المعايير؟
النزع العنيف
«نزع الاستعمار فعل عنيف» هذا ما يؤكده أنصار «نزع الاستعمار» الأكثر راديكالية، وهو أيضاً ليس معركة مثالية، بل يمكن أن تتداخل فيه كثير من الممارسات الدموية، وردّات الفعل الشديدة. إذ تخلق سياسات الاستعمار السلطوية مقاومات مشابهة لها، إلا أن تلك المقاومات، وأياً كانت ممارساتها، ستؤدي، على مدى طويل غالباً، إلى خلخلة النظام الاستعماري عموماً. بالتالي يمكن اعتبار عملية «طوفان الأقصى» حلقة مهمة في سلسلة طويلة من المقاومات الموضعيّة ضد النظام العالمي الحالي، إلا أنها تكتسب أهمية خاصة، نظراً للدور الحاسم الذي تلعبه إسرائيل في ذلك النظام. هذا يعني أن ما نشهده اليوم هو مشهد من صورة واسعة، ويمكن التغاضي عن تفاصيل كثيرة فيه، كي لا تشوّش علينا رؤية الصورة بأكملها.
يعني هذا أيضاً، أنه من الخطأ توجيه أي نقد جدّي للعملية، ولأداء المقاومة، لأن ذلك يصرف النظر عن المسألة الأساسية، وهي النظام الاستعماري الدولي، الذي أنتج الشروط والأسباب لـ»ردة الفعل» عليه. ما يجعل ذلك النظام الاستعماري الفاعل والمسؤول الأساسي عن كل ما يجري، تماماً كما أن عالمنا المعاصر بأغلبه منتج لسياسات استعمارية، غربيّة، بيضاء. والتاريخ لم يبدأ بالفعل من السابع من تشرين الأول/أكتوبر. على الفلسطينيين إذن أن يقتنعوا بموقعهم هذا في تلك الصورة المجرّدة عن «النظام الاستعماري» ومعارك نزعه. إنهم «أصليون» قاموا بردة فعل، والأفضل أن يوجّهوا أي نقد، إن كان لـ«الأصليين» ممارسة النقد، إلى ذلك النظام، بدلاً من أن «يجلدوا ذاتهم» بتبنّي المنظور «الأبيض» عن السياسة، بل حتى العمل العسكري. وهذا قد يؤدي، بطريق مباشر، للقول: ليس بالإمكان أفضل مما كان، سبب المأساة هو الاستعمار. ويجب أن يُكرّر هذا القول دائماً، على أي منبر غربي أو شرقي، يُفرد مساحة لرواية «نزع الاستعمار» إلى أن تأتي «ردة فعل» جديدة، تؤدي غالباً إلى مزيد من القتل والاضطهاد، فيعود نازعو الاستعمار لتكرار أقوالهم عن المشكلة الاستعمارية.
لا يقتصر «نزع الاستعمار» على تأييد «رد الفعل العنيف» بل أيضاً له جوانبه الثقافية، التي باتت مترسّخة في كثير من المؤسسات الغربية، ومنها أكاديميات ووسائل إعلام ومنظمات غير حكومية.
لا يبدو هذا الطرح مهتماً بكسر تلك الحلقة المفرغة، أو إعطاء دور للفلسطينيين في روايته، أبعد من كونهم أصليين ضحايا، يقومون بردات فعل، لأن «خلخلة» النظام الاستعماري ليست برنامجاً سياسياً محدداً مثلاً، بل «منظور تاريخي» لا أكثر. يمكن القول إن طرح «نزع الاستعمار» المعاصر، في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية، يسلب الفلسطينيين، وهم «شعب» بالمعنى السياسي الحديث (الاستعماري؟) نشأ مفهومه مع الحركة الوطنية الفلسطينية في النصف الأول من القرن الماضي، وتطوّر مع ظهور منظمة التحرير الفلسطينية في نصفه الثاني، الحقّ في ممارسة أحد أهم أشكال الأداء السياسي: المحاسبة. وبالتحديد محاسبة المسؤولين السياسيين والعسكريين عن قضية المقاومة، وكيف تصرّفوا بها. والتركيز على «المحاسبة» هنا ليس لدواعٍ انتقامية، وإنما لمنع تكرار مآسٍ قد يمكن تجنّبها، وبناء هياكل سياسية، ببرامج وطنية واضحة، أقدر على التعاطي مع الظرف الصعب والمعقد، الذي يمرّ به الشعب الفلسطيني. فالفلسطينيون ليسوا مجرّد «أصليين» أو جماعات إثنية/فلاحية قبل سياسية، تتمسّك بأشجارها وأرضها، وتقوم بـ»ردات فعل» لا تفيد إلا بجعل أفرادها ضحايا أكثر؛ كما أنهم ليسوا في خدمة رواية تاريخية/كونية لأي طرف، مهما كان كارهاً للاستعمار.
صناعة «النزع»
لكن، وبعيداً قليلاً عن الرواية التاريخية/الكونية لـ«نزع الاستعمار» لماذا حقاً الإصرار على «أصلانية» الفلسطينيين، خاصة من قبل جانب مهم من المتضامنين الغربيين، والمتأثّرين بهم من العرب؟
لا يقتصر «نزع الاستعمار» على تأييد «رد الفعل العنيف» بل أيضاً له جوانبه الثقافية، التي باتت مترسّخة في كثير من المؤسسات الغربية، ومنها أكاديميات ووسائل إعلام ومنظمات غير حكومية. ما يدفع للحديث عن «صناعة نزع استعمار» كاملة، لها عوائدها ومحترفوها، وجانبها المالي والتسويقي. ويبدو أن هذه الصناعة باتت بعد حرب غزة مثار نزاع سياسي شديد في الدول الغربية، اختلط بالصراعات الداخلية والثقافية المتعددة في تلك الدول، فبات أقرب لـ»شأن داخلي». بكل الأحوال «الصناعة» لم ولن تتوقف غالباً، فهي مترسّخة للغاية، ولا تتعلق فقط بالقضية الفلسطينية.
قد يمكن ربط صناعة نزع الاستعمار بميل غالب لدى جهات تمويلية غربية متعددة، حكومية وغير حكومية، لنشر أنماط أيديولوجية، تبدو أنسب غربياً للاندماج في النظام الدولي؛ ولها وظائف متعددة، أهمها منح «الاعتراف» بثقافات ومظالم تاريخية، وتصفية الذاكرة مع مستعمرات سابقة، ودعم مشاريع تنموية واستثمارات «بين ثقافية». ليس للفلسطينيين، ضمن ترميزات «الصناعة» إلا هيئة «السكان الأصليين» وهو مسمى انتشر مثلاً بإسهام عدد كبير من المنظمات غير الحكومية في الضفة الغربية، وكان هذا علامة على محاولات إدماج الضفة، وسلطتها الحاكمة، في «العالم». اليوم يصرّ أرباب «الصناعة» على موقفهم مع «الأصليين» فيما يصرّ خصومهم على وسم الفلسطينيين بالإرهاب. تلك، ربما، «قضايا عالم أول» لكن ماذا عن السياسة الفعلية في منطقتنا؟
الاستعمار هنا
تقدّم روايات «نزع الاستعمار» المعاصرة سلسلة من المفاهيم، التي توجد أسباب كثيرة لاعتبارها غير مفيدة للمسألة الوطنية للشعب الفلسطيني، إذ أن مفهوم «المسألة الوطنية» نفسه قد يثير تشكك ورفض أنصار «النزع» لرنينه «الغربي» في أسماعهم. يصعب بالفعل أن نتطهّر من «الاستعمار» بمفهومه الواسع، فهو ليس مجرد قشرة يمكن نزعها، أو شيطاناً علينا طرده من أبداننا، فنعود إلى «أصلانيتنا» بل هو مكوّن داخلي في لغتنا ومفاهيمنا وأنماط حياتنا، ما دمنا قد نشأنا في دول قومية، لها باع طويل في أنماط التحديث، بكل ميزاته وعيوبه ومآسيه. وبعيداً عن الابتذال المعاصر، الذي وصلت له دراسات «نزع الاستعمار» أو «ما بعده» فقد كانت الغاية من الدراسات النقدية للظاهرة الاستعمارية، تطوير فهم أفضل للظواهر العالمثالثية المعاصرة، وطرح أسئلة إشكالية عن الذات الجماعية لشعوب متعددة، و«صوتها» وكذلك «فصامها» إبان عصر التحرر الوطني، وبعده، بنجاحاته وإخفاقاته.
صوت الشعب الفلسطيني، الذي يعيش تحت الإبادة الجماعية، لن يصل بالتأكيد عبر «نزع الاستعمار» المعاصر، وربما، مع تفاقم المأساة، ستكتفي معه شعوب عربية عديدة من الهزائم ودور الضحية، الذي يُرسّخ الاستعمار. عندها قد يمكننا التفكير بأداء سياسي أفضل مما يقترحه علينا نازعو الاستعمار، وهو أداء يبدأ، مجدداً، من «المحاسبة».
كاتب سوري