لا يتوقّف السوريون عن ابتكار الحلول، في أعقد وأحلك تشابكات أوضاعهم؛ تحت القنص في المظاهرات كما في تآمر الدول على إجهاض مظاهراتهم، في دوران التوابيت والمقابر الجماعية كما في أقبية تعذيبهم ومستشفيات قتلهم، في أعماق بحار غرقهم كما في منافي تشرّدهم، وفي التسجيل التوثيقي لمآسيهم كما في التحليق بهذا التوثيق إلى فضاء الرواية المتألقة.
رواية السوري عبد الناصر العايد «تنسيقية بولييه» لا تخشى فخاخ التوثيق التي تُسقط الروايات عادةً إن لم تحلق بأجنحة الفن فوق الفخاخ، بقدر ما تواجهها باللعب بين فكيها، لتتقدم بجرأة، في ظل مآسٍ وصراعاتٍ معقدةٍ غير مسبوقة في التاريخ الإنساني، وما تزال مفتوحةً على المجهول.
من أول فكرة لتكوينها، يواجه العايد مسائل تداخل الأزمنة والأمكنة: بين زمن المنفى في باريس بعد سبع سنوات من الثورة السورية، وأزمان الثورة خلال هذه السنوات. بين أمكنة المنفى الموزعة في أماكن حركة الأبطال، من مقهى بولييه في باريس، إلى شقق وبحيرة ضاحيتها الجميلة أنغان ليبان، إلى الشانزيليزيه بعرض الرابع عشر من تموز، وبين أمكنة صراعات الثورة السورية مع نظام بشار الأسد وداعميه الروس والإيرانيين في المدن والقرى السورية الثائرة.
كما يواجه العايد بتعقيد أكثر مسائلَ تفاعل الشخصيات والأحداث ضمن التداخل المعقد هذا لأزمنة وأمكنة روايته.
ومن أول فكرة لتكوينها، يواجه العايد تحدّياً استثنائياً لإيجاد حلول تعقيدات هذا التداخل، مع إيجاد تبريرات إدخالات التوثيق ووضعها في بنية متماسكةٍ لا تكون فيها أعمدةً هشّة لانهيار الرواية. لكنه يخطو في ذلك خطوةً تصل إلى القفزة في إنتاج رواية ناجحة تجيد تحريك تداخل الأزمنة والأمكنة والشخصيات والأحداث، وتداخل الواقع والخيال، على الصورة المدهشة التي خرجت بها الرواية.
في حلوله المبتكرة للتعقيد، يلجأ العايد إلى البساطة غير البسيطة في الواقع، فيقيم جسر تداخلات الرواية، بإنشاء أحد أبطالها الذي يمثل كاتباً روائياً يعيش لاجئاً سياسياً في باريس، تنسيقيةً تتألف من تسع شخصيات كانت ناشطة في الثورة السورية، تعيش معه حالة الانشداد بين المنفى والوطن، وتلتقي في مقهى بولييه، بتحديد مكانه الواقعي في باريس الخامسة، أفينيو دو لا أوبزرفاتوار، رقم 22. باختيار أفرادها من معظم تكوينات المجتمع السوري الدينية والطائفية وفق نفس ميزانها الواقعي السوري تقريباً. ويختار العايد بذكاء زمن روايته، ملتقطاً لحظةً زمنية تلتقي فيها كبؤرة صاهرة جميع أطراف تداخلها، هي لحظة صيف عام 2018 بدءاً من 10 حزيران (يونيو) تاريخ الاجتماع التأسيسي الأول للتنسيقية، إلى 14 تموز (يوليو)، زمن الاحتفال بسقوط الباستيل، واعتقال أعضاء التنسيقية. وفي هذه اللحظة الصاهرة يلتقي حدث محاولة الروس بالتواطؤ مع الأمريكان إسقاط درعا وتسليمها للنظام بعد إسقاطهم حلب، مع حدث مباريات أولمبياد كرة القدم الأخير وتلاعب الروس وخسارتهم فيه، وتقدم فرنسا للفوز بكأسه، وما يستجرّه هذا الحدث، من تجلية للأحداث والشخصيات يقودها العايد بقدرة ما يتطلبّه فن الرواية من كفاءة. ويدهش العايد قارئه بإضافة زمن إلى هذه اللحظة هو زمن كتابة الرواية الذي يأتي كفصل مستقلّ عنها وهو غير ذلك، «لأن الأمور في الحياة تحدث هكذا»، في رفع تحدّيه إلى مستوى عرض الواقع بما يفوق الخيال، وختم روايته بما يفتحها على بدايتها وعلى تصورات القارئ في إكمالها.
في حلوله المبتكرة للتعقيد، تتجلّى جسور العايد في:
ـــ كتابة محاضر اجتماعات التنسيقية بطلب من مؤسّسها فيصل، «حيث أن التسجيل هو ما سيبقى»، وبشكل يكتب فيه مسجّل المحضر تجربته نفسها في الوطن وفي المنفى، وانطباعاته وآرائه وعلاقاته بما حدث هناك وما يحدث هنا، بما يكشف عن وجهٍ من وجوه حوادث وشخصيات ومآسي الثورة السورية. في المظاهرات تحت قنص النظام وجهل الملتحين وغايات الإسلاميين المتطرّفين، بأيدٍ بيضاء تحمل الورد الجوري الأبيض والماء لجند القتل، وفي معتقلات التعذيب والجزْر والتذويب بالحرق والمقابر الجماعية، وفي المنافي التي تفتح فيها أسماك القرش في البحار والبراري فكاكها لابتلاعهم. وفي تشظّيهم بمعتقدات الأهل والطوائف في مقابر النبذ والسجون إلى فتات بشرٍ، لا يجدون حلاً لمأساة تفتتهم إلا الانتحار أو الوقوع في براثن ملاحقيهم حتى في المنافي. كما في صمودهم ومقاوماتهم المذهلة التي لم تحدث بتاريخٍ، وكما في ابتكارهم لحلول تسجيل مآسيهم بعين الفن التي تبقيها مرآةً تلاحق ضمير العالم لتآمره عليهم وخذلانه لهم.
وبتعدد تسعة وجوهٍ من وجوه ما يسجل أعضاء التنسيقية التسعة، داخل المنفى والوطن في لحظات الزمن الحاضر والماضي، وفيما يخص الذات والآخر هنا وهناك، تتجلّى بصورة مذهلة عبر هذا الجسر روايةُ حقلٍ شاسع من أرض الثورة السورية بعين الفن.
ــــ تسهيل عبور الأمكنة والأزمنة والشخصيات والأحداث على الجسور، بأسلوب تداخلها بحوارات قصيرة ومتوسطة، مع سردٍ بسيط لقصة من مكان مختلف وزمن آخر يداخله سردٌ بسيط من مكان وزمن مختلفين، من دون إحساس بالانقطاع، مع توليد التشويق بإثارة التساؤل عن الغايات. ومع اتباع أسلوب الجمل القصيرةِ الرشيقة التي تفيد التداخل ولا تولّد الرتابة، مع تقسيمٍ بنيويّ سهل للفصول الثمانية التي يكملها فصل تاسع يثير الروائي التساؤلات حوله، ويفتح التشويق على إثارة التساؤلات التي تشرك القارئ في كتابة الرواية.
ــــ إثارة تحليل التداخلات والاستمتاع بخلق المقاربات من خلال استمرار المباريات مع استمرار أحداث التآمر والقتل على الثورة السورية، وعيش زمنين بذات الوقت مع جريان تحديات الفوز، بحركة سلوك وردود أفعال مراهقي الثانوية الفرنسيين وعرض بلدهم العسكري المذهل هنا، مع دوران الحرب والقتل للمدنيين والجنود الذين يتهرّبون من تنفيذ أوامر القتل، وللأبناء الذين يتمردون على ما خطّ لهم الآباء من مصائر تقتل أفراد شعبهم هناك.
ــــ إدخال تساؤلات التشويق حول الشخصيات من خلال قصصها غير المنتهية المستمرة، وغاية كاتب الرواية من تأسيس التنسيقية، بدءاً من منح الناشطين: «مظلةً وهمية أخرى، تقينا تبكيت الضمير، فيما ننعم بالراحة، في مقاعد المتفرجين»، وفق رؤية الرائد الطيّار المنشق قيس، إلى خلق فرصة للالتقاء بلُجَين التي يحبّها، وفق مصطفى الذي يصل به هوس ذلك إلى التجّسس على فيصل، إلى ما يتكشّف ويثير الغموض بذات الوقت من تساؤلٍ فيما إذا كان غرض فيصل
تأسيس التنسيقية هو الروايةُ نفسها برواية شخصيّاتها لها. وفي هذا ينجح العايد بكتابة «الرواية داخل الرواية»، إذ يجد الحلّ الذي يُبقي على التساؤل حول الغاية، في أن يكتب فيصل روايةً خلال تسعة أيام التوقيف، يبدأها بما بدأت به رواية «تنسيقية بولييه»: « «أضاء المصباحُ الأحمرُ، فتمهّلت. أحدهم داعب القرط في أذنها اليسرى برأس سيفٍ مدبّب، فاستدارتْ وتأمّلته بمشاعر فاترة. كان ذلك هو الجنرال نيي، الذي تمدّد ظلّه إلى جانب ظلّها على بلاط الرصيف».
ـــــ نبض جسور التداخل بالحياة فيما يمرّ بالاتجاهين عبرها، من قصص ومآسي الكفاح والقتل والتعاضد والخذلان التي لا تنتهي مما نتج داخل الثورة السورية، ومن قصص الرجوع إلى التاريخ حول ترتيب الفرنسيين لسوريا على هذه الصورة، وحول حافظ الأسد الميت الحي كما زومبي وفق سيدرا التي قابلته مع والدها. ووفق ما روى صحفيٌّ عالمي حول مقابلته بالقول: «كلما نظرت في عينيه أحسست أنه ودع آخر وهم له حول الإنسانية»، بالإضافة إلى قصص القتل الطائفي التي تثير الاشمئزاز والاستنكار والرعب.
ـــــ إثارة التساؤلات على جسر العايد المعلّق حتى في تقديم الإجابات، مثل رسم وحركة شخصية «جابر» الذي أدرج الراوي/ الروائي فيصل تجربتَه في الفصل الأخير الذي ختم الرواية، وما يمكن أن تثيره تحوّلات هذه الشخصية من تساؤلات القارئ، بانتقالها من العلمانية إلى الداعشية. وربّما استحضر هذا الانتقال على يد الداعشيّ أبو المجتبى، بصورة الملهاة التي يعيها العايد كما يبدو في استيهامات داعش ما قام به خاقان المغول «قوبلاي خان»، الذي احتل الصين وأصبح امبراطورها، من تحويل الراهب الصيني الذي قاومه «مائة عين» بعد أن أعماه، في المسلسل المذهل «ماركو بولو»، عن طريق تعليق القتيل بقاتله من خلال لقاء الخيال: «أخبرني بأنه درس ملفّي جيداً، حتى قبل أن يلقوا القبض عليّ، لأنني كنت على رأس قائمة المطلوبين لتصفيتهم وإزالتهم من طريق التنظيم، وإن تُهَمي كانت: محرّض ضد المجاهدين، ومتفلسفٌ علماني! لفتت نظره العبارة الأخيرة وأدهشته، رغم أنها قد تكون مجرّد خطأ في التعبير ارتكبه عنصر جاهل في جهاز أمن التنظيم. وحين بحث بدقة، وجد أن ما يمكن أن أُتّهَم به ليس التفلسف، بل سعةُ الخيال، ولهذا قرّر أن أبقى على قيد الحياة./ ـــــ لماذا الخيال؟ سألتُه وقد غمرني ظلّه الذي صنعته شمس تشرين الثاني فأشعرني بالبرد./ ــــ لكلّ حقيقة ظلّ يسبقُها، ومن أدركَ الخيالَ سبق زمنه، وبفضل ذلك مازال الناس يتبعون الأنبياء حتى اليوم».
وفي حلوله المبتكرة للتعقيد، بخلقه تنسيقيّات التداخل في مرايا «تنسيقية بولييه»، يصنع عبد الناصر العايد روايةً متألّقة توظّف التوثيق، بعين الفن الروائيّ، جناحاً من أجنحة التحليق بالقارئ إلى فضاءات مفتوحة من المتعة والمعرفة والتساؤل.
عبد الناصر العايد: «تنسيقية بولييه»
دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمّان 2020
250 صفحة.