ليس شرطاً في الحقيقة أن يكون قارئ رواية “سلالم ترولار”، مطلعاً على مسخ كافكا، وشيطان بولغاكوف، وثقوب ميخائيل إنده السوداء، أو على آلهة جيمي ويس، لكي يعيش متعةَ التلاقح الخلاق الذي نسجه الروائي سمير قسيمي بساطَ ريحٍ موشّى بالعديد من الأعمال الروائية والسينمائية والفنية العالمية الفريدة، وخاصاً به في النهاية كعمل إبداعي متميز. فرواية قسيمي تطير بقارئها على رياح السخرية العميقة إلى عوالم فانتازية بالغة المتعة، يمكنه أن يرى فيها واقع الجزائر الموازي إن كان جزائرياً، وواقعه إن كان من دولة يحكمها نظام شمولي، وواقعَ الإنسان على الكرة الأرضية الآن إن كان ابن دولة ديمقراطية تجاوزت مدارسُها مصانع الدول الشمولية في مسخ البشر. وقد يصاب قارئ الرواية على الأغلب بمفاجأة رؤية نفسه ومَن حوله على الصورة التي تفاجئ بها الرواية قارئها في نهايتها.
في نسيج قسيمي الفانتازي السؤال الآخر المشوق بخلق الارتباطات المدهشة، وتصوير القبح النفسي للذات الممسوخة، يمكن للقارئ المطلع، ولا شرط أن يكون الكاتب قاصداً ذلك أو مطلعاً على رواية “المعلم ومارغريتا”، أن يستعيد متعة عيش لوثة العبث الجماعية التي أحدثها شيطان ميخائيل بولغاكوف بتنويم أهالي موسكو بالسحر الأسود، من خلال ما يُحْدِثه قسيمي بأهالي الجزائر الذين استفاقوا، حكومةً وشعباً، على اختفاء جميع ما يسمى أبواباً ونوافذ من جميع البيوت والعمارات ومن كل ما يفصل الداخل عن الخارج، بما في ذلك غرف أرشيف المخابرات، وأبواب السجون والسيارات، وأغشية بكارة الفتيات كذلك بما هي فاصل للداخل عن الخارج.
وفي هذا العراء المرعب الذي يرمز لما أحدثه الحراك الشعبي العارم في الجزائر عام 2019، ينثر قسيمي أحشاء ما تكوّن من مسخٍ سمي المدينة الدولة “الجزائر” بعد الاستقلال، تحت حكم من أخذوا مكانتهم كآلهة وأنصافَ آلهةٍ بفعل ادعاء الشرعية الثورية التي أنتجتها الثورة الجزائرية، وحكموا البشر وحولوهم إلى مسوخٍ تتوهم أنها الأفضل، باستنساخ تجربة الاتحاد السوفييتي في نسخ البشر كصور متماثلة، والتي لا تغيب عن الرواية سواء بشكل مستترٍ فيما فعله بولغاكوف بتصوير سرنمة البشر، أو بشكل جَلي في الشخصية التي لم يخترْ قسيمي تسميتها عبثاً بالاسم الروسي “أولغا”، كمسخ وُلِد سِفاحاً من تلاقح أنصاف الآلهة هؤلاء مع الشعب بعلاقة غير شرعية.
في نثار هذا المسخ المكشوف بلا أبواب ولا نوافذ، يصور قسيمي القبح الذي تكون من خلال التصوير الكاريكاتيري العاري للشخصيات وتحولاتها وفق تحول اللحظة التاريخية التي تمر بها الجزائر، مثل شخصية جمال حميدي، نقيب البوابين السمين المشعر كقرد، والعنّين الجاهل الذي كان يعمل بواباً على باب وزارة الثقافة، وزوج أولغا التي هجرته بسبب عنته، مسخ التلاقح السفاحي، المقعد الذي يحوّله “الرجل الضئيل” جدّ أولغا في الحقيقة، صانع الآلهة (وربما كان الجنرال المرعب الذي لا يعرف الجزائريون صورة له، رئيس المخابرات محمد مدين) الذي صنع الإله الزومبي (بوتفليقة بصورة واضحة)، ويستبدله عند استحالة استمرار الأوضاع معه، بنقيب البوابين الذي إذا وقع عن كرسيه المتحرك وانقلب أمامه على ظهره لا يستطيع القيام كما السلحفاة إلا بمساعدته، كصورةٍ جديدة للحاكم، بعد عراء الأبواب أو الحراك الشعبي، يرى فيها الشعب نفسه فيرتاح لصورة انخداعه بنفسه.
ومع تصويره تفاصيل القبح الذي تكون في الدولة المسخ، لا ينسى قسيمي عامل الدين في تسهيل مسخ البشر واستخدامه كعملة ذهبية انتهت في جيب “الرجل الضئيل” صانع الآلهة، ولا ينسى إدخال هذا العامل بصورة مبتكرة تناسب وضع الجزائر الديني، بالعودة إلى جذور العرافة وابتكار الآلهة والمسيحين والأولياء، بابتكار عثور “إيلاغين” المعروف بمقامه في الجزائر على العملة الذهبية بيد جثة شخص متوج بالشوك، واعتبرت وقتها من الآلهة؛ كما فعل بولغاكوف في مقابلة المسيح وبيلاطس في “المعلم ومارغريتا”، بما يخص الاتحاد السوفييتي، وكما فعل جيمي ويس في فيلمه الساخر “يجب أن تكون الآلهة مجنونة!”، مع أهالي القبيلة البدائية الأفريقية الذين سقطت قرب رأس أحدهم زجاجة كوكا كولا، وحيرتهم في شكلها الذي لم يروا مثله من قبل، فاعتبروها هدية من الآلهة، ترسم حياتهم وطقوس وجودهم ومصائرهم:
“كان صوته وهو يأمرهم بذلك خافتاً إلى درجة أنهم توجسوا خشيةً مما سيقوله لاحقاً، لكنه لم يُضف شيئاً برر مخاوفهم تلك. كل ما قاله إن السماء كرمتهم بأن أرسلت إليهم أول وعاء تقمصته في الأرض، والذي نقش وجهه على القطعة النقدية، وأنه حين تجيء ساعةٌ وصفها بكلام مبهمٍ محشو بكلمات غير موجودة في لغتهم، ستنفخ السماء روحَها في جثة الملك المتوج بالشوك، ليحكم الأرض كما حكمت روحُه السماء”… ” والحق أنه لم يكذب قط، ومع ذلك لم يقل يوماً شيئاً صادقاً، كما أنه لم يدع كذباً أن بمقدوره سماع كلمات السماء، لأنه كان بالفعل يسمع أصواتاً في كل حينٍ جعلتْه يؤمن أنه مختلف عن غيره. وقد كان كذلك بالفعل لسبب غاية في البساطة، وهو أنه في ذلك الزمن البائد لم يكن ليفهم أحدٌ كلمة صعبة كـ “الشيزوفرينيا” وكل ما تعلق بها من أمراض التوهم التي كان والد “الخطيبة المعلقة بالرجاء” مصاباً بها، وهي أمراض جعلته يتصور أن هلوسات مخه المريض ملائكةٌ وشياطين، وأن ما يسمع من أصوات يحلبها الوهم من ضرع الهوس هي أوامر المشيئة التي لا راد لها”.
كما لا ينسى قسيمي في تصويره تفاصيل القبح، ما تكرس من عقد المجتمع الذكوري، في العقليات التي تَعتبر أن كل امرأة اختارت أن لا تتزوج أو طلقت لسبب أو لآخر، مجرد عاهرةٍ لا تستحق الاحترام: “وكان مبعث هذا الاعتقاد ما تراكم من كبت جنسي، عمدت إلى غرسه الآلهة الجديدة في أرواح “المواطنين بلا رأس”، حتى نجحت في خلق مجتمع ذكوري يعد المرأة مجرد فرج ومتعة سرير لا غير، وحين يمنحها مكانة ما فلا تكون إلا زوجةً أو أختاً أو أما”.
في إبداع هذا العراء، ينسج قسيمي تشابك بنية روايته مع الكتابة الإبداعية نفسها، ويُدخل كاتبَ روايته الذي هو، كشخصيةٍ فيها يسردُها “الراوي العليم” بصيغة فعل الماضي، مع فلسفة حركة الشخصيات التي تجلب للذهن متعة تذوق سرد ميلان كونديرا. ويحافظ قسيمي في جميع فصول البنية السبعة على طبيعة هذا السرد، لكن بتداخلٍ مبدع لعوالم تأثر الكاتب بالصورة غير المنظورة التي تعطله عن الكتابة (وتبدو كما لو أنها عطالة البلد نفسها التي تعطل الإبداع)، مع اختفاء الأبواب الذي يعيد الكاتبَ إلى الكتابة وإلى اسمه الحقيقي الذي تخلى عنه لكاتب مزيف، بابتكار فعل ظهور رسالته التي أرسلها من مرسيليا إلى زوجته، بعد خمس سنوات من إخفاء المخابرات لها في أرشيفها الذي انكشف، وانكشفت معه أبعاد لعبة صناعة الآلهة والجرائم المرافقة لها فيما حدث من مآلات العراء.
وكما لو ان الظلمة التي تزحف لابتلاع عالم الخيال كما ثقوب سوداء، تتوقف باكتشاف سيباستيان، بطل “القصة التي لا تنتهي” اسم الامبراطورة الطفولية: “سيدة الأقمار”؛ يبدأ قسيمي بكسوة العراء، وإظهار الأبواب مع تقدمه في كتابة الرواية التي يسم يها باسم سلالم الحي الشعبي السبع، “سلالم ترولار” مع وضع اسمه عليها، ولكن يا للأسف، ويا لقسوة الإبداع على أمل القراء، وعلى أمل الجزائريين الذين يشهدون حراكهم يختفي بظهور الآلهة الجديدة التي غيرت صورتها من آلهة الشرعية الثورية إلى آلهة مسخهم؛ فالأبواب والنوافذ التي اختفت بفعل حراكٍ تَحرك كما طوفانٍ، تعود لتتحول إلى مرايا يكتشف الكاتب نفسه فيها كما لو كان في لوحة لأنتون سيمونوف: نسخةً عن الآخرين الذين يتكررون جميعاً في صورة عبد: “لم تنطق وقتما أصر على سؤالها من قبل، وما كانت لتفعل، فقط لأنها كانت صورته وصورة كل واحد من المدينة الدولة، فكما تنأى البديهية عن كل إثبات، لم يكن هو أو أي أحد من المدينة الدولة ليسأل عن حقيقةٍ كانوا مقتنعين في أعماقهم بها، وهي أنهم عبيد في دولةٍ تمتهن النخاسة”.
سمير قسيمي روائي جزائري ولد عام 1974 بالجزائر العاصمة. يحمل شهادة الليسانس في الحقوق. صدرت له تسع روايات، تُرجمت إلى الفرنسية، منها “تصريح بضياع” (2009) وهي أول رواية جزائرية تتحدث عن السجن في الجزائر، وعنها فاز بجائزة هاشمي سعيداني للرواية، و”يوم رائع للموت” (2009)، التي بلغت القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2010، و”هلابيل” (2010)، و”في عشق امرأة عاقر” (2011) التي اختارت مجلة بانيبال الإنجليزية فصولاً منها لتنشرها مترجمة إلى الإنجليزية، و”الحالم” (2012)، و”حب في خريف مائل” (2014). وهذه الرواية التي وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر” لعام 2020.
سمير قسيمي: “سلالم ترولار“
منشورات البرزخ، الجزائر، والمتوسط، ميلانو 2019
168 صفحة.