في روايته الصادرة بعنوان «بقايا رغوة» عن دار البيروني للنشر في بيروت (2021) يقدم الروائي جهاد الرنتيسي، منظوراً سردياً يتصل بأزمنة الإنسان الفلسطيني، وحين نعني أزمنة، فإننا نحيل إلى تلك التّحولات والأحداث التي صاغت الذاكرة الفلسطينية، وباتت جزءاً من مرويته الخاصة بالألم والارتحال، كما تكرار الخيبة، مع الكثير من النقد الموجه للذات.
يتقصد جهاد الرنتيسي في روايته القصيرة ، نموذجا قد ينزاح بعض الشيء عن النسق التقليدي في تشكيل الرواية، لتكون أقرب إلى فاعلية كنائية توازي تشظي الشخصية الفلسطينية التي تكمن بين أزمنة قد تبدو متعاقبة، لكن حضورها يتزامن عبر تقنية التداعي التي يفعلها حضور المكان المتعدد، ما يجعل الذاكرة ترتهن إلى هذا الاضطراب، الذي يأتي مشفوعاً بأسئلة كبرى تتصل بالماضي، والحاضر، ومع ذلك تبقى العين رهينة تطلعها إلى مستقبل يبدو منفتحاً على كل شيء، وبوجه خاص حين أدرك الفلسطيني أنه لا يوجد زمن أو مكان يمكن أن يعول عليه.
يشار إلى أن الروائي جهاد الرنتيسي نشر عدداً من الكتب أهمها «الترانسفير الثالث» و«روائيون في متاهة الشرق» فضلاً عن عدد كبير من القصص والمقالات التي نشرت في عدد من الصحف العربية، والتي تعنى بمحاولة تأطير السردية الفلسطينية التي انبثقت في الشتات، أو أن يتقصى قلق هذه الحيوات في كيانات طارئة تتقاطع مع أزمنة الإنسان الفلسطيني، وتكشف عن منعرجاته وتشوهاته.
الاستبدال والإحالة
إن الإحالة إلى عنوان «بقايا رغوة» قد يتجاوز الأبعاد الاستعارية أو الكنائية ليكون منفتحاً على قراءات متعددة نستطيع أن نتقاطع معها على مستوى الحدث، لكن ضمن تكرارها في غير موقع، فالرغوة هي نتاج تفاعل ينطوي على فراغات، كما تحيل إلى معنى التشتيت للمادة، علاوة على دلالة الأثر، وما يعقبه من زوال.. إنه شيء يبدو كثيفاً ظاهرياً، لكنه لا يحتمل أي نوع من الصلابة، ما يقودنا إلى أن نتصل بالخيبة أو الفراغ… والأهم الإخفاق، هنا نرى أن الرواية في عبورها بين ثلاث إحداثيات، ونعني الكويت وبيروت وعمان قد عُنيت سردياً بتحرك الشخصيات بين الحيز والزمن، كي تبقي في تفاعلها، وما ينتج من أثر عن كلا هذين العاملين، مع بيان ما يتسرب من الذاكرة، ومن ذلك خروج الفلسطيني من الكويت في أعقاب الغزو العراقي، لتبدأ رحلة شتات جديدة لحيوات اعتقدت أنها وجدت مستقراً قد يشكل امتداداً لمعنى الثبات، غير أن الحقيقة كانت بعيدة عن ذلك، وهذا ما يستدعي تواصلاً مع ذلك الوطن الحقيقي الذي أمسى إلى غروب، حين تحولت مدينة نابلس وقراها إلى نقاط على الخريطة، وبينها خطوط رفيعة لا تصلح لفصل عالمين حددتهما ذاكرة احتفظت بيقظتها.
تبقى الشخصية الفلسطينية مسكونة بهذه القلق الذي تشكل نتيجة ثقافة عدم الارتباط بالمكان، وربما إلى ما أشد من ذلك، ما يفسر هشاشة تلك العلاقات كما يتضح من الثيمة المحورية التي تنهض بها شخصيات الرواية، التي تهمين عليها الشخصيات النسوية (غادة الأسمر وسوسن وفدوى والخادمة فيكي) مع التأكيد على جدلية الكتابة عن هذه الذوات من خلال خطاب يضطلع به الرجل (الروائي) ما يعني تحدياً في تمكين الرؤية، ولاسيما سبر أغوار الشخصية المركزية غادة الأسمر – زوجة صبحي الحسن- التي تعكس نموذجاً للذات الأنثوية التي تتقاطع مع جدلية الحب والجسد والوطن.
تبدو غادة شخصية سردية معقدة، ضمن بناء ناضج لتكوين الوعي الفني، حيث نعاين غادة في أزمتها الأنثوية، وما ينسحب على حيوات أخرى تحاذيها، ومنها شخصيتا فدوى وسوسن، في نهمهما للحب والارتباط بالجسد، أو بمعنى آخر الارتباط بمكون مُضمر أو نموذج يحيل إلى القوة، ولاسيما عبر تفعيل جدلية السلطة، حيث يبدو (رشاد) – عشيق غادة- بديلاً للرخاوة التي يعادلها بشكل معكوس شخصية زوجها، الذي يتغير ولاؤه السياسي ضمن التنظيم السياسي، ولاسيما حين ينزل صورة إحدى القيادات اليسارية عن الحائط مع أفول نفوذ القوى التي يمثلها هذا القائد، نتيجة الصراع القائم في البيت الواحد، وهنا نلمح إشارة إلى هشاشة التنظيم، أو المنظور الذي يحكم العملية، فلا جرم أن نتمكن من تبرير بحث غادة عن بديل من خارج النمط النخبوي الذي يمثله زوجها، الذي يتميز بنفاق ظاهر، مع بروز علاقات أخرى مع شخصيات تنتمي لقيادات من لدن باقي الشخصيات النسوية.
تنطلق هذه الحيوات في سلوكها من مبدأ التعويض أو الاستبدال، كما تجسدها سائر الشخصيات النسوية، وعلاقاتها مع الرجل الذي يتموضع في مواقع متعددة بين الذاتي والسياسي.
قد يبدو هذا المشهد كناية عن نقد عميق للتنظيمات السياسية، ومن هنا ينبغي أن نبرر تكرار فكرة الخيانة، التي لا تقرأ في سياق جسدي وحسب، إنما هي تضرب عميقاً في الوعي المأزوم، وما يمثله في الوعيين: الثقافي والسياسي، حيث تختار غادة عشيقا يعبر حياتها من الكويت إلى الأردن، وقبل ذلك كان هنالك سلسلة من العلاقات العابرة، غير أن يميز هذا العشيق – الذي يعمل ميكانيكاً – تكوينه الذي يحيل إلى رغبة غادة بالاحتماء ضمن سياق وجود قوي، إنه إحالة إلى جسد فتي، يلبي ما يعتمل في داخلها من خواء، أو فراغ، أو نهم… إنه جزء من التعويض الذي لا يقرأ على المستوى المادي إنما ضمن السياق المعنوي، فرشاد ينتمي إلى دائرة مغايرة، بمعنى أنه خارج النخبة، أو البورجوازية الفلسطينية الفارغة، ومن هنا نقرأ رحلته من الكويت إلى عمان، وما تعرض له من تحقيق عند وصوله إلى عمان، كل ذلك من أجل أن يؤطره في تمثيل قد يبدو تجسيداً للتعالي المفقود: «لم أختر رجلا تقليدياً، قالت كمن يسدد ضربة في حلبة الملاكمة، هو الرجل البحر، الذي عجزت عن ولادته المجتمعات الذكورية، تجاهلت تدخل ريما، الواثق من رجولته إلى الحد الذي يبقيني أمامه، ملأت رئتيها بالهواء، لديه قوة الماء».
وهكذا تنطلق هذه الحيوات في سلوكها من مبدأ التعويض أو الاستبدال، كما تجسدها سائر الشخصيات النسوية، وعلاقاتها مع الرجل الذي يتموضع في مواقع متعددة بين الذاتي والسياسي.. إنها إحالة إلى أزمة تقرأ في وضع استعاري، حيث تلقي الرواية الكثير من الظلال على تاريخ الفصائل الفلسطينية، وبعض الحركات، ولاسيما اليسارية، كما يلاحظ بأن الكثير من الشخصيات تُستدعى من الواقع كي تؤدي وظيفة سردية ضمن فاعلية تأطير الحدث والتاريخ، ومنها شخصيات يعقوب زيادين، وناجي علوش، وعلي حسن سلامة، وغيرهم.
يلاحظ أن الرواية لا تضطر إلى الكثير من التنظير، أو تحميل الرؤية الخطابية للشخصيات في تأملها، وإنما تبقى مرهونة لفاعلية الرصد بغية تكوين ذلك القلق في وعي القارئ الذي ينتقل بصورة لا واعية عبر وظيفة العدوى.
خصوصية النمط السردي
تبدو الرواية عالقة في بنية المكان، بالتّوازي مع بروز نمط التكرار، ومن ذلك الإكثار من ذكر أسماء الشوارع، والبنايات، سواء أكانت في بيروت أم عمان أم الكويت، وهنا يبرز دور الراوي العليم، الذي يتملك تقنية التبئير بغية عكس رؤية واسعة تعمق الصورة المشهدية مع بعض الإغراق في التفاصيل، وكأن الشخصيات تحاول أن تبني علاقة مع المكان الذي شكل ماهيتها، وذاكرتها، وهنا تتحدد إحدى وظائف الراوي، وتنهض على بناء حساسية آنية مع الفعل السردي، لكن مع تراجع واضح للسرد المتأمل أو الحامل للكثير من الجوانب التنظيرية، مع التركيز على تجنب إشهار الأيديولوجية، وهكذا تبدو فلسطين حاضرة من بعيد، فتبدو الحكايات التي نلتمسها في تتبع مغامرات غادة في الكويت وعمان وبيروت، جزءاً من ماهية الفلسطيني الذي يبحث عن خلاصه ضمن أمكنة تضطرب تحته، وهذا يأتي نتيجة توقعه المستمر بالاستلاب، ومن هنا، يُقرأ وعي الشخصيات، وصراعها ضمن دائرة نقد منظومات الخطاب الفلسطيني على مستوى الوحدات السياسية، وانعدام قدرتها على بناء منظومة من الوعي الحقيقي.
يمكن أن نحيل على مقولة بأن هذه الرواية دائمة الانتقال في تكوين السرد، حيث التداعي والتناوب والقفز والقطع يجعل من التلقي فعلاً عسيراً، وفي بعض الأحيان يبدد متعة القراءة، ولا سيما محاولة القارئ بناء النموذج المتبع في خلق ذلك الانسجام بين المتلقي والشخصية على مستوى الامتلاء، حيث يضطر القارئ في كل جزء إلى محاولة استعادة الخطوط من جديد، وهذا يعود إلى طبيعة اللغة التي تعلق بشكل جلي في إيقاع التتابع نتيجة هيمنة الجمل الفعلية مع سقوط الروابط، وكأن السرد يتقصد رصد حركة الشخصيات، والإغراق في بناء مشهدية ما، حيث تتبدى اللزوجة جزءاً من مناخات السرد، نظراً لأن الشخصيات تواجه هوة سحيقة تعكس الكثير من الحيرة والنكوص والتشظي.
يلاحظ أن الرواية لا تضطر إلى الكثير من التنظير، أو تحميل الرؤية الخطابية للشخصيات في تأملها، وإنما تبقى مرهونة لفاعلية الرصد بغية تكوين ذلك القلق في وعي القارئ الذي ينتقل بصورة لا واعية عبر وظيفة العدوى، وهنا يبدو القلق جزءاً من هوية الرواية على مستوى اضطراب الشخصيات، وتحركها في الحيز، حيث تسلخ الرواية جزءاً كبيراً من متنها من أجل الارتكان إلى هذا الدافع الوظيفي الذي ربما يحيف على القيمة الجمالية، وكأن جدلية المقصد تتحدد في تموضع الشخصية، وتتبع حركتها، وسكناتها في تلك الأحياز التي تطل علينا، ومن ثم نتأمل حركة الشخصية، وتتبعها في قيامها، وجلوسها، أو تناولها لفنجان القهوة أو كأس البيرة ضمن رؤية دلالية تؤطر وجودها السردي، ومبرراته، ومن ذلك أيضاً تعليقها على حضور كيان آخر، أو حملها على الآخرين، ما يدفع إلى بعض الإرهاق على مستوى التلقي، ويمكن تعليل ذلك بالرغبة في بناء مقصدية لا تضطر للكثير من التوضيح، لكن هذا النوع من الأعمال قد يثير المزاج، ويدفعه للتحفز، أو البحث، وفي بعض الأحيان قد يثير التبرم حين يعلق القارئ في فخ أزمة الشخصيات، ومتاهة الجغرافيات، والانتقال المفاجئ على مستوى الأحداث، مع محاولة ضبط الخطوط السردية، ومساراتها، وكل هذا يستهدف تحديد المواقف والأسئلة الأخلاقية التي ينطوي عليها العمل، والأهم كيف نرى العالم في قطاع زمني أو مكاني، أو في الارتحال الذي انتهك فاعلية الاستقرار، حيث يضطر الفلسطيني لأن يتبنى وهم التعلق بوطن، والتنقل بين الأوطان، حيث يحتاج (الفلسطيني) أن يرمم ذاكرته من جديد مع كل ارتحال.. وفي كل الأحوال هو يرتهن للطارئ، لذلك العبور، أو التوقف في الممر في انتظار العودة الحقيقية للوطن، لكن تبقى الإشكالية عالقة في نقد الممارسة النضالية، ومحاولة اكتناه التاريخ، بما في ذلك الذوات التي سكنت هذا التاريخ.
كاتب أردني فلسطيني