فصول رواية ديمة عبد الله معنونة بالتواريخ وأسماء الأمكنة، مثلا الفصل الأول عنوانه «بيروت 1983»، ربما كانت ديمة في الرابعة آنذاك يسير بها «هو»، والدها الذي لا يُذكر اسمه أبدا، رغم أنه حاضر في الصفحات كلها، بل إن الرواية كتبت عنه، أو لذكراه. أول ما يحضر منه سبّابتُه، «يمدّها لي بدل أن يأخذ بيدي». إصبع مارد، تكاد تفيض ضخامته عن استطاعة اليد الصغيرة على احتوائه. لكنها مع ذلك تستطيع أن تشعر بكل التفاصيل الصغيرة من نداوة ذاك الإصبع إلى عُقدِه، إلى كل ما تُشعِر به ملامستُه، وذلك حتى 2017، أي بعد أربعين سنة، وفي باريس حيث أصبحت «هي». شخصيات الرواية حاضرون جميعا من دون أسمائهم، الأسماء التي ظلّ أولئك الآخرون، الأقل حضورا في حياتها مثل نادل المقهى وبائعة الباغيت، محتفظين بها. تستثنى من ذلك سندرين الصديقة الأقرب، التي يكاد اسمها يلمع، رغم ضياعها ومرضها وموتها ربما، حيث اسمها هو الاسم الوحيد الذي يذكر لمن هم في صدارة الرواية. أما الأب والأم والأخ، فتركوا هكذا إلى اللمح والإشارة المستدعَيين من الذاكرة المتأملة.
ثم إن الأصابع أو الأيدي حاضرة أكثر مما هي الوجوه حاضرة. يدا الأم من بعد يدي الأب. الأيدي التي سيكون عليها أن تكنّى عن الكثير من وجود أصحابها، وأن تكون هم في أحيان كثيرة. وهؤلاء، على أي حال، متخفّفون من التعيين. يمْثلون في الرواية بلا توطئة ولا مقدّمات ولا تعاريف بهم. سنستغرق وقتا في ما نحن نقرأ لنعرف أن هذه التي توصف يداها هي الأم، وأن من يروي في هذا الفصل الجديد هو الأب. ذاك اللاتعيين يطال أيضا مسائل أساسية، بل قد يظنّ البعض أنها ضرورية. لا تدعنا الرواية نقرأ عن الحدث الذي أدى إلى التباعد بين هي (الابنة) وهو. ولا إلى المرض الذي أدى، في بعض فصول الرواية، أو في بعض سنواتها، إلى إقعادها ودفعها إلى اليأس، إنه تفادٍ متصل ولا متناه لذكر تفاصيل عن شيء حدث، وهذا بالتعارض مع معتقد سائد في فنّ الرواية يقوم على اعتبار أن الحدث وتتابعه هما ما يصنعانها.
أثر تلك التفاصيل الباقي في الذاكرة هو ما يستدعي الكتابة. يكفي أن يُفتتح الفصل بمشهد يقف فيه هو أمام شريط الحقائب الجرّار في مطار بيروت، منتظرا وصول ابنته من فرنسا، لينفتح سيل الذكريات والتأمل حتى الكلمة الأخيرة من ذاك الفصل. كأن لم يحدث شيء حوله، كأنه لا آخرون ولا حركة مسافرين.
فقط ذلك الشريط المستمر بالدوران محرّكا الذكريات والتأملات معه. كما لا نُعلَم بشيء عن الانكسارات التي تسبّبت بكل هذا الحزن الذي يكتنف الجميع على مدار تلك السنوات. وهو حزن متصل يبدأ بعدم التكيّف مع المدرسة ومع مَن فيها بينما «هي» ما تزال في الرابعة من عمرها. ذاك الحزن المقيم على الدوام يستمر حتى الفصل الأخير من الرواية، كما يستمرّ أيضا في القصيدة الملحقة بها، قصيدة ما بعد الختام. هو حزن سابق على ما يمكن أن يكون مسبّبات له تحصل لاحقا، وهي تتمثّل بالانفصال، ثم الابتعاد، أو الهجرة إلى بلد جديد، من دون أن تكون العائلة مجتمعة أو متحدّة. الرواية هي، بين دوافع أخرى، قائمة في ذينك المكانين المتباعدين، حيث الهجرة أبقت الأب في المكان الأول، فيما سائر العائلة انتقلت للعيش في المكان الثاني. ما نقرأه أيضا، مع توالي السنوات – الفصول هو ذلك النزاع بين التذكّر والنسيان ودائما في السيرة التي ترويها هي، الروائية، مرّة بلسانها ومرّة بلسانه هو. نوع من إشراك الآخر في رواية حياته، وإن مستعادة بذاكرتها هي. هو أيضا، فيما يروي، كان يستطيع أن يذهب بمعرفته بابنته إلى أبعد من الظاهر الأبويّ، «كانت تشعر بدمي وهو يجري في عروقها» وذلك بعد ساعتين فقط من ولادتها.
وقد استمرّ ذلك في السنوات اللاحقة من عمرها، أقصد أن يحسّ بما هو خفيّ من مشاعرها، هي أيضا تحسّ بالتحولات الحاملة إياه إلى الانكسار، تلك التي من بينهما وطأة الحرب التي جعلته غير قادر على حمايتها، حسبما كان وعد نفسه، ووعدها. «كنت أتحلّل على إيقاع تحلّل هذه المدينة» يقول، أو تكتب هي. ذاك التحلل الذي أدى إلى ذلك الجفاء الصامت بينهما، بسبب كل تلك الكؤوس التي لم يستطع التوقّف عن تناولها.
رواية «أعشاب ضارة» سيرة يغلب عليها الخفاء المذكور عنه أعلاه، والألم الذي سبق حصولُه مسبِّباته. نحن، كقرّاء، كثيرا ما نرى أن التفكّر العميق بأشياء الحياة والتساؤل الدائم عن جدواها هما الباعث على الحزن. رواية ديمة عبد الله، وهي الأولى لها، تنقيب في ما يؤثر الآخرون إسكاته أو إرجاءه، إلى ما بعد الموت غالبا. ثم إنها لا تكتفي بالمعنى العادي الذي يسرع الآخرون إلى التسليم بكفايته، كأن يرضوا بمعنى واحد للصمت، هنا، في تأمّل ديمة عبد الله، «الصمت أنواع كثيرة: صمت المحبين المتفاهمين، صمت الاستراحة بعد العاصفة، صمت الغجر حين تكون المدينة ما زالت نائمة، صمت الخجولين، صمت المنزعجين، صمت ما بعد ليلة من القصف، صمت الأجساد التي ما زالت حارة، والتي سكتت إلى الأبد».
رواية ديمة عبد الله «أعشاب ضارّة» نقلها هيثم الأمين عن الفرنسية. طبعتها العربية هذه صدرت عن «دار الآداب» في 214 صفحة- سنة 2022.
كاتب لبناني