يخدعنا الشخصيّ إذ يرتدي ثياب العام، ويخدعنا العام إذ يرتدي ثياب الشخصيّ. يخدعنا الخيال إذ يرتدي ثياب الواقع، ويخدعنا الواقع إذ يرتدي ثيابَ الخيال. وإذن، ما الشخصيّ وما العام وما الخيال وما الواقع؟ وأصلاً من هو “مستر نون” في توهان “عقل جميل” رائع؛ وفي شطحات خيالنا وتساؤلاتنا ربما، إن كانت نون هي ما نعرف من أنها نون النسوة؟
في خداع القراءة أيضاً؛ وفق تقرير مدير مصحّة نفسية في بيروت، وما تبع هذا التقرير من غرابات: الروائية اللبنانية نجوى بركات، التي توقّفت عن الكتابة بعد إنتاج ستّ روايات مذهلة، واختفت منذ خمسة عشر عاماً في مصحّة نفسية، عُثر عليها منتحرةً بأقلام الرصاص التي كَتبتْ بها كما يبدو روايةً وُجدت صفحاتها مبعثرةً بجانبها، ومرقّمة تحت عنوان “مستر نون”، بغرفتها في: “مؤسستنا النفسية التي لجأت إليها قائلةً إنها تخشى أن تحوّلها أشباحُها القاتلة إلى قاتل”.
لكنكم لن تصدّقوا خيال القراءة هذا بطبيعة الحال!
على صعيد تأثيرات القراءة؛ يصعب التكهّن في الحقيقة، مع ضمان المتعة، بما يمكن أن يحدث لقارئ تنصهر مجتمعةً في دواخله، بعمل متفرّد هو الآخر، ودون إشاراتٍ لأسمائها، عصاراتُ أعمالٍ عالمية متفرّدة. مثل لا مبررات غريب ألبير كامو، نهر جحيم كوميديا إلهية دانتي أليغييري، ساعات صخب وعنف وليم فوكنر، قيامة لعازر إنجيل يوحنا، وما يمكن أن يكتشفه القارئ من أعمال أخرى سحرتْه، مع تحليقه في الوقت ذاته فوق عشّ وقواق كين كيسي. وفوق ذلك، يصعب التكهّن بما يحدث له أيضاً في أتون هذا الانصهار، من انفتاح نوافذ جسده إلى داخله، ليطلّ على طفولته، وليشهد ما فعلتْ معاول الآخرين بأحلام ورغبات هذه الطفولة. وأكثر من ذلك، ليعيش متعةَ جمال فنّ الرواية، بمنظومة سردية بسيطة مركبة، داخل بنية متداخلة شائقة، وبلغةٍ شاعرية بصرية رائية دافقة، كما نبع يتفجّر من داخله. وكلّ هذا دون أن ننسى تداخلات الإحساس بأحشاء بيروت جاريةً مثل نهر تطفو عليه القمامة والجرذان والحشرات ومزق البشر بين انتصابات أعلام أحزاب الطوائف، صفراء، برتقالية، زرقاء، وما اخترع اللبنانيون من ألوان سكاكين لتمزيق جسد بلد الجمال.
ومن دون أن ننسى كذلك التعاطف الإنساني الحار الدافق مع الفقراء والمهاجرين واللاجئين في بيروت، بإحساس المضطَهدين والمتماهين بمضطِهديهم، وإحساس الخادمات الغريبات اللواتي يعشن عبودية استغلال وانتهاك الجسد والروح، ويتم رميهنّ إن تمرّدن من طوابق العمارات. وإحساس اللبنانيين والفلسطينيين الذين عاشوا أهوال مجازر الحرب الأهلية اللبنانية، وإحساس الآباء والأمّهات السوريين والسوريّات الذين عاشوا مجازر الاعتقال والتعذيب والتقطيع والتفجير بالصواريخ والبراميل التي تُلقى عليهم من علياء نظام وطنهم وحلفائه، لتمحقهم جثثاً ممزقة بين أشلاء منازلهم، وموسوسين مقهورين هائمين في بلاد الاغتراب. وبدون أن ننسى أحاسيس الغوص في أعماق النادمين والمنبوذين والمعذبين المقتولين، مع القتلة كذلك؛ كي لا نتمنّى ربّما الطوفان الذي غلى به عقل مستر نون المعذب الذي تمنّى أن لا تمسحه قيامة لعازر، ليس بتأثير الأدوية النفسية المهدئة فحسب، بل ربما أيضاً بتأثير هول ما عانى، كي لا يعيد عيش ما عاش.
رواية بركات “مستر نون”، التي دفعتنا بحنكتها الروائية لتخيّل مصائر مغايرة تدخل من باب التقدير لكاتبتها، تفعل في الحقيقة أكثر من ذلك، بغنى موضوعها البسيط الدافق والمجدول المركّب، الحدَثي الطافي على السطح، كما الغارق الذي تغلي به الأعماق. وكذلك بغنى شكلها الفني الذي يمسح بنيتها الظاهرة والعميقة بشُغل الإتقان الروائي، كما الروح النابضة التي تمسك بيدَي القارئ مثبتّتين قسراً على الغلاف، وتفلتهما بتنهيدة عميقة بعد رحلةٍ مضنية ممتعة كما معركة ورود.
على صعيد فن الرواية، من جهة البنية والأسلوب، تصمّم بركات بنية ظاهرة تتضمّن ثلاثة فصول من دون عناوين وبأرقام لاتينية، وتحرّك ضمن هذا التصميم البسيط منظومةً سردية مركّبة يتشابك شكل السرد فيها بقوة مع موضوع الرواية وطبيعة شخصيتها الرئيسة. تسرد الكاتبة في الفصل الأول حالة بطلها مستر نون بصيغة ضمير الغائب “هو”، مع شذرات من سرد مستر نون عن نفسه بصيغة “الأنا”. وتسرد في الفصل الثاني والثالث حالة بطلها بصيغة الأنا، مع تداخل بسيط للسرد بصيغة الغائب، نكتشف فيه مع تصريحها بذلك، تشابك حالة ضمير الغائب مع حالة مستر نون: كشخصية عانت من فرط التهميش بفعل التمييز بين الأخوة الذي مارسته أمه عليه منذ ولادته، وأخيه الكبير المدلّل من أمه، وبفعل جبن أبيه عن تغيير أفعال تهميشه. كما نكتشف تشابك حالة سرد الأنا بتغيّر حالة مستر نون إلى التضاد مع حالة الدخيل الذي يريد وضع قدم له في الحياة، بفعله الغريب في محاربة الأحزاب الطائفية التي تفتت لبنان، وفي حبّه المأساوي للخادمة شايغا التي حولوها إلى بائعة هوى لحسابهم، وفي استسلامه لمصيره حين يرى ما يفعله به أقرب المقربين إليه:
“يأتي الأولادُ حسب قصص أمّهاتهم عنهم. تُحَمِّل الأمّ ولدَها خُرافتَه زاداً، وترسله في الأرض، ممتلئاً بنفسه، أو ناقصاً منقوصاً إلى أبده. أخي سائد جاء محمولاً بروايةٍ أخبرته أنه مميَّز ومقدَّر له أن يلمع، وأنَه الأذكى والأجمل. وجئتُ أنا عنوة، دونما رغبة، رقماً زائداً بعد أن تشبَّثتُ ببطنها ورفضتُ أن أنزل… أرى نظرتَها الأولى حين ألقت عينيْها عليَّ، فنظرتني كشيءٍ، كأمرٍ لا حاجة بها إليه ولا وظيفة محدَّدة له، كشيءٍ زائد يُخلّ بنظام حياتها ويهدِّد وجودَها. أجل. لطالما تعاملت ثُرَيَّا معي كأنِّي دخيل عليها، ولطالما عاملتُ نفسي بوصفي دخيلاً على الحياة…”.
وكذلك: “أنا السيد نون، أنا هو السَيِّد نون. ابن الطبيب المختلّ، وثُرَيَّا القاسية كخشبة، وأخو سائد اللَّمِّيع، وسيِّدُ ماري… العذراء. في هذا اليوم، من السّاعة العاشرة وخمس وعشرين دقيقة، تحدث ولادتي الثانية، في قصتي، وقد دار قلمي كما في لعبة “هل تجرؤ أو تقول الحقيقة”، فأشر عليّ أن أجرؤ وأقول الحقيقة”.
في الأسلوب، تستمر بركات باستخدام لغتها الشاعرية البصرية التي عرفت بها، مع تماشي هذه اللغة ارتقاءً للتعبير بقدرة فائقة عن موضوعها المعقد الذي يتناول شخصية ذكيّة مبدعة مركبة دُفعت بقسوة إلى الفصام، وعاشت استيهاماتٍ وأفعالاً مجنونة داخل نفسها المتصارعة. وعاشت داخل العالم السفلي لمدينتها بيروت، متداخلةً مع شخصيات واقعها، وشخصيات استيهاماتها، وهول المحق الذي يحيط بها داخلاً وخارجاً حيث يلتقي جحيم الخارج بجحيم الداخل وجحيم السماء بجحيم الأرض، وهو ما يصعب التعبير عنه بمثل هذا الجمال، حتى من قبل المتمرسين في فن الرواية.
على صعيد المحتوى، في الظاهر يبدو لنا مستر نون، الكاتب الروائي، ومدرّس الكتابة الإبداعية، والمريض النفسي، شخصيةً معقدة مريضة نفسياً، نتاج فعل التمييز بين الإخوة من قبل الأم، وضحيةً من ضحايا خذلان الأب، ومطيّة تعويض لفرسان المجتمع المضطهِدين والمضطهَدين، وفارساً من فرسان محاربة الاضطهاد، بطريقة أغرب في مأساويتها وتشويقها من طرق استيهامات دون كيشوت.
وفي العمق يتجلّى لنا مستر نون، فارس الجحيم الذي تجري من خلاله عمليات بقر دواخل البشر والمدن لاستخراج ما اختزنت من أسن الجرائم والخطايا، طافياً على السطح وصادماً حتى الهلع، للعيون والآذان والأنوف، بهول ما يُرى ويُسمع ويُشَم.
على صعيد جدلية الشكل والمحتوى تتألّق بركات بخلق روايةٍ أقرب إلى النموذج في ارتقاء هذه الجدلية إلى مستوى الإبداع المتفرد، ليس على صعيد تناقلات وتداخلات أشكال السّرد تفاعلاً مع الموضوع والشخصيات فحسب؛ وليس فقط على صعيد تعبيرات اللغة المتدفقة بتدفق دواخل شخصيات تعاني الخلل النفسي، واللغة المتماوجة بدوار مدن تعاني من الاختناق، واللغة المتلاحقة الأنفاس أو كاتمتها بلهاث وانحباس أنفاس بشر ومدن تنتظر جلادي المجازر الذين سيقرعون بعد هنيهةٍ بأعقاب بنادقهم الأبواب. بل تتألق أيضاً بتفاعل شخصية الكاتب مع شخصياته التي خلق، والتي تكشف عمق صدق تفاعله مع خياله والواقع الذي يفوق الخيال، بما يخلط الأوراق ويعيدنا إلى عمق تساؤلاتنا عن الشخصي/ العام، والواقع/ الخيال، كما في حوار مستر نون الأخير مع شخصية بطله، القاتل لقمان، الذي خلقه وقتله في روايته الأولى التي كتبها في العشرين من عمره، وأعاد خلقه من أمير حرب وقاتل في الحرب الأهلية اللبنانية إلى تاجر بغاء وقاتل بعدها في واقعنا الآن:
“ـــ ها أنتَ عدتَ وقتلتَني، إلى متى يا نُون؟
ـــ إلى أن تكفَّ عن مطاردتي.
ـــ أنا لم أبحثْ عنكَ، أنتَ من جئتَ إليَّ.
ـــ أجل، أنا من جئتُ إليك، لأنَّك ما زلتَ هنا، حيًّا في المدينة التي اعتقدتُ أنِّي أغرقتُها تحت الأمطار. كيف تكون بعدُ هنا وقد قتلتُك بالغاز مرَّة، ثمَّ بالطُّوفان؟ كنتُ، حين أرود في منطقة بُرْج حَمُّود، يا لقمان، أفكِّر في كونِها أولى المناطق التي سيُغرقها الطوفانُ القادمُ إلينا من البحر.
تسونامي عملاق يجرف الحجرَ والبشرَ والأصواتَ واللُّغاتِ…
ـــ في كلِّ مرَّة أستعدُّ للموت، تُعيدني إلى الحياة. يا نُون، أما اكتفيتَ منِّي بعد؟
ـــ هذي المرَّة ستموتُ قطعًا، يا لقمان. سوف أمُيتُكَ هذه المرَّة، وسوفَ تموتُ”.
نجوى بركات: “مستر نون”
دار الآداب، بيروت 2019
255 صفحة.