يرتاد المحكي الروائي في «بلاد القائد» مناطق ملغومة في الذات الإنسانية، مقتربا ما أمكن من علاقة ملتبسة قلما طرقها الروائيون، لخطورتها، ووعورة الخوض فيها عربيا، وهي علاقة الفرد العربي بالسلطة؛ خاصة في مرحلة ما قبل أحداث «الرّبيع العربيّ»، ومسلطا الضوء بحرفية عالية، على اللحظات ما قبل الأخيرة لسقوط الطاغية، وانهيار حكم ديكتاتوري عمّر عقودا من الزمن، مفككا، بوعي سيكولوجي وسوسيولوجي عال، الأساطير المؤسسة للديكتاتورية، وأنظمتها القائمة على الوهم والزيف والخداع والتخويف والقهر، متخذا من بلاد عراسوبيا العظمى، وديكتاتورها معمر الدنيا والدين نموذجين للتمثيل الرمزي، الذي لا يتقصد التأشير على حالة معينة، بل يروم تفتيت بنية مشتركة، ونسق متواتر من الأوهام، والأمراض، والعقد النفسية المعمرة والمتكلسة داخل مجتمعات تقليدية هشة، ساقها من ابتليت بهم من الطواغيت إلى هاوية سحيقة من التخلف، والتعفن، والانتثار…
1. الكتابة والسلطة:
تندرج «بلاد القائد» ضمن صنف روائي يسمى، في الأدبيات النقدية ما بعد الحداثية، رواية الديكتاتور (Novela del dictador)، وهو أحد الأنواع الروائية التي ظهرت في أمريكا اللاتينية، ليبرز صورة الشخصيات الديكتاتورية في المجتمع الأمريكي اللاتيني، عبر استخدام أسلوب «الكوادييسمو»، أو شخصية الرجل السياسي القائد. ويسلط هذا النوع الروائي الضوء على العلاقة الملتبسة القائمة بين السلطة والديكتاتورية والكتابة. وعادة ما ركزت رواية الديكتاتور على تشخيص رمزية الوظيفة التي يلعبها الكاتب في المجتمع الأمريكي اللاتيني خلال فترة الستينيات والسبعينيات.
تتصدى رواية «بلاد القائد» لثنائية ضدية عريقة، تكاد تحضر في كل العصور، وهي علاقة المثقف بالحاكم، ومنه علاقة الكتابة بالسلطة، وإن كانت هذه العلاقة تتميز دوما بالصراع المرير، فإنها أحيانا، تعرف بعض الفتور، حينما تغلب المصالح، وتسود البراغماتية، إذ إن كلا من رجل السلطة، مهما علا مقامه، يظل في حاجة ماسة إلى جوار المثقف، ومدعو إلى استدراجه ليقف في جانبه بأي السبل، طوعا أو كرها، كما أن المثقف، أو الكاتب، أو الشاعر، يتوق إلى مزاحمة رجل السلطة وجاهته، من خلال سلطة الحرف والكلمة التي تصير مقابلا ناريا لسلطة المال والجاه والنفوذ.
في الرواية تتوطد علاقة كاتب (من نوع ما)، ولو أنه لم يكن أبدا مهادنا للسلطة، ولا راغبا في التقرب منها لاعتبارات شخصية وقناعات ذاتية، لكن الظروف الصعبة التي عاشها في الآونة الأخيرة، وضيق ذات اليد التي عانى منها؛ خاصة لما أصاب داء السرطان اللعين زوجته سماح، واستنفدت الأدوية والعلاجات زاد مدخراته، فلم يستطع رفض العرض الذي قدمه له صديق الكاتب الملازم للسيد القائد، والذي سبق أن ساهم، غير ما مرة، في كتابة بعض الأعمال المنسوبة للطاغية. يقول الراوي: (لقد سقطت، وعليّ أن أعترف بأنني صرت لا شيء، كما السلطة التي كنت أنظر إليها دائما باعتبارها لا شيء). يقبل الكاتب تلك المغامرة مضطرا، ظنا منه أنها ستكون مفتاح أزمته المالية، ومنفرج ضائقة زوجته الصحية، لينضم إلى فريق الكتاب الذين سيساهمون في تحرير سيرة القائد، كما يشتهيها هو، لا كما يراه من سيعكفون على كتابتها، ومن ثمة يصادر منهم روح تفكيرهم وتخيلهم، ويفرض عليهم ميولاته المضطربة، وأوهامه المرضية، فيسقط في أيديهم، ليندم الكاتب، في نهابة المطاف، على الدخول في تلك المتاهة الجهنمية التي أفقدته شخصيته، وصادرت منه حريته بوصفه مبدعا، له استقلاليته، غير أنه لم يكن أمامه سوى الإذعان والتنفيذ، تحاشيا لغضب القائد وعقابه. وهنا يبدو عالم الاجتماعي الأمريكي «روبرت دال» أكثر واقعية حينما يقول: «سواء شئنا أو لم نشأ فلا يوجد أحد قادرًا على أن ينأى بنفسه عن الوقوع في دائرة من دوائر التأثير لنظام سياسي ما، فالسياسة هي حقيقة من حقائق الوجود الإنساني التي لا يمكن تجنبها» .
تعكس الرواية تمكن السلطة من الكتابة، وتسخيرها في إشباع رغباتها المجنونة، لفائدة القائد، القابض على البلاد والعباد، وجعلها مجرد أداة طيعة لتمرير خطابات شخصية واهية، لا علاقة لها بمصالح البلد العليا، ولا تخدم قضايا الإنسان، بل تعرض لسيرة طاغية جننته عظمته الواهية، فراح يشتق له صفات، ويبتكر له خصوصيات، وينسب إلى نفسه أعمالا لا عهد لحاكم، قبله ولا بعده، بها، وهنا تنبثق ماهية السلطة بكونها قدرة مضاعفة للأشخاص والمؤسسات على مراقبة سلوك الآخرين وحياتهم اليومية، واستدراجا إلى صفها، ما ينتج عنه تماثل في العلاقات حسب تصور فاولر. يقول الراوي على لسان الشخصية الرئيسة: (هل يمكن أن أصبح مقربا لرجل سلطة على هذا النحو، وأنا الذي حرصت طوال عمري على أن أبقى بعيدا عن ما كنت أسميه الوباء. لقد صرت جزءا من الوباء، بل الوباء نفسه. ألم أقم بصياغة عبارة تعظيم وتقديس، غير مسبوقة، لرئيس بلد، يعده معظم العالم ديكتاتورا حقيرا؟ لقد صرت أنا الحقير، وليس هو، أنا الروائي المثقف المناهض لأشكال التسلط كلها، ولكن، ماذا ينفع التحسر؟).
لم يكن هناك صراع بين المقومين على مستوى النص، كانت السلطة المبالغ فيها للقائد تسيطر على ما دونها، وتكتم الأنفاس بقبضة من حديد، عدا أصوات خافتة تأتي من الخارج، أو ممن يتسترون على رفضهم لسياسة القائد في تدبير الشأن العام، ولا ينطقون بها إلا في حضرة الكاتب، أو ممن يثقون فيهم. كانت الكتابة سلبية في المحكي، ولم تسهم بدورها في الرفض، كما هو معهود فيها، إذ اصطفّت على جانب الطغيان، وأفرغت من فحواها القيميّ، وكأن الرواية تشرّح الوضع الاعتباريّ للكاتب في المجتمعات العربية، وانجراره إلى المتاهة التي نصبتها له السلطة، ليطير تابعا لا فاعلا، ومهمشا لا محوريا، وحاشية بدل أن يكون هو ملهم الجماهير ومنورها، وقائدها إلى التّحرّر والانعتاق، وإهباء عمره في إشباع هرطقات القائد، وزند أوهام رجل السّلطة، مقابل عطايا، وهدايا، وهبات مسمُومة، ستكشف الرّواية في الأخير، زيفها وتفاهتها: فالمال الذي حصله الكتاب بالعملة المحلية، لا يمكن صرفه، في تلك التحولات العصيبة، والسيرة المجنونة لقائد يتوهم عظمة غير متجسّدة إلّا في خيالاته الشّوهاء، لم يتهيأ لها الوقوف على رجليها.
كان نص «بلاد القائد» قويا على مستوى إيجازه البليغ، وعلى مستوى طرحه الفكري، فكان من الطبعيّ أن ينعكس ذلك، على باقي مقومات السردية الروائية فيه، من زمان، ومكان، وشخوص، وحوار، ولغة.
تنتقد الرواية ضمنيا، تخاذل الكتاب، والطبقة المثقفة عموما، وعدم قيامها بوظيفتها التاريخية، وتحملها مسؤوليتها الجسيمة في معارضة الظلم والطغيان، والقبول بوضع مسموم، نزولا عند الرغبة في المال أو التزلف من الحاكم أو نيل مناصب وعطايا لا تغني من مذلة، خاصة بعد وقوع زلزال الربيع العربي، وانقشاع غيمة الواقع المزيف للسلطة، وفضح الموقع الحقيقي الوضيع الذي يحتله المثقفون ومنه بعض الكتاب المفلسين، الذين باعوا أنفسهم بمقابل مادي حقير، وخسروا مكانتهم الرمزية، واعتباريتهم داخل المجتمع والحضاري. يقول الراوي/ الشخصية مؤنبا ذاته: (أليس ما أعمله، ولو في التفكير، خيانة لنفسي؟ أم أن نفسي السابقة لم تعد تعنيني، نفسي التي اكتسبت المجد والشهرة، ولكنها لم تعد تغادر جدران الفقر…).
2. ترميز اللغة والواقع:
لم يقصد العالم الروائي تحديد طاغية بعينه، وإن كان هنا النموذج المتحدث عنه واضحا من خلال الإيحاءات التي تومئ إليها المشيرات النصية، ويتعلق الأمر بالعقيد المقبور معمر القذافي رئيس الجمهورية الليبية العظمى سابقا، بل كانت غايته التفكيك السردي لسيكولوجية الهيمنة، وسيكولوجية الإذعان، مستعينا بخبرة واعية، ومَفْهمة سوسيولوجيّة لمنظومة القهر والاستبداد، وكيفية اشتغالها تدريجيا، للوصول إلى السيطرة المطلقة، والتمكن المريع من رقاب الناس وأرواحهم، وإعادة بناء العلاقة بين النظامين الرمزيين: نظام التمكن الذي تقوده أشكال (السلطة)، ونظام الإذعان الذي تجسده ثنائية (الثقافة أو الكتابة)، باعتبارها ثنائية عريقة لتمثيل المقاومة، والتمرد على أشكال البغي، والرداءة، والهيمنة.
ومن بين الأدوات الفنية التي استعان بها الروائي: مسألة ترميز المعالم النصية، فلم يعتمد الأسماء المرجعية تحاشيا للمباشرة، ولجعل الدوال أكثر اتساعا مما ينبغي فهمه، سواء كانت أسماء مكانية (عراسوبيا)، أو أسماء أشخاص (معمر الدين، أبو اليمن، الأحمد، الشيماء، المعتز، سحر الحالمة بموت الرئيس…) بدون إغفال اعتماد منطق السخرية السوداء التي ليس القصد منها التحقير والاستهزاء، ولكن الغرض التداولي منها، تقليص ثقل الفاجعة، وإبرازها في الحجم اللائق بها تصوّريا، لأنّ كثيراً من العادات، والممارسات الاجتماعية والسياسية الكارثية يراها المجتمع، بالحكم التعود، شيئا بدهيا، ومسلما به، وفي الواقع هو غير لائق أخلاقيا، ولا يجوز تقبله منطقيا، علما بأن المحكي في أي قضية التشخيص المفرط للأحاسيس، وجعلها من أولويات السرد، تجسيرا للوقوف على الوضعيات النفسية الدقيقة في مرحلة زمنية مفصلية، تصل ما قبل الربيع بما بعده، مرورا بحرب الإبادة التي شنت على شعب أعزل لمصادرة صوت الرفض الجمعيّ، الذي جهر به المواطنون تلقائيا، لإحساسهم بالغبن، والفجيعة، والخيبات المتلاحقة. مورفولوجيا، اعتمد الروائيّ تصميما هندسيا يرتهن إلى العقود والفصوص، استلهاما لروح كتاب «العقد الفريد»: (فص المرجو، فص المبجل، فص الاكتمال، فص القذى، وهي المنهجية التي عنّت له، وهو يفكر في أسلوب عبقريّ لكتابة سيرة القائد المبجّل التي لم تكتمل، وأجهضت، وهي في فصوصها الأخيرة، غير أنّ الروائيّ استهوته فكرة استكمال فصولها الأخيرة، وهو في حلّ من التحكم المتغطرس للقائد، وتدخل حاشيته من الكتاب والمستشارين المقربين.
كما أنّ الروائيّ اجتهد، بشكل لافت، لجعل متلقيه في قلب «الجحيم»، من أجل استشعار القبضة الكابوسية للجبروت المتغطرس، والطغيان الفادح للسلطة، متمثلة في شخصية القائد المنفوخ بالأوهام والواهمين، من قبيل إبراز المشاعر المضمرة كرها، والأغاني المتكرّرة التي يتسلّى بها المخنوقون في «جحيم القائد»، وبلاده. فضلا عن الكليشيهات المترددة، والعبث الفائض عن المنطق، وقلب المفاهيم، ولخبطة الفكر والعقل، وإقحام شخصيات مشدودة في وحل التخلف والجهل، ومقيدة في الوحل، وحتى حينما، أقبر الطاغية، ظلت تلك الكوابيس تطاردها بالخواء، والجنون، والحيرة، في زمن مفصلي، لا يتحمل التشتت، وهدر الوقت، وتفويت الفرص.
لقد كان نص «بلاد القائد» قويا على مستوى إيجازه البليغ، وعلى مستوى طرحه الفكري، فكان من الطبعيّ أن ينعكس ذلك، على باقي مقومات السردية الروائية فيه، من زمان، ومكان، وشخوص، وحوار، ولغة… ما جعل هذا النّص، الأشبه بنوفيلا، فضاء مكدسا بالصور، محتدم الأسئلة، متصارع الرّؤى، مجتلبا بالمد والجزر، وكأنما يحرص على رصد سينمائي مشهديّ لعلاقة ملتبسة بين الذات المثقفة والسّلطة، وما يحوم حولهما من غشاوة، ودوكسا، وغبار… مما يحد الرؤية، ويعرقل السير، ويخنق المبادرات، ويجعل المجتمعات ترتد إلى تخلفها، وتعضد على نكساتها راغبة أو مضطرة. وعلى الرغم من كون بعد المسافة الزمنية الفاصلة بين زمن الكتابة وزمن الأحداث (مرحلة القائد الجبّار) صارت بعيدة نسبيا، غير أن آثارها على الشخصيات ظلت هي نفسها، وكأن كل شيء لم يبارح مكانه، أو كأن الشخصيات لم تصدق ما حدث من تحولات فعلية، فصارت ترتد إلى الماضي تلوك خيبتها، بدل أن تفكر في نفض غبار الماضي الأليم، ما يعني أن الغطرسة صارت نسقا فكريا له جذور، وبات جزءا من ثقافة لها أركان وثوابت يستحيل التخلص منها بين عشية وضحاها بتغيير الأشخاص، أو الأسماء، أو المفردات.
٭ روائي وناقد من المغرب