رواية المصري وجدي الكومي «النسوة اللاتي»: تحركهنّ عقارب الساعة باتجاه القيامة

المثنى الشيخ عطية
حجم الخط
0

يبدو أن ما نسيَتْه الآلهة المتفقة على مسألة اقتراب ساعة يوم القيامة، من علامات هذا اليوم، يجد تجسيده صارخاً في التحرش بفتاةٍ واغتصابها من قبل مجموعة ضباع بشرية موجهةٍ، وهو ما حدث فعلاً في ميدان تحرير أكبر عاصمةٍ عربية، على مرأى الجميع، وإدانة الحكام، ورجال دين الآلهة المتفقة، والقطيع الذي ينطق بألسنة هؤلاء، للضحية المغتصبة، بدلاً من ناهشيها، بدعوى عدم احتشامها في إثارة الضباع.
الروائي المصري وجدي الكومي في روايته المذهلة بشطح خيالها «النساء اللاتي»، وبما يمكن وضعُه تحت مسمى الخيال العلمي رغم تأسيسها على واقع صارخٍ مشهودٍ ومتماثل بتفاصيله مع تفاصيل الرواية، يُقيْم المسرح الذي تَحدثُ فيه علامات يوم القيامة، وفي رأس حربتها نسيان الآلهة قشةَ التراكم التي قصمت ظهر بعير الواقع/ اغتصاب وإدانة الضحايا اللاتي يتمّ أكل حقوقهنّ، والتحرش بهنّ، واغتصابهنّ، وذبحهنّ من مجتمعاتٍ خُصي ذكورها، ليس عن إنجاب حلولٍ لِعنّتهم عن تحرير أرضهم، وإيجاد حلولٍ لاستبداد حكامهم بهم فحسب، وإنما أكثر من ذلك عن أن يكونوا بشراً يتمتعون بصفة الإنسان. ويضيف الكومي إلى مسرحه الخيالي الواقعي المرعب، كشفَه عن العقاب الذي لا يأتي بأيدي الآلهة، وإنْ صَوّر العالقون بقيد الوهم لأنفسهم أنه منها، وإنما بهورمونات الضحية التي حرضها وحوّلها لفيروساتِ فناءٍ، لعابُ الضباع الناهشين لحوم «النسوة اللاتي»، وحوّل مآل تلك الضحية إلى «سيدةٍ نصفٍ»، شخصيةٍ معذبة مزدوجةٍ أحد طرفيها وحشٌ تحركه روح الانتقام، ويتجاوز طبيعة ميدوزا في تحجير الرجال.
«النسوة اللاتي» تتمحور رواية الكومي حولهنّ، روايةٌ مميزة بين الروايات المعتادة، والروايات التي تقيم واقعاً فانتازياً مؤسّساً على واقعٍ ماثلٍ تعالجه بأسلوب السخرية السوداء، وتتفرد في مماثلات رمزياتها للواقع الذي تتحدث عنه، برؤاها الكشافة عما سيؤول إليه هذا الواقع، متجاوزةً فخاخ قسر الواقع لرموزها، بحبكةٍ قصصية تسمو فوق الإنشائية، ويعيش فيها القارئ عالماً موازياً ممتعاً بغرابته، ويحسّ في ذات الوقت أنه عالمه الذي يدفعه للتفكير فيما سيؤول إليه، وكيف يمكنه الخروج من مصيدة الطوفان الذي يرى قدوم أمواجه لطيّه. وتلعب الفنية الروائية في إنشاء هذا العالم الموازي، ببنيتها ومنظومة سردها وعمق التركيب النفسي لشخصياتها، من دون مساومةٍ لما يخلقه التعاطف مع الضحايا من انزياحٍ نحو التمجيد والهروب، دوراً مهماً في إنقاذ الرواية من مصائد التماثل، وفي ارتقاء تجسيد الواقع رمزياً إلى فنية روائية عاليةٍ، رغم لمس القارئ بوضوح أن مسرح الرواية، بلدُ المحيط المخترَع، وزمنه في شهر هاتور 2659، هو مصر وزمنها بين عام ثورة يناير 2011، وما قبله، وما بعده، حتى عام الحرب المتوقّع انفجارها عام 2030. ولا يغيب عن ذلك لقب الرئيس السابق للثورة بالبقرة عن حسني مبارك الذي سماه السياسيون المعارضون والشعب المصري بالبقرة الضاحكة، ولا أفعال ابنه، ولا الفساد والمشاريع الفاشلة غير المجدية لرئيس ما بعد ثورة الرواية، عن مشاريع السيسي التي تُغرق مصر بالديون والمجاعة، كما لا يغيب إعلام الرواية المقتدي بمنهج غوبلز في الكذب عن ممارسات إعلام نظام العسكر في الكذب حتى السخرية، مثلما لا يغيب النهر المالح عن مصير نهر النيل، وتفاصيل مدينة المحيط عن تفاصيل القاهرة، وقدرةُ بلد المحيط على إعادة إنتاج طغاةِ مصر أنفسهم، وإن بغير تسمية: فرعون قاتل أطفال النبوءة الذي دفع أمّ موسى لرميه بسلّة في النهر، الطاغية الذي وضع الزئبق في المرتبة، الطاغية الذي يتصدق بثلاثة ألاف دينار من ميزانية بيت المال التي تبلغ أربعة آلاف، ويقتل ثمانية عشر ألف، ويبني أكبر مسجد في المدينة، الطاغية الذي ذبحه الخدم، وتسلم المدينة بعده واحد منهم هو كافور الأخشيدي، الخصي الذي مدحه المتنبي، دون ذكر اسميهما، كما يروي شاكر/ أحد قادة كتائب النطاف التي تقاتل كملائكة لا ترى إلا جانب النساء، عن حرب بلد المحيط: « الآن نحرقُ المدينة من أجل عيون النساء، نحرقُها، لعلّها لا تعود، نتمنى ألا تعود. المدينة الظالمة، التي تلتهم بظلمها من ليس له حيلة، وتنحني بخبثها للدهماء والحقراء. تمجّد التافهين، الجهّال، تعظّم القتلة، الفتوّات، الجبابرة من كل لون، ممن يرتدون بزّات رسمية، وممن يشحذون بلحمهم. مدينةٌ لا توقّر الصالحين، ولا تعترف ببركات الأئمة، مدينةٌ يتولى أمرها كل جاهلٍ، أو فاسد، أو منقلب على وليّ نعمته، مدينةٌ حَكَمها معتوهون، وناقصو عقلٍ، وخصيّ ومنحلّون، وجبابرة، وقتلة، يسفكون دماء الآلاف، ويتبرعون لبناء دور العبادة».
في تكوين «النسوة اللاتي»، وبعد تقديمٍ لها بجملةٍ من جحيم دانتي إليجيري تلخّص عالمها: «هنا الطريق إلى مدينة العذاب، هنا الطريق إلى الألم الأبدي، هنا الطريق إلى القوم الهالكين.»؛ يشكّل الكومي بنيةَ عالم واقعه المتخَيّل «بلد المحيط»، بتحديد موقعه الجغرافي وحدوده على خارطة الأرض أولاً، مع ثبتٍ بأحياء مدينته التي انكمشت إليها بقية مدنه، كما يفعل مسلسل «صراع العروش» الشهير، لتحريك شخصياته وأحداثه، ويفتح لهذا العالم تسعة فصولٍ بعناوين، تحركها منظومة سردٍ مبتكرة وفق أسلوب سباق جري التتابع، حيث يجري المتسابق الأول، ويصل إلى نقطة يسلم فيها راية الجري إلى المتسابق الثاني وهكذا حتى وصول المتسابق الأخير إلى خط النهاية. ويقوم بتتابع السرد هذا تسعة ساردين أساسيين هم الشخصيات الأساسية في الرواية: (جلاب المصائب، جون ــ شاهيناز المعمرة ــ ياسمين المليحة: الشقراء البيضاء كالرخام ــ «شاكر»: الكائن الشفاف الرقراق سرّ هذه الحرب، وسببُ تعاسة البشر ـــ الشيخ ذهني الهندي: قائد ميليشيا الأمازونيات، داعك المصباح، وأول من التقى جني سليمان ــ «العزيز»، رئيس الوزراء الذي أعيد تدويره أكثر من مرة ــ حسين «المشرحجي»، جزار المراحل ــ المرتزق بعل زبول، سيد المزبلة ــ «سين عين»، الناجي: الضحية المغلوب على أمره).
ويُدخِل الكومي في شطحٍ خيالي سبّاق، ضمن هؤلاء الساردين شخصية «شاكر»، النطفة، وممثل النطاف، التي تقاتل مع نساء الرواية الأمازونيات، كملائكةٍ لا ترى. كما يُدخل ضمن هذه الفصول رؤى معدودةً مفصلية في أحداث الرواية لبطلتها الثورية المحبة ياسمين. ويُجري هذا السردَ في تقرير جون، موظف الأمم المتحدة، الذي يُرسل إلى بلد المحيط بمهمة البحث عن قصة حب في بلد لم يعرف أهله الحب، وإيجاد حل لوباء اختفاء ماء ذكوره الجنسي، بإيجاد الرجل الوحيد الناجي سين عين.
وفي هذه البنية المخترعَة خيالاً شاطحاً وثرياً بالمعرفة، تتكشف القارعة: سبب إصابة الذكور بالعقم، وعلاقة ذلك باغتصاب فتاة ميدان الخضراء شاهيناز، وتحوّلها إلى ميدوزا تضاجع الرجال وتنقل إليهم فيروسات محو سائلهم المنوي، بحقدٍ لا يمنعها من الوشاية لمرتزقة شركة الفارما، وكلاء سلطة الاستبداد في القتل، بالذين يقاتلون من أجل إعادة الخصب، غير سائلةٍ عن مصيرهم ومصير النساء الأمازونيات اللاتي يقاتلن المرتزقة، ويُنثَرن في النهاية المفجعة جثثاً في القصف وتحت عجلات الدبابات، تحت وهم منحها الناجي الوحيد سين عين الذي أحبته، ولم يحب أحداً بسبب عقدة اغتصابه هو الآخر طفلاً في المدرسة. كما يتكشف عالم فساد رجال سلطة ما قبل الثورة وصراعهم مع فاسدي سلطة ما بعدها، وسيطرة الشركات الاحتكارية وأخصها شركات الأدوية المتحكمة بمسكّن الترامادول كمخدّر، والفياغرا كمطيل للانتصاب، ومؤخّر للقذف، في عالم فانتازي عقيم وقاتل تمسحه السخرية السوداء. وتتكشف على صعيد فني، بالإضافة إلى رمزيات وتماثلات الخيال والواقع، تداخلات العناصر في فن الرواية، ليشهدَ القارئ تداخلات الأزمنة السلس، وتداخلات المكان الخيالي بالواقعي، وتداخلهما معاً بحياة وآلام وأحلام البشر: «يقع الضريح في سكة سوق الزلط، المتفرع من ميدان باب القمر، حيث يجلس تمثال المغني الشهير، الذي حمل رتبة لواءٍ تشريفاً وتكريماً له من الرئيس، كان التمثال قد سقط حينما علّق عليه الأهالي لافتاتِ تأييدٍ للرئيس والقائد الأعلى لبلد المحيط، كل مرة أتطلع إليه، وأتعجب لماذا سقط؟ ألمْ يحمل صاحبه رتبةً عسكريةٍ يوماً ما؟ يقولون إن أرواح الراحلين تحلّ في تماثيلهم، وحالة التمثال في الدنيا تدل على حالة صاحبه في الآخرة».
كما تتكشف فنياً، تداخلات التراث، وبالأخص «حكايات ألف ليلة وليلة»، وخرافات الملك سليمان ونملته، بشخصياتٍ آسرة مثل شخصية الراقصة التي تنتقم من المرابي بحكاياتها الشهرزادية، وشخصية الجزارة الست أم دينا، «سيدة النمل» التي تثير الرهبة بنملها الشرس، وتفتح قصرها مسرحاً تمارس فيه قتل الرجال العقيمين، في الصباح بعد مضاجعات الليل الإيروتيكية، مثل شهريار محترفٍ. كما يشهد القارئ تداخلات الأسطورة بغنىً ثقافي وسيكولوجي عميق، مع أسطورة ميدوزا التي ينحاز فيها الكومي لرأي اغتصاب ميدوزا، مثل شاهيناز، من قبل بوزيدون، وتحوّلها إلى وحش يحجّر الرجال. وإضافةً إلى كل هذا التكشف الموجَز المنفتح بحراً في الرواية، يعيش القارئ ألم استبداد البشر بالبشر، وأسى الخذلان، وهزائم الثورات، بمشاهد التآمر والأطماع والجبن والخزي واليأس الذي يتكثف ويُغلق الرواية، ربما ليفتحها بصدمةِ كشف الواقع عارياً على الأمل، وإثارة دافع الخوف مما ينتظر الحياديين، والهاربين إلى أوهام حلول رحمة السماء، من طوفانٍ يجرفُ البشر والحجر، إن لم يكنْ زلزال القيامة الذي تعزّ فيه سفينة نوح.

وجدي الكومي: «النسوة اللاتي»
دار ممدوح عدوان، دمشق؛ دار سرد، بيروت؛ 2020
232 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية