قارئ هذا العمل الغارق في بساطته وعمقه معاً للروائية الأمريكية إليزابيت ستراوت، سينخرط لا شعورياً مع كاتبته في بحثها الدؤوب عن زمنها المفقود الخاص بها، والشبيه ربما إلى حدّ بعيد بأزمنتنا المفقودة كبشر. مهارتها اللافتة في تصوير عواطفها تؤكد لنا ما أشار إليه أرسطو إلى أن مهمة الفنون هي تصوير العواطف.
خفة السرد وشفافيته عكست صدق من لا ملاذ له سوى الذاكرة المثقلة بماضٍ لم يكن رحيما معها، وخشيتها المحفوفة بالتوق الدائم للخلاص منه. افتتان الكاتبة بغواية سحق الماضي وكسره، بغرض الوصول إلى المصير البديل صبغت العمل بهيمنة الوقائع السردية العادية، بعيداً عن المبهمات غير المرغوب فيها في أعمال كهذه. هذه الرواية للكاتبة الأمريكية إليزابيت ستراوت الفائزة بجائزة بوليتزر عام 2009، كأغلب أعمالها تُبرز خصوصية الكاتبة ومقدرتها اللافتة على تصوير ما خلّفته الحروب والفروقات الطبقية من آثار لا تُمحى على العلاقات العائلية والاجتماعية في المجتمع الأمريكي.
لوسي ووالدتها وجهاً لوجه مع ماضيهما وحاضرهما معاً، ولو أن الحاضر هنا قد تنحّى لصالح الماضي البعيد، إذ حرصت الأم الساردة عن عمد على التشاغل عن لهفة ابنتها لتسألها عن حياتها، بانهماكها في سرد تفاصيل وحيوات آخرين لا أهمية لذكرهم في الواقع، ودون أدنى انتباه من الأم لإغفاءات ابنتها المتقطّعة كتعبير من لوسي عن خيبة أمل حقيقية.
«أردتُ أن تسألني والدتي عن حياتي، أردتُ أن أحكي لها عن الحياة التي أعيشها الآن». وهكذا كل محاولات لوسي لاستدرار عطف والدتها واهتمامها بها باءت بالفشل، حتى أن صمت الأم وإحجامها عن إظهار عاطفتها تجاه ابنتها كان غريباً للغاية، فبدت الأم وكأنها قادمة لتنجز مهمة قهر ابنتها وحسب، لدرجة أن لوسي سألتها: «هل تحبينني».
في آخر الرواية تأخذ لوسي دور والدتها حين زارتها في المستشفى بقولها:
«أردتُ أن أُعطيها ما أعطتني».
تبدو لنا لوسي وكأنها لا ترغب في أن تغفر للظروف التي جعلتها ابنة لعائلة غير سويّة، والمؤلم بالنسبة للوسي أن جذور تلك العائلة ستبقى ضاربة وبعناد كلٌّ في قلب الآخر، وهذا الأمر كثيراً ما أخافها. نلمس نحن القراء على امتداد العمل إصرار لوسي على الشفاء من ذكرياتها المنفّرة عن العائلة، كالفقر والرائحة الكريهة الملتصقة بأفرادها، بالإضافة إلى الأمزجة المتجهمة بسبب قسوة الوالدين، وهكذا خلقت تلك الإساءات العاطفية والنفسية البليغة التي اختبرتها في طفولتها إحساسها المرضي بالدونية أمام الآخرين، لدرجة أنها تصف الأحاسيس التي عاشتها بالشظايا الكبيرة المقبلة من ماضيها السحيق والمعتم، وتلك الشظايا هي التي منعتها من البكاء أمام والدتها لمّا زارتها في المستشفى، لأن والديها معاً كانا يكرهان البكاء.
لطالما أحبت لوسي ذلك التعبير لتينيسي وليامز:
«لطالما اعتمدت على لطف الغرباء».
لطف الغرباء الذي كان بالنسبة لها التعويذة التي تحميها من الإحساس بالدونية الذي رافقها في طفولتها وصباها.
تقول لوسي: « ثمة ذلك الحكم الذي يلازمنا في هذا العالم، كيف لنا أن نتأكد من عدم شعورنا بالدونية أمام الآخر».
حتى أنها لم تكتفِ بذلك، بل كانت تسعى حثيثاً كي تحقّق كل ما يُشعرها بالتفوق، ولو اقترفت من أجل ذلك كل ما هو دنيء ومؤذ. «تعنيني كيفية إيجاد السبل للشعور بالتفوق على شخص آخر، أو مجموعة أناس آخرين، يحدث ذلك في كل مكان في كل آن مهما تكن التسمية التي نطلقها، فإنني أظن أنها الجزء الأحط من ذواتنا، وهذه تحتاج إلى شخص آخر يُعمقها». حتى أن والدتها أدركت سريعاً أن لوسي قد تعلمت الكثير في تلك المدينة. كما أن لوسي لم تنس التعبير السريع والعفوي الذي ارتسم على وجه جارها د. جيرمي المحلّل النفسي الفرنسي، حينما أخبرته أنها من الريف، لدرجة أنها فوجئت بهذا الكمّ من النفور الحقيقي والاشمئزاز العميق الذي يُكنه أهل المدن تجاه أبناء الأرياف. إلا أن نظرته تغيرت لمّا عرف من ابنة لوسي أن والدتها كاتبة بقوله:
«الفنانون مختلفون عن باقي البشر».
وبحزن بالغ تتذكر أيضاً كيف قدمتها حماتها لإحدى صديقاتها بأنها لوسي؛ زوجة ابنها القادمة من اللاشيء. فتلك الذكريات هي التي قادتها بعد انتقالها للعيش في الويست فيلج مع زوجها، على تقليد الناس من حولها خشية أن يلحظ أحد قلة درايتها غير الحضارية بالثقافة العامة، متهمين إياها ولو بطريقة غير مباشرة بأنها من طبقة البيض الحثالة، ذلك التعبير الفجّ المتداول غالباً للتعريف بطبقة الفقراء والمهمّشين من البيض. كما أنها تعترف لنا كيف أن الزمن لم يمح أيّاً من تلك الذكريات، بل بقيت وهّاجة وحارقة لتتحول في ما بعد إلى عادات وأمراض نفسية مزعجة. لم تخبر لوسي والدتها عن التخيلات المرعبة التي كانت تجتاحها حينما كانت تُترَك وحيدة في الشاحنة ليذهب والداها إلى العمل. ثم إن ظهور سارة باين، المرأة الخمسينية الأنيقة للغاية، التي عرفت فيما بعد أنها كاتبة وأن إقامتها في مزرعة يسّر عليها الكتابة عن معاناة الناس في تلك المناطق الريفية، وأن حضور لوسي لجلسة النقاش معها في مكتبة نيويورك العامة، وطّد علاقتها بها، ومنحها مهارة الدربة على الكتابة، ولو أنها لم تفهم لماذا لم تتذكر سارة باين لقاءها السابق بلوسي، الحريصة كل الحرص على استجداء اهتمام المشاهير والاعتراف الطفيف بوجودها، الاعتراف الكفيل بمساعدتها على الخلاص من حالة النكران والتجاهل المقيت الذي خبرته في كل مراحل حياتها. فحينما وصف والدها ألفيس بريسلي بأنه قطعة نفاية كبيرة وعتيقة، بادرته لوسي بقولها: «كنا نفاية، ذلك ما كنا تماماً». وهذا الأمر لم يعجب والدتها.
طوال العمل نلمس إصرار لوسي، بل استماتتها للحؤول دون تعرضها للإقصاء والتهميش، وكل ما قد يترتب عليه من افتقاد للحب والآلام التي لم يعد بوسعها تحملها مجدداً، واستعاضتها عما مضى بالدور الأبهى والتمرد على ما كانته، وعدم اللالتفات إلى الوراء، حتى أنها لم تتردد بعد فترة من زواجها في زيارة طبيبة نفسية لتساعدها على ألا تبدو مثل أمها، تقول لوسي: «وقد رأيت أبي هو الآخر في وجهي». إلا أن الطبيبة لم تستغرب ذلك بقولها إن مرضى كثر يشعرون بأنهم يدون مثل أمهاتهم وهذا لا يعجبهم، ويرغبون بالتخلص من تلك المشاعر.
حالة عدم الرضى المسيطرة عليها من جراء ما خبرته وعاشته سابقاً قابله نفور من الأهل، الذي كانت تستشعره كلما اتصلت بهم، على الأرجح أن هذا الشعور، توطّد لدى عائلة لوسي بسبب مغادرتها لهم، فبدا الأمر بالنسبة لأفراد العائلة بمثابة خيانة، أي أنها لم تعد واحدة منهم. إلا أن شغف لوسي بالكتابة ربما كان سبباً في رغبتها الدفينة في الانفصال عن ماضيها المتمثّل بالعائلة وحاضرها المنحصر بالزوج والابنتين، وكأنها تعتمد قول جارها السابق جيريمي بأن عليها أن تكون قاسية كي تصبح كاتبة، ويبدو ذلك جليّاً في قولها:
«لن أبقى في زواج حين لا أريد ذلك، وسوف أندفع إلى الأمام عبر الحياة عمياء كخفّاش، لكنني سأستمر وأظن أن هذه هي القسوة».
وهكذا اختلاف رؤيتها لعالمها الخاص جداً دفعها للتمرد على عائلتيها معاً، رغم تأكدها من حالة الضياع الذي ينتظرها؛ الضياع الذي تعمّدت الروائية الإشارة إليه، والذي لا شك زادت من حدّته عنصرية المجتمع ككل المتمثّلة بالنظرة المتعالية لسكان المدن تجاه سكان الريف.
٭ ٭صدرت رواية «اسمي لوسي بارتون» عن دار فواصل للنشر والتوزيع بترجمة الكاتب السوري أحمد م. أحمد
كاتبة سورية