رواية «تراب سخون»: «الماجدة» وسيلة بورقيبة في الواجهة

حجم الخط
0

يحسب لهذه الرواية التفاتها إلى شخصية سياسية مثيرة في تونس المعاصرة، روجت حولها أخبار وحكايات كثيرة لكن تجاوزتها الأحداث ولفّها النسيان ولم يسمع صوتها بعد الخروج من السلطة. ولعلها ظلت طرفا يقحمه المخيال الشعبي في المشهد السياسي لتلك الفترة. إنها الماجدة وسيلة بورقيبة، مثلما ظل الإعلام الرسمي في تونس يصفها عقودا، كانت فيها في الواجهة السياسية، وبرزت كفاعل رئيسي في المشهد، يروج أنها تعزل وتعين وتتحكم في الزعيم ووزرائه. هكذا ظلّت الماجدة، أو سيدة تونس الأولى حتى طلاقها من طرف الزعيم ونهاية الحقبة البورقيبية. وتضاءل الحديث عنها في العقود الأخيرة وظلت شخصيتها مسكوتا عنها وبعيدة عن النبش، لكن أميرة غنيم اقتحمت هذا الصمت وأعادتها إلى الواجهة على طريقتها.

طعم التاريخ أو طعم الزمن البورقيبي

ليست الرواية عملا مرجعيا، لكنها تخييل، فلا يمكن للروائي أن يستعيد تفاصيل التاريخ ولا جدوى من محاكاة ما كان. فتلك مهمة أجناس مرجعية، مثل علم التاريخ. فليس ثمة من التاريخ في العمل الروائي غير نكهة ترافق السرد وليست تفاصيل الرواية ذات الطعم التاريخي قابله للتصديق أو التكذيب، فهي كتابة مشحونة بالتصور الذاتي والأيديولوجي للكاتب وتوقعاته. قد تكون الشخصيات ذات وجود تاريخي، أو ذات شبه مع ما كان وقد تكون بعض الأحداث الكبرى حصلت لكن الرواية ليست وثيقة. على هذا الأساس تبدو رواية أميرة غنيم مشبعة بطعم التاريخ. وسيلة، الزعيم، بن علي، السابع من نوفمبر/تشرين الثاني، وأحداث أخرى. فهي تتسلل إلى عوالم القصر البورقيبي المثير، وإلى شخصية بورقيبة الداخلية وإلى حياته مع وسيلة وإلى سنواته بعد العزل، من خارج الوثيقة المرجعية لا من أجل تقديم شهادة تاريخية، لكن لإنشاء عالم فني جمالي يمتزج كثيرا بالذاتي وبالتخيل الفردي ويلتقط أيضا مما تلهج به العامة ويتردد في المجتمع التونسي. لذلك فلا الماجدة في الرواية هي نفسها في الواقع وكذلك بورقيبة. فشخصيات الرواية مجرد شخصيات خيالية كتبت بملامح شخصيات تاريخية إنتاجا للوهم الروائي.

الماجدة متنكرة…

تتضمن الحكاية الرئيسية رحلة خيالية تقوم بها وسيلة، متنكرة انطلاقا من مقر إقامتها في العاصمة إلى مقر إقامة الزعيم بورقيبة في المنستير. فهي تتنكر وتتعرض لأحداث كثيرة حتى تصل وتقابل الزعيم بمساعدة ممرضته. وفي الأثناء تسرد الماجدة عبر تسجيلاتها بعض تفاصيل سنواتها مع الزعيم وتفاصيل السفرة الأخيرة إليه. هكذا تخرج وسيلة من عزلتها فجرا، مخترقة الحصار الأمني وتتجه لزيارة الزعيم في مقر إقامته بالمنستير، سنوات بعد الإطاحة به: «أمتطي للوصول إليه في ذلك الفجر الندي شاحنة نقل ريفي إلى جوار شيخ غريب تفوح من أنفاسه رائحة الكحول حاضنة بين ذراعي قفة من السعف كأن بها الدنيا وما فيها وعلى رأسي فولارة معقودة أسفل ذقني على الطريقة التونسية، وفي رجلي نعال نصف ممزق تطل منه أصابع قدمي من تحت جورب صوفي غليظ…».
وطبعا لسنا أمام وثيقة تاريخية، بل أمام سرد يحتمل التكذيب أو التصديق، لكن مثل هذه الكتابة ليست مجرد تسلية. فهي كتابة تضخ دلالاتها العميقة وتكشف عن مواقف مختلفة. هكذا هو تخييل التاريخ يبدو في النهاية موقفا منه. وعلى هذا الأساس تثير الرواية عدة صور، بل تعبر عن مواقف مختلفة.

الزعيم…

تتصدر هذه الصور التي تشكل الرواية صور الزعيم بورقيبة، ونحن هنا لا نتحدث عن تلك الصور الفوتوغرافية لكنها الصور الدلالية. صورة الزعيم العاشق وهو يتجرأ على وسيلة وهي متزوجة حتى طلقها زوجها وتزوجته. لكن هذه الصورة تهشمها صورة أخرى، فهي صوره المغرم بالنساء على غرار شخصية نجاة موظفة التجهيز، التي أغرم بها، وصورة العنيف أحيانا. فوسيلة تروي بعض عنفه معها.
« رفع بوجهي كفا مهددة لكني لم أمهله.
في الليل تستلقي في التابوت وفي النهار تتحرش بالنساء ثم تسرح بخيالاتك وتتنهد؟
ما كدت أنهي جملتي حتى رأيت الكوب يطير من يده ويسقط على شبرين من رجلي. لسع المشروب الساخن قدمي غطى على وخز شظايا البلور التي ستترك على جلدي نقاطا دامية».
وترسم الرواية أيضا صوره الزعيم المنشغل بالوطن. فحياته معها أثناء حكمه كلها متعلقة بالوطن وتفاصيله. وتظهر في هذا المجال صورة وسيلة القادمة بدورها من حركة التحرير الوطني، التي تشعر بخذلان بورقيبة لها وتخليه عنها بعد طلاقها التاريخي. لكن لوسيلة صورة سيئة عند العامة، فهي تبدو في قفص الاتهام تتحدث عنها بعض الشخصيات بسوء. تخاطبها المخبرة في دكان الحلاقة ساخرة وتتحدث عنها للحريفات: «إنها سرقت صياغة مرت الباي وعماته. في علمك بشكاير الفلوس اللي هربتها للخارج؟».
ويتحدث عنها الراكب السكير في الشاحنة:
«كانت عشيقته والعياذ بالله… فكها من رجلها المسكين بالقوة» ويضيف «سكنت معه بعد الاستقلال في المرسى من غير زواج. العشيقة والرئيس في قصر للا قمر زوجة الناصر باي».
وفي الرواية أيضا تلوح صورة العقيد معمر القذافي وعلاقته بالقصر. وتفاصيل تعامل نظام بن علي مع الزعيم بعد الإطاحة به، وهي تفاصيل غائبة عادة على التونسي. ونتابع أيضا صورة الجهاز الأمني زمن بن علي وتلك الصرامة الشديدة التي كانت تميزه، إلى جانب صور كثيرة من شأنها تشكيل العالم الدلالي للرواية وطرح أسئلتها وهواجسها.
يمكن ختاما أن نقول إن هذه الرواية شكلت مغامرة تخييلية مهمة، والرواية جريئة. وقد استطاعت الروائية شدنا عبر أسلوبها السردي القائم على التعدد الأجناسي، فهناك أسلوب الرسائل وأسلوب التسجيلات الصوتية، التي يتم تحويلها إلى الكتابة ما أنتج أيضا تعددا صوتيا في مستوى السرد، فالسرد في الرواية قائم على شيء من التناوب بين وسيلة والممرضة سعاد والصحافية جاكلين. وعلى كل فالحديث عن هذه الرواية يطول ويحتاج وقفات نقدية.

كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية