حوار الأنساق الثقافية
ترتبط الرواية منذ نشأتها برهان كبير، هو التعبير عن قضايا مختلفة تختلف بزمن حدوثها، ولا شك في أن هذا الجنس الأدبي، يمكنه أن يسع التجربة الإنسانية بمختلف مظاهرها، لأنه يترجم الأحاسيس والمشاعر في قالب فني، يزواج بين التخيل والحقيقة. ويمنح الحرية الكاملة للكاتب لعرض أفكاره وآرائه، ولا تخرج رواية «الراقصات لا يدخلن الجنة» للكاتبة والباحثة في علم النفس حنان درقاوي، عن هذه القاعدة، إذ تحوي الرواية الكثير من القضايا والأحداث، التي عبرت عنها الساردة بواقعية وجرأة صمتت عنها المؤسسات الدينية والثقافية، وبأسلوب فني متنوع، يعتمد الاستطراد والاسترجاع والاستذكار.
من هنا تتطلب الرواية قدرات خاصة، تستطيع نقل الواقعي إلى الجمالي، بما يعنيه من قدرات تخييلية، وربما كانت معاناتها تكمن في ذلك القلق بين مصداقية الواقع وجمالية تحويله إلى فن، شخصياته ما هو مؤثر ودرامي (ماجدة حمود، إشكالية الأنا والآخر، سلسلة عالم المعرفة).
تقدم الرواية خطابها عبر مستويين: مستوى قراءة الأنساق الثقافية في تداخلاتها بين الشرق والغرب، والثاني مستوى جمالي يخضع لمقتضيات الحبكة النصية. عبر المستوى الأول تتناسل مجموعة من القضايا في شكل أسئلة أو إشكالات معرفية، تؤرق الكاتبة من خلال انسيابية السرد ومن أهمها: ما هو معيار الجمال؟ كيف ينظر الشرق إليه وكيف يتصوره الرجل الغربي؟ هل يرتبط الجنس بضوابط ومواثيق؟ أم أنه خاضع لعلاقة رضائية؟ لماذا يفتخر الرجل العربي بجنسانيته؟ لماذا يتم تصوير العربي بأنه شبقي وحيواني في فعله الجنسي؟ لماذا يندفع الرجل العربي وراء سراب ما يسمى بالجهاد؟ ثم لماذا يتم تحريف النصوص الدينية؟ كيف يعمل الغرب على تهميش العرب والافارقة؟ كيف تصبح باريس وليمة متنقلة كما وصفها أرنست همنغواي؟ كيف يتخلص المجتمع العربي من جهله المركب؟ وعبر المستوى الثاني عملت الساردة على تحليل هذه الأنساق الثقافية، معتمدة حبكة تستحضر مفاهيم الواقعية، ورؤى الحداثة، ومنهجية التحليل النفسي والاجتماعي للشخصيات، ورغم أنها حبكة لا تحترم التسلسل الزمني لأحداثها تماما، حيث يعزى هذا الفرق بين زمني الحكاية والخطاب إلى الإكراه اللغوي الذي لا يسمح بنقل المتزامن من الأحداث في الآن نفسه (محمد نجيب العمامي، الذاتية في الخطاب السردي)، إلا أنها راهنت على عدم إرباك القارئ وهو ينتقل بين الأحداث، ما جعل منها رواية «وظائفية» هاجسها الأساس هو «الحكاية» أي ما يقال، وليس كيفية القول (خليفة غيلوفي، الرواية العربية من تأسيس الهوية إلى رهانات الحداثة، مجلة عالم الفكر).
وظيفة السرد في الرواية: من موت المؤلف إلى موت البطل
ارتباطا بوظيفة السرد ومسؤوليته في نقل الواقعي عبر الجمالي، نطرح سؤالا مهما وشائعا تتداوله السرديات، من المتكلم في النص؟ (Bernard Valette, Esthétique Du Roman Moderne) لقد توارت الساردة خلف عملها ودفعت بشخصياتها للتحدث على لسانها، انسجاما مع الوظيفة الأيديولوجية كما يسميها جيرار جنيت، والوظيفة المرجعية باعتبارها إحدى وظائف اللغة، التي ننقل بها المعلومات بموضوعية، يمكننا استخدامها للإبلاغ عن الأشياء، أو الأشخاص من حولنا، والوقائع التي حدثت، أو التي ستحدث. ورغم أنه ولفترة طويلة لم يتم تمييز شخصية الرواية عن الفرد الذي يعيش بالفعل في الواقع اليومي، هل يمكن لنا اعتبار الشخصية حقيقة نفسية ينتقد نموذجه الواقعي؟ لا يمكن لنا إلا أن نؤكد ذلك لأن أي عمل أدبي أو فني يختزل تصور صاحبه، وبالتالي فهو ذاكرته.
تؤسس الرواية لخطاب ثقافي ينتفض ضد مفاهيم الرجعية، وقيم المجتمعات العربية، كما أنه خطاب منصهر في جذور الحداثة الغربية، لا يعلن ذاته وهويته الإنسانية التي ترفض العالم المادي مقابل العالم الروحي، هذه الجدلية بين المادة والروح حضرت في الرواية بشكل مكثف عند البطلات الثلاث، وتم تغليب الجانب المادي في النفس البشرية، بدون أن يكون هناك توازن بينهما. وقد حدث هذا الأمر كثيرا مع شخصية «فاديا» هذه الفتاة الحالمة والساذجة، لكنها جميلة وأنيقة، تراكم ألما مريرا منذ طفولتها أثناء تحرش والدها بجسدها الصغير، كما تعيش مأساة أسرية في حي هامشي من ضواحي باريس، وصراعا نفسيا بين «الدنس والطهارة»، الذي تجلى في احتقار مهنة الرقص، والدعارة الراقية، والتطلع إلى عالم روحاني لأن «الراقصات لا يدخلن الجنة»، لكن هذا الصوت المناهض للمادة وتغولها ستخرسه الساردة، وستحكم عليه بنهاية درامية، وبموت فظيع، وكأن اسم «فاديا» لم يكن اعتباطيا ففدت نفسها لمناجاتها، وأحلامها، وصراعها الأخلاقي. كما أن السرد يتجه إلى رفض كل محاولة تقوض مرجعيته الفكرية، لأنه يؤمن بالتحرر المنفلت من مدونة الأخلاق، ومن كل مؤسسة ثقافية أو اجتماعية، «ستتعبين إن فكرت بالأخلاق»، «أنا لدي حساسية من الزواج وأعتبره مؤسسة فاشلة لا تتأسس إلا على تضييق الخناق على وجود النساء»، «ستنفجرين ذات يوم، أنت كائن متناقض وتناقضاتك هذه ستقودك إلى الهاوية». وفعلا وفت الحبكة السردية لشروط صياغتها، وتحققت وظيفة السرد الأيديولوجية فـ«الصراع الذي كانت تعيشه فاديا لم يكن محتملا، كان من المتوقع أن تنتحر أو تموت.. عاشت بائسة وماتت بائسة».
هذه الجدلية بين المادة والروح حضرت في الرواية بشكل مكثف عند البطلات الثلاث، وتم تغليب الجانب المادي في النفس البشرية، بدون أن يكون هناك توازن بينهما.
وهكذا يمكن القول إن موت «فاديا» في الرواية يستدعي ويستحضر مفهوم «موت المؤلف» عند البنيويين، أي ترك مساحة من التأويل والتفسير للقارئ من داخل النص، وإن موت البطل يترك لنا المساحة نفسها للتعامل مع النص من الداخل إلى الخارج حسب رولان بارت. لأن «النص السردي يقدم أحيانا إشارات بالغة التشويق، كما لو أن الخطاب يبطئ خطاه، وقد يتوقف نهائيا، كما لو أن المؤلف يريد أن يقول: «عليك أن تستمر» (أمبرتو إيكو، نزهات في غابة السرد).
الإسقاط المعرفي والثقافي
يرتبط مفهوم الإسقاط بأصوله النفسية والرياضية والهندسية، ويعني حمل المشاعر والرغبات الذاتية تجاه الآخر، وهي مشاعر مدفونة ومكبوتة، قد تتراوح بين الخير الشر، وقد تبلور هذا المفهوم في الرواية بشكل لافت، من خلال ثنائية الغرب والشرق، والتدين واللاتدين، والحريات الفردية والحريات المقموعة، بين التمدن والبداوة، بين الحب والكراهية، لكن لا يمكن أن نكون منتجين للنص بمعزل عن سياقاته، وهنا وقعت الرواية في إسقاط متعسف لرؤى حداثية أيديولوجية غيبت السياق في تعاملها مع التراث العربي، أو منظومة الأخلاق والمجتمع، والمؤسسات الدينية، فالسياق هو الذي يحدد طبيعة الملفوظ ودواعيه المرتبطة بالنظرية اللغوية عند سوسير، بحيث لا يمكن أن تنشأ هذه الثنائية إلا داخل نسق. كما أنه متوالية لفظية حسب، فان ديك تترابط من حيث المقامات والمعاني.
يجوز لنا بقناعة تامة أن نستحسن ونقبل دفاع الرواية عن تحرير العقل النسوي، وإسهامه في تكريس هوية الأدب النسائي، ونضاله من أجل تحقيق ذاته، كما بدا عند شخصية «سارة» هذه المرأة القوية في الرواية، لكنه دفاع تورط في اقتحام الهامشي من الكتابة، بشكل تعسفي، حيث وظفت الجنس واللغة الموازية له بجرأة وواقعية، تمتح من المعجم الشعبي المغربي، يمكن أن نبرر هذا التوجه السردي للأديب محمد شكري، نظرا لجنس عمله السيري، ونظرا للميثاق الذي تفرضه السيرة الذاتية، لكن في الرواية يطرح مشهد تصوير اللقاءات الجنسية المادية، واللغة الجريئة في الكثير من المقاطع السردية، مجموعة من الأسئلة: هل غايتها التشويق والإثارة والتشدق بمفاهيم الحداثة في جانبها الأيديولوجي، وليس الأبستيمولوجي، أم غايتها فنية؟ هل أعوز السردُ اللفظَ والعبارةَ لنقل أحد تجليات المجتمع المتمثلة في العلاقة الجنسية؟ هل الواقعية السردية تتمثل في البوح المطلق، وتجاوز تقاليد الكتابة؟ هل الكناية اللفظية قاصرة عن أداء دور المشهد السردي؟ إن انتقاد الأنساق الثقافية له مداخل كثيرة، وإن كانت الجنسانية أحد هده المداخل، فهناك آليات وتقنيات كثيرة قد يوظفها السرد، وليس تقديم الجسد بوصفه حمولة إيروسية فقط، لأنه إلى جانب ذلك مفهوم ثقافي ومعطى إنساني ينبغي إحاطته بشروط العناية.
وقد تمظهر هذا التوظيف المادي للجسد للسرد من خلال عنصر الغواية أو الشهوة، «إن الزبائن…يبحثون عن متعة هاربة، عن لحظة منفلتة، يدفعون فيها ليروا عري نساء جميلات يبادلنهم الإيمان بالمعادلة نفسها: الجسد مقابل المال»، «قفي لأعاينك، أزيلي المعطف من فضلك». ومن خلال مفهوم الجمال أو المصالحة عبر فن الرقص «الستريبتيز» أو «لعبة الإخفاء والتعري»: باعتباره يستدمج مهارات بدنية، ورشاقة الحركة في الذهاب والإياب، لكن سرعان ما يتحول هذا الجسد من دلالته الثقافية والجمالية إلى الإيروسية الشبقية المادية. هذا الانتقال يجرد الإنسان من روحه وجوهره وكينونته. إن الانفصام والصراع النفسي للشخصيات هو نتيجة لوجود ثنائية في حياتهم بين الدنس والطهر، والطهر هو إحساس روحي قد تعبر عنه كل الأديان، وكل الثقافات، والمرجعيات، وبهذا «تحول الجسد من قيمة إنسانية، حيث تم استبعاد شبكة متداخلة من الخلفيات التاريخية والقيم الشعورية والعقلية المتصلة بالمرأة» (سعاد الناصر، السرد النسائي العربي بين قلق السؤال وغواية الحكي).
وبالعودة إلى أهمية تحرير العقل النسوي، لا بد من الإشارة إلى أن الرواية تقدم لنا صوتا سرديا آخر تمثل في شخصية آسية، الطالبة الباحثة التي تهيئ أطروحة الدكتوراه إلا أنه صوت خافت، لم يقم بدوره العلمي النقدي الأكاديمي، وتم توظيفه لتمرير خطاب راديكالي ينتقد الوضع السياسي العربي، وخطاب تحرري يؤمن بالحريات الفردية الجنسية، ولم يتم استغلاله في معالجة إشكالات المرأة ضمن مجتمع الذكورة، «توقفت عن قراءة القرآن… بدون تعمق في النصوص». «توقفت عن التفكير.. تناولت هاتفها واتصلت بريتشارد». عبر مثل هذه الوقفات أو التوقفات السردية، تتحكم الساردة في مجرى الحكي، ليتم إنهاء الموقف، حيث إلغاء دور العقل مع تضخيم في الهوية الجسدية.
لقد رسمت الرواية عوالم قلقة فبدت الشخصيات متشظية ومتهافتة، تؤمن بالتحرر ولا تجده، وإن وجدته بدا غريبا ومتصلا بمصالح مادية، وبصراع نفسي يفسد متعة السعادة الآنية. يقول إيمانويل كانط «والواقع أننا نجد أنه كلما انصرف العقل المستنير إلى تحصيل المتعة في الحياة والسعادة، ابتَعَد الإنسان عن الرضا الحقيقي» (إيمانويل كانط، ميتافيزيقا الأخلاق).
شكلت الروية حوارا وسجالا عنيفا مع المورث الثقافي والديني، ومع المخيلة الذكورية العربية، كما غاصت في مساءلة ثقافة الغرب في موضوع العدالة الاجتماعية والفوارق الطبقية، معتبرة أن الإنسان في جوهره يخلق لنفسه حرية وسعادة، بالبحث عن الأسباب، وإن استدعى الأمر إنكار دور المجتمع والمؤسسات الدينية والاجتماعية، المهم هو الاقتناع والرضا عن النفس، «نحن لسنا معالجات نفسيات، نحن نمنح اللذة ونأخذ الفلوس». الرواية في جوهرها تدافع عن حق الإنسان كي لا يفقد إنسانيته في مجتمعات متناقضة، لكنه دفاع لم يستحضر سياق الواقعة، ولم يبحث في عمق النسق الثقافي العربي، واكتفى بظاهر النصوص، ولم يتعمق بالبحث فيها، واحتفى بالجسد على حساب العقل، فتحقق الإسقاط المعرفي.
٭ باحث من المغرب