في عملها الروائي الثاني «الآنسة جميلة» الصادر عن دار النهضة العربية طبعة أولى 2023، اختارت نسرين النقوزي أن تعيد الإنسان إلى ما دون بداياته، مجردة الشخصية من جندرها الأنثوي أو الذكوري، منطلقةً من النزعة السلوكية وميلها، فجميع الشخصيات متفككة تجاه ذواتها وتجاه بعضها بعضا، فضلاً عن أن الرواية الأشبه بيومية طويلة متحررة من المبنى الحكائي الكلاسيكي شكلت ضفة لمتتاليات سردية تفاصيلها محرجة وربما غريبة…
الإنسان بلا قناع
من تعريفات سيغموند فرويد للإنسان قوله: «هو كائن خلع قناع الحضارة والمدنية» وقد بنت الالنقوزي شخصياتها على هذا المنحى بدءا من الساردة «جميلة» التي اقتحمت النص بسرد تفاصيل يومية وشخصية تتسم بالقرف أو الإحراج، لتعيدنا إلى علاقتنا مع أجسادنا ورغباتنا المتوحشة تجاه الأطعمة تحديدا، والروائح وسرعان ما سوغت إسقاطها اللاواعي لهذه النظرية، حين تحدثت عن حضورها الأنيق في عالمها المهني، لكن المفارقة أن هذه النظرة للإنسان والتفصيل في رسمها، الذي أتى متزامنا مع ولادة شخصيات أخرى كشخصية الأب وزوجته، والشخصيات الثانوية الأخرى قد أوقع الكاتبة في شرك التفصيل، الذي خدمها في ترسيخ المشهد وعنصر المخيلة من جهة، وشكّل بداية دوران في حلقة سردية مفرغة أخّرت التعرف إلى الحدث، أو الأحداث اللاحقة.. ومن المظاهر اللافتة لتخلي الإنسان عن قناعه المتحضر، كانت إعادة طرح ظواهر قديمة جديدة اجتماعيا كالتفكك الأسري الناتج عن علاقة مضطربة بين الأب/الأم وابنه/ابنته… وقد أوضحته نسرين الالنقوزي من خلال تمرده الأخلاقي على والدها، ووصفه بالعاجز وشتمه، ما قد يضعنا أمام صورتين إما أننا نشهد تصويرا روائيا لمجتمع مهزوز اقتصاديا، ومضطرب أسريا، وإما هو إفصاح أو إقبال نحو تنميط تمرد البنوة على الأبوة. في الحالتين لجأت الكاتبة إلى التعرية التي اتخذت موضع المونولوج الصاخب (سنبينه في ما بعد) ما يضعنا حين نتطرق إلى عمر جميلة وغيرة جسدها من جسد سهير زوجة أبيها، إلى صراع جنسي يتفشى نتيجة الكبت المتمثل بقدرتها على إغراء سهير زوجة الأب لوالد جميلة السبعيني المحدود الدخل، مما يقودنا إلى عقدة ألكترا… كون جميلة فشلت في استقطاب الرجال جسديا، هذه الصياغة القصدية لظواهر سوسيولوجية قديمة تؤكد أن صاحبة رواية «المنكوح» تخطت النقمة اللغوية والسردية الساخرة على المجتمع، وطرائق تكيفه مع أزماته باعتناق ظواهر مجتمعية تكبله، أي أن الإنسان كان فردا يخلع كل ما أعطي إليه من أنماط بشرية ممارسا في هذا القالب الروائي إسقاطاته اللاواعية.
الأصوات الروائية: اللامساواة ومحاولة العقلنة
لعل النقد الأول على نظرة ميخائيل باختين للرواية البوليفونية (متعددة الأصوات) جاء بسبب اعتبار الأخير أن هذه الأصوات منعزلة عن خلفية الكاتب النفسية والثقافية، وهذا ما لم تنجح النقوزي في دحضه أو إثباته، فجميلة كشخصية أساس أربكت الكاتبة منذ وضعتها موضع الساردة، ويمكن أن نجد مواضع الإرباك والارتباك السردي الحاصل من خلال نقاط ثلاث:
أولاً، حين خصصت جميلة ضمير المتكلم ليكون أداة ربط ووصل بينها وبين المتلقي من جهة، فتخبره بكل ما يحيطها من أخبار وأحداث وصور، وبالتالي نجح توظيف هذا الضمير في تقديم السرد والحوار على أنهما مدخلاً للانتقال نحو وحدات سردية أخرى، ومن جهة ثانية كان أداة فصل بين جميلة وباقي الشخصيات، فلم يكن أخوها عاملاً مساعدا بل حياديا، ولم يكن أبوها عاملاً معاكسا، بل ضحية خصص له صوت روائي على مدى الفصل الثاني، ولم تكن سهير شخصية تتقدم نحو العراك، بل كانت خصما جامدا قال ما قاله، لأن جميلة احتكت بعنف بها من خلال نزعة الرفض، ما أسقط الكاتبة في هوة اللامساواة بين الأصوات الروائية التي تجلت شكلاً حين أضافت لجميلة فصلاً أو مساحة صوتية/سردية ثانية، تجلت في الفصل الرابع، على الرغم من أن المتوقع كان أن يتكلم الأخ، رغم مساحته الثانوية سرديا، إلا أن سمته المحايدة كانت ستعطي للرواية طابعا موضوعيا إشكاليا أكثر.
ثانيا، من حيث العقلنة، يرى جورج طرابيشي (1939-2016) أن العقلانية أبسط من كل التأويلات ويندرج مفهومها تحت عنوان «لا سلطة تعلو فوق سلطة العقل» والملاحظ في هذه الرواية غياب الشحنة العاطفية أو حضورها فاترة، خصوصا في وصف العلاقات الجنسية، ولعل هذا الانسلاخ العاطفي الرومانسي بمعانيه الفضفاضة دفع الكاتبة نحو التصوير والتوصيف، وإعادة ضخ الحدة في الإشكاليات والنزاعات القديمة، الأمر الذي وضعها بين عقلنة الشخصيات، بمعنى أنها تلقت أكثر مما رفضت أو عارضت.
ثالثا، الأصوات الروائية، لم تأخذ الأصوات الروائية حقها في التعبير عن هويتها بالتساوي، فكل ما خصص من مساحات سردية لسهير ووالدها كان لصيقا بتصرفاتها لا بنظرتهما للحياة، وهو موضع إرباك جاء نتيجة جنوح الكاتبة نحو التكثيف والإيجاز تجاه هذين الصوتين.. وما تخصيص الفصل الرابح لجميلة وضميرها المتكلم إلا دليل على رغبتها المضمرة في خلق مونولوج صاخب يعمم الرفض والأحادية بدلاً من الجدلية وآية على ذلك النهاية الدراماتيكية للوالد في مكان مغلق هو المصعد المنتمي إلى فضاء مكاني مغلق هو البيت، الذي فتح الكثير من نقاط الإفصاح عن عقد تفكك ولا تجمع الشخصيات لا بموضع صدام ولا بموضع وفاق… ما حث الكاتبة على الاسترسال بلا مساواتها تجاه هذه الأصوات، ما جعل الطرح أقرب إلى العبثي الساخر.. تشكل رواية نسرين النقوزي صرخة فريدة نحو الخجل الإنساني، وشرارة تعيد لنا الحق في النظر نحو المجتمع وكيفية تشكله على أنقاض العقد والبحث عن التفرد.. ورغم كل ما تطلعت إلى تحقيقه الكاتبة إلا أنها فتحت مجددا المجال أمام حفر في الذات وملامحها المتأرجحة بين الهدم والبناء.
كاتب لبناني