في مسعى للاختلاف والخروج من سطوة الحركة الدائرية والبحث عن مسار مغاير، يقدّم لنا أسيد الحوتري هذه الرواية التي كتب على غلافها الأمامي «تمهيد وتتمة روائيّة لحكاية ظريف الطول التراثيّة» وإن كانت الغاية من هذا الأمر الاستحواذ على انتباه القارئ، فقد نجح في ما رمى، وكان له ما أراد، لأننا لا نرى أعمالا تأخذ هذا الشكل من البناء المعتمد على حدث تراثي يُؤسس له وهو التمهيد، ثم يُبنى عليه وهي التتمة، وقد وضّح الكاتب هذه الرؤية في مقدّمة أفرد لها ثلاث صفحات كان الهدف منها التحضير النفسي للقارئ والاستعداد للتّلقّي. ولا نغفل هنا الإشارة إلى الإهداء: (إلى غزة) لأنّ الرواية تبدأ من مكان وزمان ما في فلسطين وتنتهي في غزة حتى لو لم ترد صراحة في النص، فكأنّه يريد أن يقول لنا إنّ التاريخ في حركة دائرية مستمرة؛ ما يحدث الآن، حدث في الماضي، وسيحدث في المستقبل.
«العاشق الذي ابتلعته الرواية» من إصدارات دار الخليج للنشر والتوزيع لعام 2024، وهي الرواية الثانية في رصيد الكاتب بعد «الكويت بغداد عمّان» التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة كتارا عن فئة الروايات المنشورة.
الشخصيات وطبقات الحكي
اعتمد السرد على حلقات تشترك في المركز وتشكّل طبقات تنتظم فوق بعضها بعضا. تبدأ الرواية بتقديم شخصيّة غريب وشخصية الأديب اللذين يلتقيان في السجن. كانت الأحداث المتعلّقة بهما بمثابة الطبقة الخارجيّة، أو القشرة التي تندرج تحتها الطبقات الأخرى، وهناك أيضا الأحداث التي تدور حول أسطورة عليان بعل وصراع الآلهة، وطبقة أخرى تتناول حكاية ظريف الطول، غير أنّ هذه المستويات السرديّة لم تكن منعزلة عن بعضها بل كان التداخل هو السمة الأكبر التي جمعتهم وربطت بينهم بخيوط ظاهرة أحيانا وخافية في أحيان أخرى. غريب الفتى الذي يشارك في انتفاضة الحجارة يدخل المستشفى ثم السجن، بعد أن يفقد ذاكرته ونبضه، ولهذا الأمر رمزيته ففقدان الذاكرة يعني الخروج من ذاكرة الوطن، التي يلتفّ حولها الجميع لما تنطوي عليها من وجدانية والشعور بالانتماء للأرض والتاريخ، وفقدان النبض يعني الموت، فالخروج من طاعة الوطن تعني الموت. ويتبيّن لاحقا أنّ غريب عميل للعدو في الانتفاضة الأولى، ويستحضر الكاتب شخصية سعيد بن أبي النحس المتشائل، في رواية إميل حبيبي المعروفة: «أما بعد، فقد اختفيت لكنني لم أمت». وسعيد العميل الذي يدّعي رؤية كائنات فضائيّة هو المقصود في العنوان (المختفي 1). ولعل ما قصده حبيبي من هذه العبارة الدّالة أنّ الخونة والمتعاونين موجودون في كل زمان وكل مكان وكذلك سيبقون. بينما كان وليد مسعود في رواية جبرا إبراهيم جبرا «البحث عن وليد مسعود» هو المقصود في العنوان (المختفي 2). وهنا يبرز سؤال الهوية بعد أن توزّع الفلسطينيون بين الأرض والشتات، وفي كل هذا إسقاط على واقع الحال. الغموض في شخصية الأديب وحالة التقمّص التي تنتابه فيها إحالة إلى الضبابية وتشوّش الرؤية وتبدّل المواقف خلال التعاطي مع قضية وطن. إذن نحن أمام عمل يطوّع الرمزية لخدمة مراميه ومقاصده، وينثر الإشارات التي تحتمل الإحالة والتّأويل هنا وهناك.
حكاية ظريف الطول
انطلقت الرواية من حكاية ظريف الطول التراثية المعروفة، التي تقاطعت في أغلب معطياتها مع الرواية، حيث كان ظريف يعمل نجارا في قرية بعيدة عن قريته وأنّه كان محط أنظار البنات لحسن خلقه وخلقه، وأنّه قاوم المستعمر البريطاني ثم اختفى ليتحول إلى رمز للمقاومة والنضال. وكانت الأهزوجة المعروفة دليلا دامغا على حضوره في الذاكرة الجمعيّة على الرغم من اختفائه:
يا زريف الطول وقف تاقولك.. رايح عالغربة وبلادك أحسن لك
خط الزمن
لعلّ الرواية الحديثة لم تعد تحتمل الخط الزمني المتسلسل لما فيه من إيقاع ممل ومكشوف نتيجة للتراتبيّة الزمنيّة، وأصبح التلاعب في خط الزمن من أدوات التشويق التي تدفع القارئ لمتابعة القراءة، فعمد الحوتري إلى تشظية التسلسل الزمني من خلال تقنية الاستباق والاسترجاع، وهذا ما نلمسه في غير موضع في الرواية، فمصير عشتار أم عليان بعل، على سبيل المثال، ظهر في عبارات استباقية تشير إلى ظروف غامضة وغير واضحة، ثم تكشّف لنا مآلها بعد حين. وعن الاسترجاع كانت الذكريات التي لجأ إليها عليان في السجن حتى لا يفقد صوابه من أكثر الأمثلة سطوعا على هذه التقنية.
عجائبيّة الحدث
لا شك أنّ العجائبيّة كانت أحد الخيارات المتاحة للكاتب للانتقال بالحدث الواقعي إلى مستوى عجائبي خاصة في ما يتعلّق بالجانب الأسطوري، على أنّ هذا الانتقال لم يكن خشنا ولا مستهجنا، فها نحن نرى غريب يتحوّل إلى طيف ليخرج من السجن، ونرى براق، فرس عليان، تخرج من الكهف في أجواء إيحائيّة، ونراها تتحدث إلى ظريف الطول، ونسمع الدجاجة وهي تخبرنا عن الذهب الذي وجدته في القن. لعل الكاتب حضّرنا لهذه الطقوس الغريبة، عندما قدّم لنا شخصيّة الأديب الغامضة القلقة غير المتزنة في بداية السرد، لنجد بعد الانتهاء من الرواية أنّ العجائبيّة كانت متطلبا وليس خيارا، غير أنّ هذا التداخل بين الواقعي والعجائبي جعلنا نقف متردّدين حائرين في بعض المواضع ولولا المخطوط القرمزي لدخلنا الشك حول شخصية الأديب ودخول غريب السجن في المقام الأوّل، إذ وجدنا غريب ينتقل بشكل مريب من المستشفى إلى السجن إلى البيت في سرد مكثف ومخاتل. وتظل هذه الحالة من عدم اليقين حتى الصفحات الأخيرة من الرواية ليتّضح أنّ كل ما حدث مع غريب مجرد أحلام وكوابيس متتالية، ولا وجود للأديب ولا للمخطوط القرمزي، ليصحو من نومه ويدوّن كل ما رآه وسمعه، ثم تأتي الصحوة الحقيقية والعودة إلى صفوف المقاومة والانتفاضة.
يظهر الجليل في غير موضع، وتظهر يافا وبرتقالها وعكا وميناؤها وجبل صافون ويظهر الريف من خلال قرى متخيّلة مثل دير إيل وصفون وبيت إيلات، بينما ظلت البيئة قريبة من واقعها الحقيقي وليس المتخيّل، من خلال إشارات مقصودة للباس مثل القمباز والحطّة والعقال، كما جاءت بعض عبارات الحوار باللهجة المحليّة وهي جزء مهم من التراث غير المادي للمنطقة، كما جاءت نمطيّة شخصية المختار مالك، وجار ظريف الطول فخري الهادي لتعبّر عن بيئة الحدث، وتعرضان نماذج لشخصيّات شائعة في القرى أيام الانتداب. كما ظهرت قصة جبينة مع خادمتها السوداء التي كانت تتعامل بالسحر والشعوذة، وهي حكاية شعبية أخرى من التراث الفلسطيني، كما هي حكاية ظريف الطول. ولا ننسى الأهازيج والتراويد المشفرة وهي ما يطلق عليه اسم (الملالاة) التي استخدمتها المرأة الفلسطينية خلال الانتداب لتحذير المقاومين من الخطر الوشيك ونقل الرسائل للمساجين.
الأسطورة
كانت المشاهد التي عرضت صراع الآلهة بين (بعل) و (يم) وبين (بعل) و(موت) وبين (بعل) والتنين (لوطان) من مشاهد الحركة، التي أضفت مسحة من الحماس على السرد، كما ظهرت مفردات مثل عالم العماء الأزرق والعالم العلوي والعالم السفلي، بالإضافة إلى الأسلحة المستخدمة خلال القتال، وبدا كأننا أمام فيلم من الخيال الغرائبي الذي يركز على الأساطير والمخلوقات الغريبة. ظريف الطول الذي قال: «أكتاف الرجال لم تخلق إلا لتعلّق عليها البنادق» وقف في وجه الظلم والاستبداد وهو امتداد لأسطورة (بعل) الكنعانية الذي ضحّى بنفسه في سبيل وطنه وشعبه.
عنات
لن تكتمل حكاية ظريف الطول ولا أسطورة عليان بعل من دون المرور على عنات حبيبة ظريف، التي تقف إلى جانبه وتشدّ من أزره وتنقذه من سجن عكا، وعنات زوجة (بعل) التي تقتل الإله (موت) لتخلّص بعلها من أسره، وهذا يشير إلى دور المرأة الفلسطينية المهم في صناعة الحياة والدفاع عن العائلة والأرض والوطن، سواء في الخيال الأسطوري والحكائي الفلسطيني أو في واقع الحال.
لعلّه من العسير الإحاطة بالرواية في قراءة واحدة لذلك كان العنوان (قراءة أولى) وربما نتحدث في قراءة لاحقة عن الكابوسيّة في الرواية وثورة (1936) ونمذجة الشخصيّات وتفاصيل الرمزية في الرواية والنصوص الموازية وغيرها من الأمور التي تستحق الحديث.
كاتب أردني