رواية التاريخ والجوائز

شاهدت في الأسبوع الماضي على قناة “دي دبليو” الألمانية الرائعة، تقريرا عن الروايات المرشحة لجائزة الكتاب الألماني هذا العام، وهي جائزة كما هو واضح من اسمها، تمنح للكتاب باللغة الألمانية، ولا أدري إن كانت خاصة بالألمان فقط، أم تشمل كل من كتب بتلك اللغة.
يتحدث التقرير عن موضوع كل كتاب، مع سيرة مختصرة لمؤلفه، وأيضا حديث قصير للمؤلف عن مصدر إلهام الرواية، وكيف كتبت، مما عددته توثيقا جيدا للأدب، وجذبا للقراء كي يدخلوا فيه.
الذي انتبهت إليه في ذلك التقرير الجاذب، هو أن الروايات كلها تقريبا، تاريخية، إما تتناول فترة النازية، أو فترة الشيوعية، مع الربط بالاتحاد السوفييتي السابق، أو فترة ما بعدة سقوط جدار برلين. وهي فترة قريبة نوعا ما، لكنها أيضا دخلت في التوثيق التاريخي، ما دامت فترة تجاوزتها ألمانيا، وتجاوزت سنوات أخرى بعدها.
لقد كانت الغلبة للدخول في قوائم الجائزة إذن لذلك النوع من الروايات، ومؤكد كانت ثمة روايات معاصرة، منجزة وجميلة، لكنها لم تحظ بنصيب التنافس في القائمة الأخيرة للجائزة. وحقيقة لا أعرف ما هو مزاج القراء الألمان بالضبط لكن من الواضح أن محكمي الجوائز يحبون التاريخ هناك، وكذا الكتاب الذين قطعا يكتبون ليقرأهم الناس، وهذا هو الشيء الطبيعي، وبالتالي تأتي الروايات سنويا وعين الكاتب على القراء الذين سيستقبلون كتابه.
في بريطانيا وأمريكا، تجد أيضا روايات كثيرة تاريخية تصدر كل عام، ولو راجعنا قوائم جائزة “مان بوكر” العريقة سنجد الروايات التاريخية التي فازت بها عديدة والتي دخلت في القوائم القصيرة، كثيرة أيضا. وتجد كل الفترات التاريخية لبريطانيا موجودة، وحتى الفترات التي تقترب من الوقت الحالي. ولأن “مان بوكر” لا تقتصر على البريطانيين فقط، وتمتد لتشمل كل من كتب بالإنكليزية، سنجد تاريخا روائيا من أمريكا وكندا وأستراليا، صيغ في روايات حصلت على الجائزة، أو كادت. سنجد حروبا قديمة وقصص حب قديمة عولجت بعصرية، وأشياء أخرى ربما كانت ستدفن في الماضي لولا أن اقتلعها الروائيون وجاءوا بها.
أيضا لنلق نظرة على الروايات التي تأهلت لجائزة البوكر العربية، على سبيل المثال، طوال سنواتها العشر التي قضتها منذ أن استحدثت لدينا، سنجد أن التاريخ موجود أيضا، التاريخ الموثق بالأدلة والبراهين، وذلك الذي ربما يتخيله الكاتب، ويرصده كأنه تاريخ حقيقي.
فمنذ رواية بهاء طاهر “واحة الغروب” التي فازت في الدورة الأولى، ثم رواية “عزازيل” ليوسف زيدان، التي فازت بعد دورتين ربما، ومرورا بالسنوات التالية، حتى رواية محمد حسن علوان “موت صغير”، لا بد من تاريخ. روايتا زيدان وبهاء طاهر عن تاريخ متخيل كما يستطيع القارئ أن يفهم، وحتى لو جاء ذكر وقائع حدثت بالفعل في زمن ما، فإنه مجرد ذكر، والواقعة لا تمثل محورا. كذلك ذكر الشخصيات، مثل عالمة الرياضيات هيبتا، ومقتلها، في رواية “عزازيل” فقد كان ذلك إيهاما أن الراهب كان حقيقيا، وشهد ذلك القتل العنيف للعالمة، على يد رهبان متطرفين. بينما استفادت “موت صغير” من سيرة ابن عربي، وكتبت في شكل سيرة موازية، لكنها تأخذ من السيرة الحقيقية بلا شك.
وقد قلت مرة إن تخيل التاريخ أمر سهل للغاية، وإنشاء تاريخ يشبه التاريخ، لن يبدو مستحيلا بالنسبة لكتاب الرواية المحترفين، بعكس إسناد العمل إلى شخصية موجودة سلفا، وتعرف بمواقفها، وحياتها كاملة. هنا تكمن الصعوبة، حيث أن الكاتب لا يستطيع تغيير المصير، ولا يستطيع إضافة أحداث لم تحدث، مثلا لن يستطيع إضافة موقعة جديدة لسيرة نابليون الحربية الموثقة، ولا يستطيع حتى إضافة سفينة حربية أو جمل في قافلة محملة بالعتاد غزت بلدا ذات يوم. وهناك كتاب يستطيعون فعل شيء آخر في هذا الصدد، وهو إضافة مشاعر إنسانية، أو جوانب شخصية غير مذكورة عن ملك أو قائد ما، وهنا لن يستطيع قراء التاريخ محاسبتهم، لأن التاريخ لم يقل شيئا في تلك الأمور. وأصلا الجوانب الشخصية والإنسانية للناس، تبدو عند التدوين، أمورا تافهة لا تستحق الذكر، إلا إن كان الأمر فضائحيا، مثل قصة غرام بين حاكم، وواحدة من الرعية.
لكن ما هي الموضوعات التي تتناولها الرواية التاريخية عادة؟ أي أن التاريخ مساحة ممتدة في كل مكان، على ماذا تركز الكتابة الروائية؟
من خلال قراءاتي، تبدو لي الحروب من أهم مواد الكتابة التاريخية، ولن نسأل لماذا الحروب بالذات، لأن الأمر يبدو واضحا: الحرب تقدم مواد مشبعة للكتابة برغم ما تسببه من ضرر، كل المآسي الممكنة تحدث في الحرب، ومن جراء الحرب: الجوع، الفقر، التشرد، الاستغلال المادي والجنسي، انعدام الأمن، الموت المباغت للأحباب، كل ما هو مزعج، وحقير، ولا إنساني. وللأسف الشديد فإن الكتابة في معظمها لا تحب الحدائق المزهرة، والشوارع النظيفة، والبيوت المضمخة بالعطر بقدر ما تحب المأساة، لذلك أي كاتب يود كتابة تاريخ أمته سيفكر في ما جرى من حروب وسيستوحى من تلك الحروب.
أيضا الديكتاتوريات العسكرية، وحتى الديكتاتوريات المدنية المسنودة بالعسكر، تبدو مواد خام، يمكن الاستفادة منها في كتابة النص التاريخي، فهنا يوجد الجوع والقهر والتشرد أيضا، إضافة إلى شيء آخر: تلك الفنتازيا التي تصاحب حكم الديكتاتوريين، ذلك الضحك المبكي، الذي يعطي للنص طعما آخر. الديكتاتور بما يملكه من خصام مع نفسه أولا، ومع المحكومين ثانيا، ومع العالم كله ثالثا، يمكنه أن يلغي التفكير والابتكار فجأة، ويمكنه أن يحول مستشفى حكوميا نشطا يقدم خدمات جليلة للمرضى، إلى سجن. وعندنا في زمن ما، ألغى النميري تناول اللحوم مرتين في الأسبوع، وألغى الفرق الرياضية بحيث لم تعد هناك كرة قدم بمعناها الصحيح. كما أننا نستطيع استخلاص الكثير من سيرة روبرت موغابي، رئيس زيمبابوي العجوز الذي أبى مفارقة السلطة إلا بعد جهد كبير ليتمّ خلعه، وأي رواية تاريخية تكتب مستقبلا عن زيمباوبوي، قطعا سيدخل فيها.
٭ كاتب سوداني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية