رواية «الغراب الأخير» وعباءة العشائرية الضيقة

حجم الخط
1

كانت حرب التحرير اللحظة الألمع، في تاريخ الجزائر الحديث، فحينها ذابت الخلافات بين الجزائريين إلا قليلها، امحت الفروقات في ما بينهم، اجتمعوا حول غرض واحد، لم يكن هناك فرق بين من يقيم شرق البلاد أو غربها، صار الجزائري أخاً للجزائري حقاً، علت روح قومية، طرأ ترابط غير مسبوق، لكن بمجرد الاستقلال عادت العجلة القديمة إلى الدوران، تبرأ الجزائري من أخيه، انحاز إلى العشيرة وشريعتها، لم يعد مجتمع أفراد ولا وطناً جامعاً، بل مجتمع عشائر ووطن مصالح، بات الانتماء إلى العشيرة أقوى من الانتماء إلى البلد، العشيرة تتيح لأفرادها المكاسب، والوطن لم يعد أكثر من كلمة مطاطية، هذا الانتقال من فكرة الوطن إلى فكرة العشيرة سيكون المحرك الذي تنبني عليه رواية «الغراب الأخير» (دار الباحث، 2020) لمبروك دريدي، يحكي فيها كيف أن الجزائري، رغم ما ناله من حريات فإنه لا يلبث أن يعود في النهاية إلى حدوده الضيقة، إلى إعلاء شأن الفردانية بدل مشاركة الجماعة، إلى الافتخار بالقرية لا بالوطن، إلى ادعاء نقاوة الدم غير مدرك أنه خرج من خليط لا نقاء فيه.

معاداة الأب

هل «الغراب الأخير» رواية عبد الحميد بن عبد الرحمن الجبايلي؟ أم هي رواية الجزائر التي انغلقت على نفسها في الخمسين سنة الماضية؟ وُلد عبد الحميد عام 1962، أي عام الاستقلال، لم يعرف أمه التي ماتت بعد شهرين من خروجه إلى النور، وكان الذكر الوحيد لوالده، بملمح لا يُشبه بقية الصبية في قريته، حتى ظن الناس أنه خرج من رحم، أو من صلب واحد من المعمرين، لكن هذا التفصيل لا يبدو مهماً كثيراً في حياته، فشغله الأول أن يتخلص من اسم عبد الحميد، ويتبنى اسم نسيم، أن يمحو ما أراده له والده، أن يكسر عصا طاعته، ألا يكون نسخة مكررة منه، لم يرتح يوماً لسلطة والده المنبعثة من سطوته العشائرية، لم يكن والده رجل سياسة ولا حكيماً، إنما كان شاطراً في حشد القبائل من حوله، في السيطرة عليهم من وازع الانتماء، من منطلق الدم، كسب ثروة ووسّع علاقات مع أصحاب النفوذ، وأراد الوالد أن يورث ابنه ذلك السلطان من بعده، لكن عبد الحميد عصا، عاش خانعاً إلى أن قارب الثلاثين من العمر، ثم هجر البلد، هجره في موسم اشتعلت فيه الجزائر بثورة لم نعرف اسماً لها، هل نسميها ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1988؟ أم تمرداً؟ أم مجرد أحداث؟ كان للشعب قاموسه في تسميتها وكانت للسلطة مفرداتها أيضاً، ولا يزال لحد الساعة خريف أكتوبر بلا اسم مشترك متفق عليه. يتذكر عبد الحميد ما حصل وقتها: «خرج شباب يجوبون شوارع العاصمة ومدن أخرى، رافعين حناجرهم بهتافات تطالب بالتغيير والإصلاحات، اصطدموا بحشود من الحرس المسلح، وغزا الدخان الغاضب جميع الشوارع، وجثم على وجه إسفلتها الساخن تحت الشمس خريف حار، كانت النار تلاعب كل ما يصله لسانها، كانت كل الشوارع ساحات كرّ وفرّ لشباب ذكور لم تحضر بينهم أنثى واحدة» كان خريف الانفلات، حين خرج الشعب من خموله ملوحاً بالغضب في وجه الحاكم، لم يعشه بطل الرواية إلى ختامه، فقد هجر إلى إسبانيا، مستفيداً مما خلفه له والده من أملاك ومال في برشلونة، كعادة كبار المسؤولين، الذين يفضلون حفظ مزاياهم في الخارج بدل الداخل، ترك عبد الحميد أو نسيم عائلته وزوجته ورضيعاً، ثم ارتبط بإسبانية وأنجب منها، قبل أن يعود إلى الجزائر بعد أن قضى ثلاثين عاماً في منفاه الاختياري، فالرواية تنطلق من تلك العودة، ثم تتفتت في الداخل باستعادة أرشيف طفولته وسنين المراهقة، في تداعي ذكرياته، من ميلاده إلى حدود 2018، يستفرد بالسرد، مثلما استفرد والده بالحكم، مع منح مساحة ضئيلة لشخصية واحد من أصدقائه.

يحيل مبروك دريدي القارئ، في روايته، إلى شذرات من تاريخ الجزائر العاصمة، إلى فهم شيء من طرائق تشكل السلطة، في تلك العلاقة الملتبسة بين الجماعة الحاكمة والعشائر، لكنه لا يلتزم أحياناً الحياد، بل يفرض رأياً، أو يصر على قول ما يراه صواباً

النظر من زاوية واحدة

لا يخبرنا المؤلف عن موقع الجبايلية، التي بسط عليها والد بطل الرواية سطوته: «سيد الجهة ووجيه الجماهير المبجل وصديق الدولة الحميم.. أكبر شيوخ وأعيان الجهة جسارة، ينفق المال بسخاء، يعطي المحتاج والجشع والطماع والمأجور، ويبطش بقبضة السلطان» وقد كان صائباً في أن ترك للقارئ حيرة اختيار مكان للجبايلية، فهم ليسوا قوماً واحداً، بل لهم أمثالهم في الجزائر بأكملها، في الجزائر كلها يوجد «جبايلية» يتكئون على العشائرية في إيصال صوت السلطة المركزية إلى القاعدة وفي كسب النفوذ وإخضاع الناس، في بيئة سادتها ولا تزال دساتير شرقية، كما ورد في الرواية، حيث المرأة لا وجود لها خارج وظائفها البيولوجية، حيث تعدد الزيجات لا حاجة منه سوى الإكثار من إنجاب الذكور لا الإناث، في ذلك الجو سوف يكبر عبد الحميد أو نسيم، كارهاً للسلطة أو الدولة، لكنه متواطئ معها، يقبل هباتها في العلن ويلعنها في السر، وحين ستدخل البلد عشرية سوداء في التسعينيات، التي غاب عنها، مفضلاً منفاه في إسبانيا، لن يتوانى عن تحميل السلطة بعض المسؤولية، في كتابة سقط فيها المؤلف في تسطيح الأمور، لم يخض في شرح ولا فهم ما حصل فعلاً سنوات الإرهاب، بل اكتفى بتعليق شماعة ما وقع على طرف واحد دون الآخر، في كتابة غلبت عليها الذاتية بدل إشراك القارئ حق النظر إلى الواقع والمشاركة في الحكم عليه.
يحيل مبروك دريدي القارئ، في روايته، إلى شذرات من تاريخ الجزائر العاصمة، إلى فهم شيء من طرائق تشكل السلطة، في تلك العلاقة الملتبسة بين الجماعة الحاكمة والعشائر، لكنه لا يلتزم أحياناً الحياد، بل يفرض رأياً، أو يصر على قول ما يراه صواباً، دونما تفكير في حق القارئ للنظر إلى الأشياء من زواياها كلها، كما يميل مرات إلى تسريع المشاهد بشكل يخل بالرواية، مثل حكاية زواجه من إيفا الإسبانية ـ على الرغم من أنها لحظة انقلاب مهمة في حياة الراوي ـ مصراً على ابتكار التشبيهات غير المبررة، كأن نعلم أن إيفا من عشيرة يشبه تاريخها تاريخ عشيرة الجبايلة. جاءت «الغراب الأخير» بلغة شعرية، تسيل مثل ساقية هادئة، كي تذكرنا مرة أخرى كيف ارتضت الجزائر منذ استقلالها أن ترتدي عباءة العشائرية الضيقة، رافضة التخلص منها.

روائي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Bkz:

    فعلا رواية رائعة ابدع فيها الكاتب إلى حد كبير

إشترك في قائمتنا البريدية