تريد هذه المقالة الموجزة أن تقرأ رواية الأديب العراقي سعدون شفيق سعيد، التي صدرت عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق2023، قراءة موجزة تتقصى مضمونها، وشكل بنائها، ورواية «الهذيان» سردٌ لاحق أحوال عائلة أصابها مرض نفسيّ في مرحلتين سياسيتين مختلفتين، فكأنها – والحال تلك – أدمنت القلق وسوء التفكير، والانطواء على النفس بوصف تلك السمات حالة مرضية رافقت بؤسها.
والهذيان، حسب وصف الثقافة الطبية، مرض نفسيّ يصيب الإنسان في تغيير قواه العقلية والبدنية ويسهم في تشويش قدرته على التفكير، ونقص الوعي، وله أسباب كثيرة منها: تناول الأدوية المهدئة بشكل يومي، أو تناول الكحول والإدمان عليه، فهو مرض مزمن، هذا ما تخبرنا به أدبيات الصحة والطب، ولي أن أضيف سببين آخرين مهمين جدا هما: الخوف السياسي، والعجز عن حل إشكال ما، وللهذيان أعراض تتمثل في القلق الشديد، والخوف غير المسوغ، وغياب الثقة بالنفس وبالآخر، وهجران النوم، والهذر المتصل.
بُنيت الرواية من خمسة وعشرين فصلا، قدمت السرد بطريقة غير تقليدية، كان المؤلف عمد فيها إلى عنونة كل فصل بعنوان واضح ومغاير للعنوانات الأخرى، ليأخذ شكلا مكتفيا بنفسه، ومتصلا بغيره من الفصول، دالا على مغايرة في تقديم السرد أحال المؤلف فيها على طبيعة ما هو مسرود من دلالة سرديّة؛ بمعنى أنه أخذ بنظر الاعتبار انسجام تلك العنوانات مع مروياته الصغرى في الفصول كافة، مع أنها غير متناسقة في عدد صفحاتها، وطبيعة تحولاتها، وقد سُردت الرواية بضميري الغائب والمتكلم، وهما يراعيان بناءها في فصول تشير إلى أنها تقع ضمن ما يسميه النقد بالرواية الصغيرة الحجم (النوفيلا)، والسرد بالضميرين السابقين يحيل على جماليّة سرديّة تفارق شكل السرد القديم وتعطي فكرة عن تحول السرد بين الأنا والآخر الغائب في ظل الكتابة الحديثة.
كان استهلال الرواية مكثف السرد بلا تفاصيل، تتحكم به لغة الإيجاز، والوصف القصير، وقد حضر الهذيان في السطر الأول منه: (كان يهذي بجانبي، وكنت أهذي بقربه مع الآخرين، والريح لم تزل تعصف في الجو المكفهر برذاذ المطر، وكان الجميع يهذون)، فالكل يهذي السارد، والآخرون، والريح، والجميع، والهذيان صفة مهيمنة على سرد الرواية، ومضمونها. كان الشخص الرئيس في الرواية يهذي، وهو يراقب مشهد المدينة وحركة الناس من نافذة الفندق، كان اسمه (أبو ثامر)، وكان صديقه أحمد مغرما بأخبار الكلاب، وهو كثير الهذيان أيضا، زار مرة ألمانيا ووقف عند آثار هتلر وهذيانات الفن التشكيلي، فالاثنان يعيشان في هذيان دائم مصدره سياسي، عن سابق تجربة مؤلمة، فما أن يُدقّ باب البيت حتى يشتغل الهذيان عند أبي ثامر، ظنا أن رجل الأمن آت؛ ذلك الذي يعيش في داخله، يتنفس معه، ويحيل أيامه كدرا، وله الحق في ذلك فقد تعرّض لتجربة سياسيّة قاسية، وممّا زاد من هذيانه شعورة المتكرر أن رجل الأمن آت لا محالة، مرة خرج للعشاء مع زوجته، فجلس إلى جواره رجل الأمن مصادفة، فكانت الهلوسة على أشدها.
مع تعاقب الأيام ازدادت هلوسة أبي ثامر، ومخاوفه، وهذيانه، وفجأة التقى بصديقه أحمد الذي عاد توا من زيارة دائرة الأمن، فكان أن تفجّر هذيانه الصارخ المتراكم فوق القلب، وهو يعيش تجربة الحياة المليئة بالمراقبة الحقيقية، والمفترضة، كانت لقاءاتهما في البار تزداد فيزداد الهذيان أيضا، ولاسيما بعد أن أضيف لهما الصديق المشترك (كاكا مصطفى)، فصار الهذيان ثلاثيا مشتركا متساوي القدر في العيون، والقلوب، والحوارات المتبادلة. بدأ أحمد بالتفكير بضرورة السفر إلى الخارج، لكنه مُنع من ذلك فاضطر للهرب بمساعدة صديقة كاكا مصطفى عن طريق الشمال، أما أبو ثامر فقد قدّر له أن يدخل السجن بعد التحقيق بقضيّة هرب أحمد، وعلاقته بمصطفى، وحين خرج منه وجد نفسه في هذيان جديد، فكان الحلّ في الهجرة، فهاجر بجواز سفر حقيقي، ثم لحقته العائلة بعد أن باعت منزلها. عاش الثلاثة في مخيم اللاجئين في ألمانيا، فكانت حياة المنفى رتيبة، مملّة، فيها اجترار الماضي أكثر من تأمل الحاضر، تحاصرهم المحكيّات المصوغة بالألم والأمل معا، وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق عاد أبو ثامر إلى مدينته رفقة العائلة، في ظل أجواء الاحتلال المشحون بالمد الطائفي، والتفجيرات، والقتل، والسرقة، فعاد الهذيان مرة أخرى، اشترى قطعة أرض وابتنى عليها بيتا جديدا، لكنه كان عرضة للتفجير الإرهابي، فصار الهذيان بدرجة عالية، زاده هذيان العائلة بعد خطف أبي ثامر، وقد اضطرت أم ثامر أن تبيع البيت فدية لحياة زوجها، استلم الإرهابيون المبلغ ليعود أبو ثامر جثة هامدة، فقد نكثوا العهد لأنهم بلا عهد. كان الهذيان قاسما مشتركا للعائلة في زمنين مختلفين؛ زمن الحصار الأمريكي اللعين، وزمن الاحتلال في مدينة لم تسمها الرواية، لكن السرد فيها اقترن بالحديث عن مطعم العافية، وسجن بَعْقوبَة، ومطعم أبي جورج، وهي إشارات دالة على أن المدينة هي (بَعْقوبَة) مركز محافظة دَيالى التي تقع شمال شرق بغداد.
رواية «الهذيان» تدوين لسيرة الموت المؤجّل لعائلة لعبت السياسة دورا سلبيا في حياتها، فكانت الحلول تعصف بها في ظلّ القلق المشوب بوجود أزمات لا تنفك عن تاريخها المكتوب بمداد الشقاء.
ناقد وأكاديمي عراقي