رواية تاريخية أم تاريخ روائي؟

حجم الخط
2

من المعلوم أن التاريخ والرواية صنفان مختلفان، فالرواية فن والتاريخ علم. الرواية فن، وإن استفادت من العلوم الأخرى، وأدمجتها في بنيتها فأنتجت أصنافاً مختلفة مثل، رواية الخيال العلمي، التي استفادت من التقدم العلمي منذ القرن التاسع عشر، فأنتجت رواية اعتمدت على هذا التقدم ثم أطلق الفنان «الروائي» العنان لخياله فوصل، أحياناً، إلى أماكن لم يكن قد وصلها العلم بعد، كأغلب أعمال جول فيرن، التي ربما كانت هي من أطلق العنان لخيال علماء المخابر، فجعلتهم يرتادون دروباً لم يفكروا بها من قبل، فكانت سابقة غير معروفة من قبل «سنونو صنعت ربيعاً».
وفي احتمال آخر أكثر شيوعاً اتجهت الرواية إلى التاريخ تغرف منه، تسجله، تحلله، أو تعطي احتمالات بديلة، فأطلق عليها اسم «رواية تاريخية»، يغرف الروائي من التاريخ بدون أن يكون ملزماً بالتقيد الحرفي به، بل يطلق العنان لخياله، فيضيف شخصيات ويحذف أخرى، وقد يلعب لعبة التكبير والتصغير، فيعطي دور البطولة لشخصية هامشية، وبالعكس يمكن أن يهمش من عُرف تاريخياً بدور رئيسي. لا يخضع الروائي لمساءلة علمية فهو يتقمص دور المؤرخ، كاتب التاريخ، بدون أن يكون ملزماً بالضوابط العلمية. هو يختبئ خلف شخصياته، ويطلق العنان لخياله فيعدل بأحداث التاريخ إضافة أو حذفاً، وقد يخلق شخصيات من العدم ليعطيها دوراً ثانوياً أو أساسياً. وإذا سُئل عن ذلك كان جوابه، وهذا من حقه، أنا روائي لا أكتب تاريخاً. ويباح للروائي ما لا يباح لغيره. فلم يكن لأحد أن يُكذّب جول فيرن بالقول: لا توجد وسيلة نقل تتيح لك الدوران حول العالم في ثمانين يوماً. أو لا توجد مركبة تنقلك من الأرض للقمر.. كان ذلك في القرن التاسع عشر..

يباح للروائي ما لا يباح للمؤرخ

لكن ماذا يحدث في الاحتمال المعاكس، أي أن يتقمص المؤرخ دور الروائي فيتبنى أساليب روائية أثناء كتابة التاريخ؟ فكرت بإجابة على هذا السؤال منذ قرأت كتاب جمال باروت الموسوعي عن الجزيرة السورية «التكون التاريخي الحديث للجزيرة السورية»، وأيضاً بعد كتاب حنا بطاطو عن سوريا «فلاحو سوريا: سليلو الوجهاء القرويين الأقل شأنا وسياستهم».
المؤرخ هو العالم الذي يدرس ويدون التاريخ، ويُعتبر مرجعاً في هذا العلم. وكتابة التاريخ مهنة معروفة في كل بلدان العالم وعبر العصور، وهي كأي مهنة لها شروط وأدوات ومراكز بحثية. كما أنها لا تعني فقط مجرد تسجيل الأحداث التاريخية أو تسجيل تاريخ الأفراد والجماعات إنما تشمل تحليل الأحداث ومحاولة سبر أغوارها، والوصول إلى استنتاجات في سياق محاولة استنباط قانون عام للتاريخ البشري. هي مهنة تجمع بين التسجيل والتحليل والتفسير، وصولاً لمحاولة استنباط قانون عام يفسر الماضي بشكل أفضل، ويساعد على حل مشاكل الحاضر، وأيضاً امتلاك أدوات تتيح التنبؤ بالمستقبل لتعزيز منافعه وتلافي الكوارث. رغم أن كثيراً من غير المختصين تسربوا إلى كتابة التاريخ، مثلاً عبر كتابة اليوميات أو المذكرات، أو عبر العمود والمقالة الصحافية، التي تتناول حدثاً أو حادثة تاريخية، ويكتبها هواة أو صحافيون أو كتّاب رأي. رغم ذلك تبقى المعايير العلمية مطبقة على الهواة، كما على المحترفين. فتُستخدم أدوات علمية لدراسة عمل غير المختصين أيضاً. يُدرس تقاطع الروايات والأحداث، وتدقق التواريخ، وبعد دراسة علمية دقيقة تصنف قيمة مذكرات أو يوميات سياسي ما، فإما ترفع إلى مكان سام أو تعد لا قيمة لها أو بين المنزلتين.
نحن في هذه الحال أمام علم يمتلك أدواته التي تنخل الزؤان من القمح. أما الرواية التاريخية فلا تخضع للأدوات نفسها، إنما تحاسب بأدوات فنية مثل مدى انسجام الشخصية الروائية مع نفسها، ومدى منطقيتها. وهل نجح الروائي في تجسيدها؟ وهل امتلكت حريتها أم أن الروائي استعملها كوعاء لصب أفكاره؟ وهل كانت تقنيات السرد موفقة أم لا؟ وهل انسجم الشكل مع المضمون؟ إلى آخر ما هنالك من معايير فنية يمتلكها نقاد الفن الروائي.

المؤرخ هو العالم الذي يدرس ويدون التاريخ، ويُعتبر مرجعاً في هذا العلم. وكتابة التاريخ مهنة معروفة في كل بلدان العالم وعبر العصور، وهي كأي مهنة لها شروط وأدوات ومراكز بحثية.

تاريخ روائي

نلاحظ في بعض الأماكن من الكتابين سابقي الذكر، كتاب باروت وكتاب حنا بطاطو، أن كلاهما استعار تقنية من تقنيات العمل الروائي هي تعدد الأصوات، وهو أسلوب روائي تتقدم به الشخصية الروائية لتقدم روايتها الكاملة للحياة والتاريخ، وتعبر عن رؤيتها للكون بحرية كاملة، حتى إن كان مناقضا لمعتقدات الروائي، الذي يدير الأحداث من الخلف، بدون أن يظهر بشكل واضح، لكن بدون أن يفلت زمام الشخصية منه. فإن حدث أحد الأمرين اعتبر ذلك عيباً خطيراً في الرواية، وانتقص من قيمتها فنيا. كي لا نبقى نتحدث في المجردات سنضرب أمثلة. المثال الأول هو من كتاب باروت. خلال دراسته للحركة السياسية في الجزيرة السورية، يعطي باروت الفرصة ليعقوب كرو القيادي في الحزب الشيوعي الرسمي (جناح يوسف فيصل) لكتابة تاريخ حزبه في الجزيرة، فنقع في صفحات الكتاب على ما يشبه منشورا ترويجيا لهذا الحزب أو نشرة داخلية، يغيب عنها الحس النقدي، ويلتزم باروت الصمت فلا يعلق على هذه الرواية ولو بحرف. يكتب كرو أن حزبه كان يضم في عهد الانتداب «عدة مئات من الأكراد والأرمن والعرب (الرقم مبالغ به) وكان معظم الأخيرين من السريان الأرثوذوكس (هنا يعتبر السريان عرباً) وقد استوعب الحزب الفئات الديناميكية من أبناء الجزيرة الأوائل، الذين دفعتهم ظروف الفقر إلى التطوع في الجيش الفرنسي في الجزيرة (على الأغلب يقصد الوحدات الخاصة بالشرق، وهي وحدات عسكرية أشبه بالمرتزقة، أو الحركيين في الجزائر، شكّلها الفرنسيون لقمع الثورات في سوريا أثناء فترة الانتداب ). وشكلت حارة العسكرية ومثالها في مدن الجزيرة خزاناً كبيراً لعضويته النشيطة. خلافاً لجيل الآباء الذين اضطروا للاعتماد على التطوع في الفوجين الكلدو ـ أشوريين في الجزيرة كمصدر لدخلهم، فإن أبناءهم الذين غدوا متعلمين اندمجوا في الحركة الوطنية والاجتماعية السورية العامة، عبر بوابة الحزب وشكلت المنظمة محور الاندماج الوطني الاجتماعي للعرب والسريان (هنا عاد لاعتبار السريان والعرب قوميتين منفصلتين) والأرمن والأكراد على قاعدة الوطنية السورية».
يمر هذا الكلام المليء بالأخطاء الفاقعة والتوظيف الخاطئ للأحداث، التي أشرنا لبعضها بما كتبناه بين الأقواس، بدون أي إشارة من باروت، رغم أن ما ورد يدعم فكرته عن أن الجزيرة السورية كانت مسرحاً لأحد أكبر وأخطر العملــــيات الإثنــية وسياسات الهوية الفرنسية، في محاولة تشكيل كيان كلدوـ أشوري ـ كردي ـ بدوي فيها منــــذ الثلاثينيات، تحت الانتداب الفرنسي، والدليل التجنيد على قاعدة طائفية محددة، كما أننا يمكن أن نستنتج أن الحزب الشيوعي تحرك على قاعدة المشروع الفرنسي البشرية نفسها. ترك باروت يعقوب كرو يتقدم ويلقي كلامه على الجمهور على شكل رسالة أرسلها للمؤلف، بدون أن يحلل أو يناقش ما قاله، ولو كان يكتب رواية لقيل في انتقاده فنياً، إن الشخصية قد هربت من بين يديه.
أما المثال الثاني فهو من كتاب بطاطو. أثناء قراءة الكتاب يمكن استشفاف الطريقة التي عمل بها بطاطو، مثلاً إحدى العائلات الكبرى في بصرى الشام هي آل المقداد، إذن فلنقابل شخصاً من آل المقداد، وليقدم لنا روايته لتاريخ بصرى الشام ولعائلاتها وصراعاتها. ولنقدمها بالكتاب على أنها رواية نهائية بدون أن ندرسها أو نحللها أو نقاطعها مع رواية أخرى. ولأن معلوماتي معدومة عن بصرى الشام فأنا لا أستطيع تحليل روايته. لكن لحسن الحظ أستطيع فعل ذلك في مكان آخر، كما في سهل الغاب. هنا يوكل بطاطو مهمة كتابة تاريخ سهل الغاب لحركة الاشتراكيين العرب، على اعتبار أن سهل الغاب كان معقلاً شبه مغلق للحزب، لذلك يلتقي بقيادي من هذا الحزب ليروي له تاريخ السهل. هذا القيادي يُنصب شخصية من الدرجة الثانية كأبرز قيادي فلاحي في الخمسينيات.
مع أن جميع سكان الغاب يعرفون اسم القيادي الأبرز الذي مات مقتولاً، ومن يليه من أسماء وازنة كبيرة تجاوزها القيادي إلى شخص من الصفوف المتوسطة لسببين، أولهما أنه لم يمت لذلك بقي في ذاكرة القيادي الهرمة، والسبب الأهم أنه لم يغادر حركة الاشتراكيين العرب في الانشقاقات اللاحقة، فحاز رضى القيادي. في هذه الحالة كان على المؤرخ أن يدقق الرواية ويقاطعها برواية أخرى من موقع آخر، لكن بطاطو، كما باروت، يعتبر هذه الرواية نهائية فيثبتها وينتقل لغيرها. وهكذا دواليك. وبهذه الطريقة يتحول المؤرخ إلى شيء أشبه بلوح ويكبيديا، كل شخص يكتب عليه ما يريد بدون قيود أو تدقيق أو مراجعة.. هنا تبدو الأمور وكأننا أمام «رواية تاريخية» رديئة نام مؤلفها وبقيت شخوصها تسرح وتمرح كما يحلو لها بدون ضوابط وبدون الالتزام بالأرض التي وضعها عليها مبدعها.

٭ كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول [email protected]:

    مرحبا ..شكرا …استمتعت بقراءة هذا المقال فوجب الشكر ..عزالدين من تطوان

  2. يقول عزالدين:

    مرحبا ..شكرا …استمتعت بقراءة هذا المقال فوجب الشكر ..عزالدين من تطوان

إشترك في قائمتنا البريدية