لم تبدأ الحرب على أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022، بل منذ عام 2014، عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم إلى أراضيها، ودعمت القوات الانفصالية في مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك الأوكرانيتين، واحتلت أجزاء كبيرة منهما. وقد دارت معارك طاحنة بين الجانبين الروسي والأوكراني خلال عامي 2014، 2015، ولم تتوقف الاشتباكات المتفرقة بينهما إلى عام 2021.
الحرب هي الحرب: الموت والدم والألم والمنازل المدمرة. وكان لحرب الاستنزاف هذه تأثير كارثي على مصائر الكثير من الناس في شرق أوكرانيا، حيث قتل خلال هذه الفترة ما لا يقل عن 45000 عسكري ومدني. ومع ذلك لم يكن أحد يتخيل أن أوكرانيا ستصبح هدفا لهجوم عسكري روسي واسع النطاق. وان أوروبا ستشهد أول حرب حقيقية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. كتب الكتّاب الأوكرانيون خلال تلك الفترة عشرات الكتب حول ما يحدث في الشرق (دونيتسك ولوغانسك) ويمكن للمرء دراسة هذه الفترة من التاريخ الأوكراني من خلال قراءتها.
سيرجي زادان أحد أشهر الكتاب الأوكرانيين ومؤلف العديد من الكتب في مختلف الأجناس الأدبية – بما في ذلك الرواية، والقصة القصيرة، والشعر والدراما، والمقال – وهو أيضا مترجم وموسيقي. ولد في مدينة ستاروبيلسك، مقاطعة فوروشيلوفغراد (إقليم لوغانسك الحالي). تخرج في فرع البيداغوجيا (علم التربية) في جامعة خاركيف عام 1996. وغني عن القول إن ثيمة الحرب وثيقة الصلة به ومؤلمة بشكل خاص بالنسبة له، حيث قضى حياته كلها في شرق أوكرانيا. وهو على دراية تامة بأحوال هذه المنطقة وحياة سكانها قبل وبعد استقلال أوكرانيا عام 1991. زادان ناشط ساعد في تنسيق التظاهرات المؤيدة للاتحاد الأوروبي في أوكرانيا، وفي عام 2014 تعرض لهجوم من قبل انفصاليين موالين لروسيا. كسروا أنفه وأجبروه على الركوع وتقبيل العلم الروسي.
نشر زادان عام 2017 رواية «المدرسة الداخلية « التي يصف فيها تأثير الحرب في نفس شخص مدني عادي. وعلى عكس بعض أعماله الروائية الأخرى: يتميز هيكل «المدرسة الداخلية» بالبساطة والوضوح. بطل الرواية مدرس مطلق يدعى باشا، يعيش في بلدة هادئة نسبيا، يشار إليها فقط باسم المحطة، على مشارف مدينة أكبر، حيث يدور قتال شرس بين طرفين لم يسمهما المؤلف.
مع احتدام القتال، يجب أن يغامر «باشا» بالدخول إلى الأراضي المحتلة، حيث تقع المدرسة الداخلية، التي يدرس ويعيش فيها ابن اخته القاصر (ساشا) وإعادته إلى منزله بأمان. يمثل باشا أغلبية المجتمع في شرق أوكرانيا. فهو لا يعرف في أي جانب هو في هذه الحرب، وما يجب أن تكون عليه البلاد، وما هي اللغة التي يجب أن تكون مهيمنة، الروسية أم الأوكرانية؟ وكيفية فهم الماضي السوفييتي للبلاد وعلاقته بالأحداث الجارية. باشا يقوم بتدريس فصله باللغة الأوكرانية، كما هو مطلوب بموجب القانون، لكنه يتحدث الروسية خارج الفصل الدراسي، وهي تفاصيل صغيرة، بالنسبة لأي قارئ، تشير على الفور إلى جوهر شخصية باشا، الذي يقول: «لا أحد يقاتل ضدي. أنا لست إلى جانب أحد «… « لا أعرف حتى من يقوم بإطلاق النار». اعتاد باشا، على حياة هادئة، ولا شأن له بالسياسة، ولا يفكر إلا في حياته السلمية وكيفية إخراج ابن اخته من المدرسة الداخلية. لكن في يوم من الأيام رأى أن الحرب ليست مجرد كلمة، إنها ليست شيئا يحدث في مكان ما بعيدا، فقد وصلت الحرب إلى عتبة منزله. تتغير السلطة، وتأتي قوات أخرى، ومن الصعب عليه بالفعل تحديد على أرض اي جهة يقع منزله… تصف الرواية ثلاثة أيام فقط من حياة باشا، لكنها تعكس بوضوح كل ما يجب على الناس العاديين المرور به. لا يوجد وصف للمعارك أو المقاتلين.. نحن هنا نتحدث عن أناس عاديين تقتحم الحرب حياتهم. هل الحرب تقربهم أكثر أم تشتتهم؟ البطل تنتابه مشاعر الخوف والغضب، والألم والارتباك واليأس.
في بداية الرواية، لا يريد باشا التعمق في التفكير في هذه المسائل. كان يفضل أن يعيش وكأن شيئا لم يحدث: لم يستمع إلى الأخبار، ولم يقرأ الصحف. كان ذلك نوعا من الهروب الداخلي، لأنه من الأسهل أن لا تسمع أو ترى أي شيء. عندئذ لا شيء يؤلمك. هذا نوع من الدفاع عن النفس يستخدمه بطل الرواية، لأنه لا يوجد خيار آخر. حتى لو أراد باشا خوض غمار الحرب، لم يستطع ذلك بسبب إصابة قديمة في اليد، وقصور القلب. لم يكن باشا نفسه ليقرر أبدا الذهاب وإحضار ساشا لو لم يصر والده على ذلك. المدرس متردد، متحفظ، غير معتاد على اتخاذ القرارات، أو أن يكون مسؤولا عن شخص أو شيء ما. يحيا حياة ضيقة: من المنزل إلى المدرسة، ومن المدرسة إلى المنزل: هكذا مرت الحياة، ولم يحدث شيء جديد أو مثير للاهتمام: «لقد أحب الحياة المنزلية؛ وعاش هنا طوال حياته وخطط للاستمرار في العيش على هذا النحو. المنزل بناه أسرى الحرب الألمان بعد فترة وجيزة من انتهاء الحرب – شقة واسعة إلى حد ما في الشارع الثاني الخلفي من محطة القطار، تم بناء قريتهم المكتظة بالسكان حول هذه المحطة، حيث يعيش معظم عمال السكك الحديدية». لكن الحرب جاءت. وربما هي فرصة باشا الوحيدة ليتغير ويغير نمط حياته، لكن يبقى السؤال: هل يقبل باشا التحدي؟ أليست مهمة صعبة جدا لرجل خجول وجبان – حتى العاهرات في الرواية هن أكثر جرأة وأكثر رجولة من باشا – مواجهة الحرب مباشرة ومحاولة إنقاذ شخص آخر؟ ومن المثير للاهتمام، أن ساشا الصغير، على عكس باشا، يشعر بالحرب بعمق أكبر ويعرف منذ البداية في أي جانب يقف في خضم هذا الصراع. مهمة إنقاذ ساشا تغير باشا. إنه ليس وطنيا أعمى، لكنك ترى الأحداث في المركز على نحو أفضل من الأطراف، وحتى هو، الرجل البسيط، يتحول ويصبح بطلا صغيرا بين الفظائع العظيمة التي يشهدها، وبطلا كبيرا لنفسه، على الرغم من أن أحلامه ورغباته تتوافق مع حياته السابقة: «كل شيء سيكون مختلفا غدا، كل شيء سيكون كما كان دائما، كما كان من قبل. أيام الاسترخاء في المنزل، حيث ينشغل الجميع بأشيائهم الخاصة، حيث كل شيء في المكان الذي يفترض أن يكون فيه، ولا يوجد شيء غير ضروري، لكن لديك كل ما تحتاجه.
واحدة من أقوى صور الرواية هي العديد من الكلاب الشاردة. ولعل هذه هي مرة أخرى إشارة إلى هؤلاء الناس المترددين الذين لا يهدؤون ويتجولون في جميع أنحاء العالم (لأنهم لا يشعرون بأن أوكرانيا وطنهم) ولا يعرفون أين يستقرون.
صباح مليء بالأعمال المنزلية: العمل الذي اعتدت عليه. أمسيات هادئة. في الواقع، هناك الكثير من الفرح، والكثير من الدفء في كل هذا. كان عليك أن تكون هنا، في وسط الجحيم، لتشعر كم كان لديك الكثير، ومدى خسارتك. ما عليك سوى العودة إلى المنزل في أسرع وقت ممكن، أخيرا ابتعد عن دوائر مصائب الآخرين، وعد إلى المنزل سريعا».
أسماء الأقاليم والمدن غير محددة في الرواية، ومع ذلك يعرف القارئ أين يحدث كل شيء، ومن هو العدو، لكن في الوقت نفسه يمكن «تطبيق» هذه الرواية على حروب أخرى. يصف دونباس، الذي يضم ( دونيتسك ولوغانسك) بأنه اقليم هامشي لأوكرانيا، وتوصف المدرسة الداخلية كصورة لهذا التهميش: مهجورة، مدمرة، مغلقة.
يمكننا أن نقول إن «المدرسة الداخلية» تنتمي إلى أدب الرحلات أيضا، لأن رحلة باشا وساشا تغيرهما وتنقيهما. الطريق نوع من المطهر، فضاء يؤدي إلى التنفيس والانتعاش. واحدة من أقوى صور الرواية هي العديد من الكلاب الشاردة. ولعل هذه هي مرة أخرى إشارة إلى هؤلاء الناس المترددين الذين لا يهدؤون ويتجولون في جميع أنحاء العالم (لأنهم لا يشعرون بأن أوكرانيا وطنهم) ولا يعرفون أين يستقرون. هذا نوع من التشبيه المجازي للقلق والنفي والتشرد. نحن جميعا بلا مأوى مثل الكلاب الضالة عندما لا نعرف أين نحن وأين بيتنا؟
سيرجي زادان في « المدرسة الداخلية» لا يعلم وينبغي أن لا يعلم، والأكثر من ذلك، يجب ألا يشير إلى الجانب الذي يجب أن تتخذه في الحرب. زادان وصف الأوكراني العادي الهامشي، الغريب في بلده. وثمة ملايين من هؤلاء الناس في أوكرانيا، وربما في كل مكان. زدان لا يدين أحدا أو جهة ما، إنه يتحدث ببساطة عن «نقطة على الخريطة» عن رجل صغير في بلد كبير. وقد أظهرت هذه الحرب بشكل أوضح العدد الكبير من الأشخاص المماثلين لباشا في أوكرانيا.. في نهاية الرواية يقنع الصبي ساشا خاله باشا السماح له بأخذ جرو صغير معه إلى المنزل. وهذا العمل اللطيف يرمز إلى أيام مقبلة أكثر إشراقا.
زادان يتحدث عن «المدرسة الداخلية»
قال زادان في مقابلة أجرتها معه هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي): إنه كتب هذه الرواية عن السكان المدنيين، وعن الناس العاديين، وعن اختيارهم وافتقارهم إلى الاختيار، وعن موقفهم وغياب هذا الموقف، والحاجة إلى تحمل المسؤولية، وعدم وجود عادة تحمل المسؤولية. وهي القضايا المعقدة والمؤلمة للغاية التي يشعر الكثير من الناس بالقلق إزاءها عندما سئل عن رأيه في حقيقة أن شخصا ما يسمي هذه الرواية «الرواية الرئيسية عن الحرب» أجاب: هذا غير صحيح. لا يعجبني عندما تُنسب «المدرسة الداخلية» إلى مثل هذه الأشياء التي لا علاقة لها بنص الرواية، بل يتعلق أكثر بالترويج. لم أفكر مطلقا في كتابة أهم كتاب عن الحرب. كان من المهم بالنسبة لي أن أقول بعض الأشياء وحاولت أن أقولها. واردف قائلا: أردت أن أظهر في هذا الموقف الحاجة إلى الاختيار، وتغيير موقفك من العالم. ربما لا يتعلق الأمر مباشرة بالحرب. عندما يواجه الشخص الحاجة إلى اتخاذ قرار، يضطر إلى الاختيار، وإلا فإنه يخاطر بفقدان نفسه. من الجميل أن زادان لم يكتب هنا عن مآثر وبطولات محارب شجاع، لكن عن معلم بسيط. زادان، بالطبع، ليس أول من يفعل هذا. فقد سبقه إلى ذلك الكاتب الفرنسي لويس فرديناند سيلين، في رواية «رحلة إلى حافة الليل» التي نشرت في باريس عام 1932 وجلبت له شهرة عالمية لاحقا. وكذلك الكاتب الأمريكي جوزيف هيلر في روايته «التعديل رقم 22 « التي نشرت عام 1961 وهي رواية تقع أحداثها في فترة الحرب العالمية الثانية. وغالبا ما يُستشهد بها على أنها واحدة من أعظم الروايات في الأدب الأمريكي. كما تذكرنا «المدرسة الداخلية» برواية الكاتب الأمريكي كورت فونيجت «المسلخ رقم 5» أو «حروب الأطفال الصليبية» الصادرة عام 1969، وهي رواية سيرة ذاتية ومناهضة للحرب. لكن لرواية «المدرسة الداخلية» نكهة خاصة، لأنها تتناول موضوعا ساخنا إلى يومنا هذا، وربما لهذا السبب رشحت أكاديمية العلوم البولندية سيرجي زادان لجائزة نوبل في الأدب لعام 2022 وقالت الأكاديمية في بيان أصدرته في 1 مارس/ آذار: «سيرجي زادان هو أحد أعظم شعراء أوكرانيا وكاتب نثر رائع. تمت ترجمة أعماله إلى عدة لغات عالمية، ونال جوائز دولية مرموقة. في رأينا، هذا ما يجب أن يكون عليه كاتب نوبل. كان لصوته ككاتب أهمية خاصة بالنسبة لمواطنيه. أوكرانيا الحرة تتحدث إلى حد كبير وتفكر في كلمات زادان، وتستمع إليه باهتمام وهو اليوم يقاتل في خاركيف».
كاتب عراقي