مثلما قال ذلك الشاب البدويّ العراقي لـ “ميس بيل” بعد أن سألها عن الصحراء: “أنت مرآة حياتنا، ونحن نفتخر بك”، ينصب الروائيّ العراقي شاكر نوري مرآةَ الحياة هذه، في روايته “خاتون بغداد”، عدسةً شاسعةً ومغريةً كمرايا الأساطير، ليُظهِر في تجلّياتها، جوهر الشخصيةَ العراقيةَ، بما هي نتاجُ تاريخٍ، وأحلامُ مستقبلٍ، وأتونُ انصهارٍ مع جسدِ وروح المكان؛ وليُظهِر في انعكاسات هذه المرآة مستقبلَ العراق الذي حدث ولم تستطع مخاوفها منعه، كما يُظهِر ماضي العراق الذي لا يستطيع مستقبلُه الفكاكَ منه، ، ويُجلّي بالتفاعل مع روح هذه المرأة/ المرآة التي ما تزال انعكاساتها مهيمنةً، تفاصيل حاضره.
“تبدو لي المرآة، مثل أرضٍ لا حدود لها، لمّاعةً، ومتّقدةً، ومخيفةً ومغريةً. كم واسعة النفس البشرية في استيعابها لكل هذا الفراغ الهائل الذي تولّده الصحراء! نحن نتحوّل كلّ يوم، كلّ ساعة، وكل دقيقة وكل لحظة بل وكل ثانية إلى كائن آخر لا نعرفه، نتغيّر مثل جلد الثعبان الذي لا يتعرّف على ألوانه. آخر ما قاله الشاب الصحراوي: شكراً لوجودك هنا بين أهلي وقبيلتي”.
ومع تقديره الكبير لهذه المرأة المرآة التي أحبّت العراق فأحبّها العراقيون واحترموها ووثقوا بها للدرجة التي تمنّوا أن تكون ملكتهم العراقية، لا يدعُ نوري في روايته جانباً من دون أن يحاول تغطيته، من جوانب شخصية الأسطورة الحيّة جيرترود بيل التي اعتبرها أصدقاؤها كما أعداؤها من الباحثين والمؤرخين، مؤسِّسةَ المملكة العراقية، وواضعةَ دستورها، ومنصّبةَ الملك فيصل بن الحسين عليها عام 1921، بمكانتها السكرتيرة الشرقية لمندوب الاحتلال البريطاني السامي للعراق؛ والأهمّ من ذلك، مؤسِّسةَ المتحف العراقي، والمكتبة الوطنية. ويفعل نوري ذلك امتناناً للمرأة التي “نجحتْ في تسجيل سيرة الرجال، ولم يتمكّن الرجال من تسجيل سيرتها”.
من أجل تسجيل سيرة جيرترود بيل روائياً وبوعيٍ منه أن لا يكونَ خادماً للمؤرخين، كما قدّم في استشهاده بكلام ميلان كونديرا، وبالصورة التي يطمح أن يكون الأول في تسجيلها، يوظّف نوري سردَه عنها، وسردَها عن نفسها، وعن الآخرين، في مقالاتها ورسائلها ومذكراتها وكتبها، مع مقالات الآخرين عنها، ورسائلِهم لها، ويصل به سعيُه للتكامل في تكوينِ صورتِها، إلى إدخال فيلم فرنر هيرتزوغ الذي تم إطلاقه عام 2015 تحت عنوان: “ملكة الصحراء” في روايته، وإلى التعرّض برأيه لنقص الفيلم، واختزاله السنوات العشر الأهم من سيرة جيرترود في العراق، والمغالاة في نقده للفيلم إلى خطأ القول في تصوير فتحه من قبل هيرتزوغ باجتماعٍ ضم تشرشل ولورنس ومس بيل، وهو ما لم يحدث، حيث لم تكن مس بيل حاضرةً هذا الاجتماع، وأحضر هيرتزوغ ألسنةَ السوء عنها، الممهدة لتصوير غيرة وحنق الرجال الذّكور على المرأة التي لا تخضع لمقاييس ذكورية العصر الفيكتوري.
مضموناً، يلتقط نوري لمحاتٍ عميقةً ومهمةّ في تفكير مس بيل، يرسمُ من خلالها صورةَ عصرها، بالتماهي مع سيرةِ حياتها كفتاة مغامِرة ومحبّة، مثل دمج الروح الشرقية الصوفية بماديّة الغرب، من خلال حافظ الشيرازي، وابن الرومي، وزرادشت، ومثل إدخالها لألف ليلة وليلة في أدبها، ومثل تعبيرها عن الرومانسية التي بلغت أوج تألّقها بالسعي لاكتشاف المجهول وخوض غمار الحب الفروسي في نهايات القرن التاسع عشر: “عندما يمسك بيدي، تنطلق أُبَرهُ لتنغرز في جلدي الميّت وتوقظَ حواسّي التي دخلتْ في سباتٍ عميقٍ منذ فترة المراهقة، وراحتْ تتأرجحُ ما بين التعبير والتكتّم، ما بين الكلام والصمت، وما بين الشجاعة والخجل، وكنتُ أتساءل: يا إلهي! مَن يكون هذا الرجل الذي يسعى إلى إنقاذ حياتي من الرّتابة والملل والجفاف بين الأوراق… كان نبيلاً ليس بأصله وجذوره وطبقته بل في حواسّه وسلوكه وتواضعه، لم يتوانَ عن رفع أغصان الأشجار والأشواك عن وجهي خشية أن تخدُشني، وكأنّها تخدش وجهه، وتترك تلك الذكرى جُرحاً لا يندمل، كما لو أنّه خدشٌ يصيب روحي، فهل توجد رومانسيةٌ أكثر من ذلك؟”.
إضافةً إلى تفاعلها مع التغيرات التي تحدث على مدارس الآداب والفنون، مثل فهمها للسوريالية، وإلى وصولها لأن تعرفَ مكامن القوة في كينونتها كامرأة فاعلة، تتحدّى صَلَف ذكور فائقي الشهرة مثل لورانس، وفيلبي، وتتفوّقُ على قدراتهم في الفعل والتأثير، إلى الحدّ الذي يُدخلُها قلوبَ الناس، ويدفعُ نوري لدمجها بآلهات خصب بلاد الرافدين. وفي إظهار أفكار جيرترود حول الصحراء والوجود وصنع الحياة، وبلورة طبيعة الشخصية العراقية، يستخدم نوري ثقافات عصرها وعصره، مثل أشعار العراقيين الزهاوي، الجواهري والرصافي، ومثل السويدي باتريك زوسكند في روايته “العطر”، مع مشاهير التاريخ الذين لا يقتصرون على شكسبير، إضافة إلى السينما بنجومها، وأفلامها التي أخذت مكانتها على صفحات تاريخ الفنون. والمسرح الذي يستخدم فيه نوري تقنية بيرانديللو في تنويع عدسات تصوير جوانب بطلته.
وفي استكمال صورة فهم مس بيل للشخصيّة العراقية وخشيتها عليها وعلى مستقبلها، يكرّر نوري بصورة كان من الممكن اختزالها، تحليلَ الشخصية العراقية التي تنوس بين الرقّة والعنف، الهدوء والصخب، الدّعة والهيجان، في تماثل قاهر مع نهريهم الخالديْن دجلة والفرات. ويعرض الجانب المرعب لمخاوف مس بيل من انفتاح مستقبل العراق على الدّم، بسبب تركيبته الطائفية التي تغذيها الخرافات والأساطير ويسعّرها أصحاب المصالح، وخاصة فيما يتعلق بطقس تمثيلية مقتل الحسين المسمّاة بـ “التشابيه” حيث “تتدفق الدّماء وتغمر الوجوه. يا إلهي! لم أرَ صورةَ الإسلام في ذهني هكذا أبداً. توحّش لا مثيل له إلى درجة أنّ قاتل الحسين في التشابيه، هرب واختفى من غضب الجماهير التي تتماهى مع دوره إلى درجة اعتقدوا أنه القاتل الحقيقي، الذين أصبحوا لا يفرّقون بين الواقع والخيال وأرادوا قتله في الساحة. هل خرج قاتل الحسين من على صهوة جوادٍ من الزمن الغابر؟ خشيتُ أن يأتي يوم يصبح فيه العراقُ كلّه أسود كالحاً، إذا ما استمر الناس في هذه التمثيلية الدامية، وهذه الحفلة الماجنة التي يحضرها الدم والشيطان والسحر والشعوذات والعمامات السوداء والرايات الملطخة بالدماء يا إلهي! لا أتخيّل لحظةً واحدةً ماذا سيحصل لهذا البلد لو استلم هؤلاء السلطةَ ذات يوم”.
ويعرض نوري تحقّق هذا اليوم، مع جلْب الرايات الدامية والعمائم السوداء للسيطرة على العراق فوق ظهور الدبابات الأمريكية، كما يعرضُ بمأساوية مرعبة، ما حدث من نهبٍ وتدميرٍ للمتحف الوطني العراقي الذي أسسته جيرترود، والمكتبة الوطنية التي أسستها، وسمتها لأول مرةٍ مكتبة السلام.
وفي كل ذلك لا يمكن سوى رؤية التقدير الكبير من العراقيين، كما من المؤلف لمواقف جيرترود ضد اتفاقية سايكس بيكو، ووعد بلفور الذي رأت فيه غبيّاً لا يأبه بأحد، ونصحتْ إدارتها بأنّ فلسطين ليست بلداً مناسباً لليهود.
فنياً، لبلورة صورتها، ودفْعِ سيرتها نحو التكامل، يضيف نوري، باستخدامٍ ذكي لطريقة لويجي بيرانديللو، ست شخصيات مختلفة الاتجاهات من العصر الحاضر، هي: شخصية منصور، حارس المقبرة البريطانية في بغداد؛ يونس، كاتب السيناريو؛ أبو سقراط، الفيلسوف؛ نعمان، المخرج السينمائي القادم من باريس؛ هاشم، مشغل آلة عرض سينما غرناطة؛ وفيرناندو المحقق الأممي الفنزويلي، في حريق المكتبة الوطنية. وهذه الشخصيات لا تبحث عن مؤلف، بل عن امرأة شَغَفَت كل واحدٍ منهم بالجزء الذي يخصّه من القلب، ولبلورة هذه الصورة متكاملةً بحبها وإنسانيتها وإنجازاتها ومخاوفها التي تتحقق مع الاحتلال الأمريكي للعراق، يورد نوري فصلاً متدفّقاً يختلف كلياً عن فصول الرواية القصيرة، بثمانٍ وثلاثين صفحة، من دون أية فاصلة بين الجمل، وبتداخل تتلاحق معه عيون القراءة بشغف، لجملِ سردِ الشخصيات الست، وللأزمنة والحوادث، وكأنه يلخّص الرواية لكن في كابوسية الكتابة الآلية الآسرة عن كابوس بغداد الرهيب، تحت الاحتلال الأمريكي.
من أجل لملمةِ سيرة بطلته التي اختزنت شخصية شعبه، وإبرازهما في أيام محنهما، يضع نوري بنية بسيطة تتكوّن من عشرة أجزاء بتواريخ لا تجري بسياق زمني متتالٍ، وتتناول سبعُ أجزاء منها أهمّ مراحل حياة مس بيل، دون جريانٍ زمني متوالٍ كذلك، بينما تتناول الأجزاء الثلاثة الأخرى، الزمنَ الحاضر لبغداد: سقوطُها بيد الغزو الأمريكي عام 2003، 31 تموز (يوليو) عام 2015، و30 نيسان (أبريل) عام 2016؛ ويضمّ كلُّ جزءٍ فصولاً مختلفة العدد بعناوين، فيما عدا الجزء السادس الطويل الذي وقع تحت عنوان واحد. ومن الواضح أن ذاكرة القراءة لا تستطيع الإلمام بكل هذا التعدد غير الخاضع للزمن، وربما فضّل الكثير من القراء أن يكون التنقل الزمني أبسطَ من ذلك.
“خاتون بغداد” روايةٌ هامّة شيّقة رغم بعض تداخلاتها التي تتطلب قارئاً صبوراً، وهي تقدّم للقارئ معرفةً غنيّةً متداخلةً ومتفاعلةً مع معرفته وثقافته بمختلف الاتجاهات، كما أنها رواية تثير الكثير من شغف التحاور معها حول الرواية التاريخية، وحول الرواية والتاريخ. وقد كان هذا مدرَكاً بوعي من قبل كاتبها الذي قدّم روايته بأفكارٍ لكلود ليفي شتراوس، أوسكار وايلد، ميلان كونديرا، وبطلةِ روايته مس بيل نفسها التي ستظلّ أبداً تحت مبضع تشريح المؤرخين والمحللين، ولكنْ أيضاً تحت دفء شغف وحبّ المعجبين.
شاكر نوري: “خاتون بغداد”
دار سطور للنشر والتوزيع، بغداد 2017
371 صفحة.